بينما يحيي المجتمع الدولي اليوم العالمي لمكافحة عمالة الأطفال شهر يونيو الجاري، فقد الطفل أحمد أيمن (11 عاماً) حياته أثناء العمل منذ نحو أسبوع. ولكي تكتمل المأساة، فقدت أمه حياتها أيضاً، حزناً عليه بعد أن وارت جثمانه الثرى بنحو الساعة، وعادت الأسرة لتدفنها إلى جواره.


القاهرة: خرج الطفلأحمد من قريته بالفيوم جنوب القاهرة، للعمل في مهنة النجارة، لمساعدة والده الذي يعمل سائقاً من أجل توفير تكاليف المعيشة، وشراء مستلزمات الدراسة، ولكن القدر لم يمهله للإحتفال ببدء العام الدراسي الجديد في شهر سبتمبر المقبل، حيث سقط الضغير أحمد من بناية مرتفعة بالقاهرة، أثناء تركيب شباك في أحد الشقق، ولفظ أنفاسه فور ارتطام جسده النحيل بالأرض، حيث أصيب بكسر في الجمجة، وكسور في العمود الفقري وعظام الصدر.

3.5 ملايين طفل

أحمد واحد من عدد يتراوح ما بين 2 و3.5 مليون طفل يعملون في مصر من أجل إعالة أسرهم، وتتعرض صحتهم وحياتهم للخطر يومياً، وفقاً لإحصائيات جمعيات رعاية الطفولة في مصر، فيما ينخفض الرقم إلى ما يتراوح بين 1.5 و2.5 مليون في الإحصائيات الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعئبة والإحصاء والمجلس القومي للطفولة والأمومة، وتتراوح سن الأطفال الذين يحترفون العمل، بسبب الفقر ما بين 3 و15 عاماً، و تتركز أغلبية أعمالهم في الأنشطة الحرفية، مثل ورش الميكانيكا وإصلاح السيارات، أعمال الزراعة، المصانع، مدابغ الجلود، أعمال جمع وفرز وتدوير القمامة، الخدمة في المنازل، ويقبل الأثرياء على الفتيات في العمل بهذه المهنة. ويتراوح الأجر الشهري للطفل ما بين 100 و400 جنيه، عادة ما يتقاضاه ولي أمره، سواء الأب أو الأم أو الأخ الأكبر، في حالة فقد الوالدين، وهو راتب هزيل جداً، مقارنة بساعات العمل التي تتراوح ما بين 6 و12 ساعة في اليوم.

83% من القرى

وتعتبر الدراسات التي تتناول تلك الظاهرة في مصر شحيحية جداً، مقارنة بحجمها الكارثي، وكانت أحدثها دراسة أجرتها وزراة القوي العاملة والهجرة نهاية العام 2010، وقدرت عدد عمالة الأطفال ب2.8 مليون طفل، 73% ذكور، و27% إناث، ويتركز 83% منهم في المناطق الريفية، بينما تتركز 17% الباقية في المناطق الشعبية والعشوائية في المدن، وتبلغ ذروة أزمة عمالة الأطفال في الإجازة الصيفية، وكشفت الدراسة أن أن نحو 47% من الأطفال يعملون بدون أجر لدي الأقارب أو في الورش الحرفية أثناء تلك الأجازة تحت مسمي quot;تعلم صنعة أو حرفةquot;، على أعتبار أن تعليم فنون الحرفة يساوي أموال سوف يحصدها الطفل عندما يكبر، ويصبح شاباً. وأضافت الدراسة أن هؤلاء الأطفال لا يتمتعون بأية حماية قانونية أثناء العمل، ويتهرب أصحاب الأعمال من تحمل المسؤولية تجاههم في حالة الإصابة بمرض نتيجة العمل.

الميكانيكي الصغير

أطالع أنا شخصياً وجوه هؤلاء الأطفال ذهاباً وإياباً، حيث أمر على منطقة أم المصريين بالجيزة، والتي تنتشر فيها ورش إصلاح الميكانيكا و الدوكوالسيارات، وأراهم بأجسادهم النحيلة، وهم منهكون من العمل أسفل السيارات، وجوهم تعلوها الأتربة والأوساخ، وملابسهم رثة، ورغم أنهم حرموا من ممارسة طفولتهم في اللعب بحرية، إلا أن quot;الأسطىquot; أو quot;المعلمquot; مالك الورشة لا يرحم تلك الطفولة البائسة، ويمارس عليهم المزيد من القهر، والعنف سواء البدني بالضرب أو الشتائم بألفاظ نابية.

محمد جمال quot;12 عاماًquot; أحد هؤلاء الأطفال يعمل في ورشة لخراطة مواتير السيارات بشارع أم المصريين المجاور لمستشفى يحمل الإسم ذاته، كان يمسك بورقة سنفرة ويمسح السيارة بجد وحماس، سألته عما إذا كان في الدراسة فأجاب أنه بالفعل في مدرسة إبتدائية في المنطقة نفسها، وخرج للعمل لمساعدة والده في توفير تكاليف المعيشة، وبلغة الكبار قال quot;النواية تسند الزير يا عموquot;، وأضاف: أبويا شغال عامل بوفيه في شركة ومرتبه أول عن آخر 570 جنيه، وعندي أخ وأخت أصغر مني، وأنا الكبير، ولازم أساعد أبويا، وأساعد نفسي، علشان أشتري ملابس المدرسة والكتب والكراساتquot;. ولكن هل العمل يتعبك كثيراً ويحرمك من اللعب مع أصدقائك؟، ويجيب محمد بعد تنهيدة حارة: طبعاً، والله أنا بيتهد حيلي، ولما بروح أمي بتحط لي الأكل، وبعدها بنام زي القتيل، لكن ده أحسن من الصياعة أو التسول في الشوارع.

الضرب والشتم جزء من العمل

الضرب والشتائم في عرف quot;أسطاواتquot; أي حرفة جزء من أصول تعليم الأطفال فنون تلك الحرفة، وبالطبع تم تأصيل هذه المفاهيم المغلوطة في أذهان الأطفال، حتى لا يعترضوا أو يفروا من العمل، ولذلك لم يكن غريباً أن يرد الطفل محمد على ذلك بالقول quot;الأسطي لما بيضربني أو بيشتمني، بيعمل كده علشان مصلحتي، علشان أتعمل الصنعة ولما أكبر أقدر أصرف على بيتي وعياليquot;. لكن محمد لم يخف غضبه من قسوة quot;الأسطىquot; في بعض الأحيان، ويقول quot;الأسطى أحياناً بيزودها شوية وبيضربني جامد أو بحتة حديدة، لدرحة أن مرة فتح دماغي واتخيطت 5 غرزquot; غير أن الأشد قسوة بالنسبة للطفل محمد أنه في بعض الأيام quot;بأقضي اليوم بطوله على لحم بطني، أو بسندوتشين فول وطعيمة، لدرجة بحس أني هيغمي عليَ، وروح هتطلعquot;.

الإناث في خدمة المنازل

إذا كان الأطفال الذكور يعملون في الورش الحرفية، فإن الاطفال الإناث تعملن في الخدمة بالمنازل، وهناك إقبال متزايد من الأثرياء عليهم، لعدة أسباب تعددها منال رجب مدير مركز البراءة للدفاع عن حقوق الطفل المصري، بقولها إن أهم أسباب تفضيل الفتيات الصغيرات في العمل بالمنازل هي: رخص الأجر، الذي يتراوح ما بين 100 و400 جنيه شهرياً، قلة المصاريف، حيث لا تكون لطفلة أية مطالب، قلة الطعام المقدم لها، إمكانية النوم في المطبخ أو الحمام بدون تذمر، عدم القلق من سقوطرب البيت أو أحد أبنائه في غرامها، وأوضحت أن المصريات المتزوجات من رجال أثرياء تعانين من quot;فوبيا الشغالةquot;، حيث يرتبط الأمر في أذهانهن بأن الخادمة إذا كانت شابة أو إمرأة ناضجة سوف تعمل على إيقاع رب البيت أو أحد أبنائه الذكور في غرامها، رغبة منها في الحصول على المال أو الصعود السريع، مشيرة إلى أن تلك الصورة الذهنية المشوة أصلت لها السينما في عدة أفلام أو الدراما في مسلسلات كثيرة.

متاعب تصل للإغتصاب

تؤكد رجب أن quot;الشغالات أو الخداماتquot; يتعرضن لمعاناة وضغوط لا تطاق، تتراوح ما بين الإعتداء اللفظي و التحرش وإنتهاء بالإغتصاب، وغالباً لا تستطيع الحصول على حقها، لأن الفقر يقف عائقاً أمام إثبات صدقية إدعاءاتها في مواجهة مجتمع يتبنى وجهات نظر الأغنياء ويدافع عنها، لاسيما مع تشويه صورة هؤلاء الأطفال من قبل وسائل الإعلام وخاصة الدراما والتليفزيونية والسينما. وتضرب رجب عدة أمثلة لما يتعرض له الأطفال quot;الخادماتquot; من معاناة بقضيتين شهيرتين، الأولى لخادمة الفنانة وفاء مكي الذي ارتكبت بحقها جريمة التعذيب حتى فقدت الوعي، ثم ألقت بها على قارعة الطريق في بين الحياة والموت، والثانية لخادمة الفنانة رانيا ياسين التي ألقت بها من الطابق الثالث في الشارع، لكنها نجت من الموت، ومارست الفنانة ضغوطاً عليها من أجل التنازل عت القضية.

وتدعو رجب إلى ضرورة إنشاء نقابة تدافع عن حقوق عمال المنازل لاسيما الأطفال، وتبرم عقوداً بين أصحاب المنازل والعاملة، تضمن لها حقوقها الإنسانية، مشيرة إلى أن مركز دراسات العمالة الهجرة بالجامعة الأمريكية أصدر دراسة أكدت أن حجم الأطفال الإناث اللاتي يمارسن العمل في المنازل يصل إلى 53 ألف طفلة سنوياً.

تجارة بالبشر

تدخل عمالة الأطفال الإناث بالمنازل وعمالة الأطفال الذكور في الحرف في إطار ما يعرف بquot;الإتجار بالبشرquot;، وتعمل مصر على الحد من تلك الظاهرة ـ والكلام للدكتور جيهان كمال المسؤول بوحدة مكافحة الإتجار بالبشر بالمجلس القومي للطفولةـ وتضيف: إن المجلس وضع خطة للقضاء على تلك الظاهرة في الفترة من مايو 2011 وتنتهي في يونيو 2012، وتهدف ال تقديم الدعم للأطفال الذين يتعرضون لللإجبار على العمل بالمنازل، ومحاولة حمايتهم أو توفير ظروف عمل إنسانية

مقتل 10 وإصابة 18 بسبب العمل

لعل أبشع الحوادث التي تعرض لها الأطفال أثناء العمل، ذلك الحادث الذي قتل فيه عشرة أطفال وجرح 18 آخرين، وجميعهم ينتمون إلى قرية بني صريد بمحافظة الشرقية، لقوا مصرعهم في حادث مروري أثناء التوجه للعمل في جمع البرتقال ذات صباح ملبد بالشبورة في شهر يناير الماضي، ووفقدت القرية نفسها سبعة أطفال في حادث مماثل العام الماضي 2010.

السرطان و الحساسية و فقر الدم

ليست تلك الحوادث هي الخطر الوحيد الذي يواجهه هؤلاء الأطفال، بل هم عرضة للإصابة بالأمراض، حسبما يقول الدكتور منير الملاح أستاذ علم الإجتماع بجامعة القاهرة، ويضيف أن الاطفال عرضة للإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والسرطان نتيجة العمل في ورشإصلاح السيارات أو المصانع التي تستخدم الكيماويات أو المدابغ أو المزارع حيث يتم استخدام المبيدات، لاسيما أنهم لا يستعملون كمامات أو أدوات واقية، ولا يحترسون بشكل كاف من تلك المواد بحكم طفولتهم. ويلفت الملاح إلى أن 90% من الأطفال اللذين يمارسون العمل مصابون بفقر الدم والأنيميا حساسية الصدر. ويشدد على ضرورة مكافحة تلك الظاهرة، لأنها تقتل الأطفال جسمانياً وتؤثر في نموهم العقلي والنفسي، وتهدر ثروة البلاد من الأجيال القادمة.