القاهرة (رويترز) - يمكن وصف السيرة الذاتية للمسرحي البريطاني البارز بيتر بروك بأنها متعة الاكتشاف لدى رجل قادر على فعل الكتابة بنفس قدرته على فعل الدراما.
لطفل الذي كان أول ما جذب انتباهه في البيت آلة للعرض السينمائي سيسحره في مطلع الشباب المخرج الأمريكي أورسون ويلز quot;معبودي في ذلك الحينquot; ويقرر في بداية رحلته مع الإخراج أن يستخدم أسلوب ويلز في فيلمه الاشهر (المواطن كين) الذي أنتج عام 1941 ووصفه نقاد في استفتاءات أجريت بمناسبة مئوية السينما عام 1996 بأنه أهم فيلم ‬في‮ ‬التاريخ. سيكبر هذا الطفل ويؤمن بحس فطري بأن المسرح ليس مجرد مكان أو مهنة لكنه استعارة ومجاز quot;المسرح كان في أصله فعلا من أفعال الشفاء.quot; وصدرت سيرة بروك بالقاهرة عن مكتبة دار العلوم للنشر والتوزيع في 263 صفحة متوسطة القطع بعنوان (خيوط الزمن.. سيرة شخصية) وترجمها الناقد المصري فاروق عبد القادر الذي وصف بروك بالمبدع الكبير وأنه quot;أهم مسرحي غربي مايزال يعيش ويعمل.quot; وأشار عبد القادر في مقدمة الكتاب الى أن لترجمة سيرة بروك (81 عاما) سحرا خاصا حيث تلقي ضوءا كاشفا لا يستطيع أن يقدمه سوى بروك على مجمل أعماله وعلى الشروط التي عمل فيها وأبدع. لم يتلق بروك قبل أن يعمل في المسرح تدريبا ولم يتخرج في أكاديمية بل كان يسير خلف مشاعره وحماسه وفيما بعد سيشير الى أن القرارات التي تتخذها الغريزة تعكس نظاما خفيا. يروي بروك أنه حين كان طفلا كان لديه quot;وثن. لم يكن حجابا حاميا بل آلة عرض سينمائي. لفترة طويلة جدا لم يكن مسموحا لي بأن ألمسها لان أبي وأخي الأكبر هما اللذان يفهمان دخائلها... كانت أفلام السينما نوافذي الحقيقية على عالم آخر.quot; وفي تلك المرحلة شهد باحدى المكتبات عرضا للاطفال يقدمه مسرح للعرائس من القرن التاسع عشر وكانت تلك التجربة نافذة على هذا العالم الرحب الذي كان بالنسبة له أكثر إقناعا من العالم الذي عرفه خارج المسرح quot;كانت تجربتي المسرحية الأولى والى الآن ماتزال عندي ليست التجربة الاكثر حياة فقط بل والأكثر صدقا كذلك.quot; وحين كان في حوالي العاشرة غرست في عقله فكرة أن يكون مخرجا سينمائيا.
كان أبوه يرغب في أن يدرس القانون في اوكسفورد حتى لا يكون أقل في نظر الوالد من أخيه الذي يدرس الطب في كيمبردج. وحين كان طالبا في اوكسفورد كان عليه أن يتدرب كي يصير ضابطا quot;لان الطالب الجامعي هو مادة الضابط. منذ طفولتي ترعبني فكرة الحرب... كنت أرتعب حين يتأخر الخطاب الذي أرسله أخي في الجيش وأرتعب حين أعود الى البيت متأخرا أثناء غارة مفاجئة كان أبي يعرف ماذا يعني انتصار النازي.quot;
ويروى أنه ترك الدراسة فجأة وهو في السادسة عشرة عائدا الى البيت بعد أن quot;أيقنت أن التعليم الرسمي لن يكون ذا فائدة... أعلنت لابي أنني سوف أتلقى دروسا في التصوير الفوتوغرافي في لندن كخطوة أولى نحو صناعة الافلام.quot;
واستمع الوالد بصبر الى الابن المتمرد واقترح حلا وسطا بأن يسعى عن طريق بعض أصدقائه لاتاحة فرصة لعمل في استوديو للافلام التسجيلية على أن يعود بروك بعد سنة واحدة الى الجامعة.
في تلك الفترة عانى بروك البطالة حيث كانت الحرب العالمية الثانية تلقي بظلالها على الحياة في لندن تحت القذائف التي تسقط فجأة على الأهداف. وهكذا فكر في المسرح مُصمما على أن يبدأ من القمة لكن المسؤول الايرلندي عن أحد المسارح رفض إعطاءه فرصة إخراج مسرحية فمضى quot;باصرار من رفض الى رفض أهبط درجات السلم ووجدت قرب القاع مسرحا مصغرا في كنسنجتون به حفنة من المقاعد وتكلفة الانتاج فيه لا تذكر وقدرت السيدة المسؤولة عنه تصميمي على الاخراج فتجاوزت عن نقص تجربتي... وبدل أن تقول.. لا. قالت.. ولم لا..quot;
وحققت تجربته الاولى نجاحا محدودا وكانت المسرحية التي اختارها هي (الآلة الجهنمية) للكاتب الفرنسي جان كوكتو quot;لان كل شيء يأتي من فرنسا له ألقه الثقافي الخاص.quot;
وفي مقابل المسرح الفرنسي سيعترف بروك في وقت لاحق بأنه حين بدأ العمل في المسرح quot;لم أستطع أن أطيق الطبيعة المهذبة والشاحبة تقريبا لمعظم المسرحيات الانجليزية رغم أنني كنت مستعدا لتناول أي شيء من أجل تجربة العمل واذا لم أستطع أن أجد قدرا من الاثارة في النص فان مشاركتي في المسرح سوف تكون بلا معنى.quot;
وكان الميلاد الحقيقي له حين رشح لاخراج مسرحية (الانسان والسوبر مان) للكاتب البريطاني جورج برناردشو مقابل 25 جنيها استرلينيا. وبعد تجارب في إخراج عروض من كلاسيكيات المسرح يلخص بروك رؤيته قائلا انه حين يبدأ إخراج عمل ما لا تكون لديه quot;أية أفكار ثقافية كنت أتبع فقط رغبة غريزية في صنع صور ذات تأثير... رغبتي الوحيدة هي استحضار عالم مواز لكنه أكثر إغواء.quot; وحين كان في الثانية والعشرين أصبح مخرجا ثابتا في دار الاوبرا الملكية وقال انه دخلها بهدف واحد يتلخص في إعطاء تلك المؤسسة قديمة الطراز سلسلة من الصدمات تهزها وتلقي بها الى عالم اليوم.
وتتناول السيرة تجارب بروك مع عدد من أشهر الممثلين في العالم اضافة الى جولات اقترب فيها من ثقافات دول كثيرة من أمريكا الى افريقيا وآسيا خالطا في سرد شائق بين الفني والشخصي حيث كانت زوجته ناتاشا حاضرة بقوة. فرحلتهما الى أفغانستان انطلقت من أمل بروك في العثور على بقايا تقاليد قديمة حيث ظل ستة أشهر في البيت يتعلم الفارسية وقادته رحلاته في ذلك البلد الى أن أفغانستان quot;مصانة ضد الغرباء بفعل الجبال والفقر.quot;
ويتوقف وهو هناك أمام قصيدة صوفية فارسية لفريد الدين العطار عنوانها (اجتماع الطير) تحكي عن quot;رجل كان يذرف دمع الندم الصادق لكن الدموع كانت تتحول لأحجار ما ان تلامس الارض. كان يجمع هذه الأحجار دون أن يفهم أن جمالها المتجمد كان بسبب الشعور الذي كان حين ذرفت. وكل تاريخ الاديان والتقاليد يبدو لي أسيرا في هذه الحكاية كذلك كل تاريخ الفن والكتابة والمسرح والحياة.quot;
كما يتوقف أمام الدور السياسي للمسرح قائلا انه اذا كانت الديمقراطية تعني احترام الفرد فالمسرح السياسي الحقيقي يثق في أن كل متفرج سيكون قادرا على استخلاص نتائجه.
ويقارن بين طرفي المعادلة حيث ان quot;السياسي محترف يعيش على تأكيدات مطلقة لديها فرصة قليلة لان تكون صادقة. المسرح الجيد عليه أن يوضح أن المطلقات السياسية انما هي نسبية على نحو مؤلم... السياسي في خطبه يقدم الوعود التي هو مقتنع بها اليوم لكن هذا ما لن يكون بحاجة للتمسك به اذا تغيرت هذه الشروط في المستقبل. في المسرح كل اقتناع هو في الحاضر أو في لا مكان.quot;
كتب بروك سيرته كمحاولة لنسج الخيوط التي عملت على تطوير فهمه quot;على أمل أن شخصا ما يمكن أن يجده مفيدا في تطوير خبرته هو.quot; وأشار مترجم السيرة عبد القادر في مقدمة الى أن أبرز ما يجذب الانتباه الى بروك أنه رجل مسرح اذا أراد التعبير عن فكرة أو وجهة نظر فانما من خلال المسرح حيث يرفض أن يكون مسرحه quot;فيلما تسجيليا أو قاعة محاضرات أو مجرد ناقلة أفكار.quot; وأضاف أن بروك يلفت النظر أيضا بموقفه من الحضارات الاخرى وقدرته على التعامل مع التراث الثقافي والمسرحي في الحضارات الاغريقية والفارسية والاسلامية والهندية quot;وهو حين يقترب من الابداعات الكبرى الصادرة عن ثقافات عريقة أخرى فهو لا يقترب منها بأفكار مسبقة أو قوالب جاهزة... بل يقترب منها باحترام ومحبة ورغبة صادقة في تفهم منطقها الداخلي والوظيفة أو الوظائف التي كانت تؤديها في الثقافة التي صدرت عنها.quot; واعتبر أن ترجمة هذا الكتاب كانت ضرورة quot;فبدونه لا يكتمل بيتر بروك.quot;
وترجم عبد القادر في السنوات الماضية الاعمال الكاملة لبروك بعنوان (في صحبة بيتر بروك.. نحو مسرح ضروري) وأعمالا أخرى منها (طرائق الحداثة.. ضد المتوائمين الجدد) للبريطاني رايموند وليامز و(نهاية اليوتوبيا..السياسة والثقافة في زمن اللا مبالاة) لاستاذ التاريخ في جامعة كاليفورنيا راسل جاكوبي اضافة الى كتابي (البشرية تفقد الذاكرة) و(المتطلعون الى النجوم وحفارو القبور) للامريكي ايمانويل فليكوفسكي. ومن مؤلفاته في نقد المسرح (رؤى الواقع وهموم الثورة المحاصرة) و(أوراق من الرماد والجمر) (مساحة للضوء.. مساحات للظلال) و(في المسرح المصري.. تجريب وتخريب).