هذا قدرنا .. نحيا تعساء ونموت غرباء


أحمد عبدالمنعم : قدر المصريين أن يعيشوا أمواتاً في وطنهم .. قدر المصريين أن يموتوا غرباء وتستقر أشلاؤهم في أحشاء الأسماك المتوحشة .عبروا البحر بحثاً عن لقمة عيش لم تمنحهم اياها بها بلدهم وعادوا ليبتلعهم البحر في أعماقه السحيقة.
احتملوا غربة الاهل والوطن لسنوات.. حرموا من حنان الأم وquot;طبطةquot; الاب سعياً وراء الرزق الذي يمنح الاستقرار، فكان الاستقرار في أعماق بحر متلاطم الأمواج . هربوا من امواج الظلم والفساد والمحسوبية في بلدهم ليصارعوا موج اخر اكثر عنفاً وأشد قسوة .حال وطنهم دون الحصول على ما يسد رمقهم وحال الفساد والاهمال دون الظفر بالدفن في مقابر آدمية.

quot;الكارثة قضاء وقدرquot;، الى ذلك انتهت أعمارهم وماذا بيد المخلوق أن يفعل اذا تدخلت ارادة الخالق؟!
حاول المسؤولين في مصر على كافة المستويات تفسير الأمر على هذا النحو، فالكارثة نتجت عن حريق نشأ في كراج السيارات في السفينة ولم يستطع أحد السيطرة عليه فغرقت السفينة بمن فيها.

نسى المسئولين -أو تناسوا- الحديث عن العمر الافتراضي المنتهي للسفينة، وتجاهلوا الحديث عن خسة ونذالة القبطان الذي فر هارباً كالفأر المذعور تاركاً الركاب يواجهون الموت . رفض الاستجابة لصرخات شاب في مقتبل العمر، وصم أذنيه عن عجوز لا يقوى علي الحركة، تجاهل بكاء الاطفال ونحيب الامهات وقرر النجاة بنفسه .

لم يكن تصرف الحكومة المصرية تجاه الكارثة بأفضل حال من تصرف ذلك الجبان ، فالكل سارع لابعاد الشبهات عنه ، استطردوا في الحديث عن الجهود المبذولة لاحتواء الكارثة . اخذوا يتحدثون عن وعود بصرف تعويضات ومضوا ببطء السلحفاة في عمليات الانقاذ وانتشال الجثث .تركوا مئات الأرواح تصارع الموت لعشرات الساعات قبل ان يحرك احدهم ساكناً تجاه هؤلاء التعساء واكتفوا بتقديم واجب العزاء لأسر الضحايا وجندوا أتباعهم من أبواق السلطة في المؤسسات الدينية والاعلامية للحديث عن فضل الشهادة في الاسلام وكيف أن الموت غرقاً يعطي للمتوفي مرتبة الشهداء.. فهنيئاً للموتى المحظوظين وياليتنا كنا معهم لنفوز بالجنة! .. بشروهم بالجنة وتركوا أسرهم للحزن ، تحدثوا عن وعد الله بالجنة ونسوا وعد الحاكم بالحفاظ علي حياة المواطنين.

فعلى مدى الأيام الفائتة وصل أهالي الضحايا الليل بالنهار أمام ميناء سفاجا بانتظار كلمة تطمئنهم على الأحبة، بانتظار بريق من الأمل يعيد اليهم عقولهم التائهة. يئسوا من عودة الأحبة أحياء فتعلقوا بأمل استلام جثثهم لاقامة حفل تأيين يليق بالضحايا. كل ذلك والمسؤولين في واد آخر.. لا يعنيهم أهالي الضحايا ولا الضحايا أنفسهم.. ما يعنيهم فقط هو الخروج من قفص الاتهام.


أهالي الضحايا أيضاً لا يعنيهم تصريحات المسؤولين وما يردده أبواقهم.. فبعد فراق الأحبة لا شي يهم. فتعزية الرئييس لن تعيد الهيم ما فقدوا،والوعد بالجنة لن تطفئ النار المشتعلة في قلوبهم.
براكين غضب تغلي بداخلهم ،براكين لو نفثت حممها لاحرقت مدن باكملها .
كل ما طالبوا به هو تحقيق بسيط عاجل ونزيه لمعرفة ملابسات الكارثة واسبابها ، يريدون اطفاء نارهم بمحاسبة المسؤولين الفعلين ..لا يريدون كبش فداء كما قدمت الحكومة لهم ..وحين يتم ذلك من المرجح ان يستعيد اهل مصر ثقتهم بوطن يبتلع ابنائه احياء.
وبانتظار ذلك المستحيل تبقى المصيبة حكرا على اصحابها.