شباب اليوم منشغل بزعمائه وبالسياسة
شباب الغد ..جيل بلا مستقبل


ما يعذبني هو موزارت الصريع في كلّ فرد منهم.
أنطوان دي سانت إكسوبري- أرض البشر


يعمل في تصليح السيارات ..تصور عصام سحمراني -خاص إيلاف

عصام سحمراني من بيروت: quot;يا ليتني لم أولد هنا !quot;، كلمات محدودة يتمتم بها حسن تخرج كالشرر المتطاير من أنبوب التلحيم في يده. كلمات تلخّص موقفه الكامل من روتين حياته اليوميّ وهو إبن الخمسة عشر عاماً فقط. روتين يعيشه بين برودة الحديد وسخونة المحركات وسيول الإهانات وكآبة الأحلام الشبيهة بالدخان المنبعث من عوادم السيارات في ذلك الكاراج المليء بالنشاط في منطقة quot;حيّ السلّمquot; في الضاحية الجنوبية لبيروت.


الضاحية الجنوبية هي أمّ المصائب جمعاء في كلّ شيء. في تضخّمها السكّاني، وفيما يلحق به من مشاكل إقتصادية، وإجتماعية، وأوضاع سياسية مميّزة يشكّل لها المكان تربة خصبة تمهّد بدورها لإهمال مستدام في المنطقة. إذن هي منطقة منكوبة على الصعيد الإجتماعي، الأمر الذي يفسّر كثيراً من الحالات التي تعدّ انتهاكات صريحة لحقوق الإنسان وحقوق الطفل على وجه التحديد وتلك الحالات تتوجّ بعمالة الأطفال.

شغل، جامع، بيت

وإذا كان حسن يملك نوعاً من التفكير في حالته يخرجه من الواقع قليلاً ولو بنفس رثائي فإنّ معظم أقرانه من العمّال الأطفال لا يملكون ذلك. حمزة ذو الثلاثة عشر عاماً مثلاً يعمل في أحد أفران المنطقة منذ الخامسة صباحاً حتى الثالثة بعد الظهر. هو يساعد في تحضير العجين، والتقطيع، والمدّ، وتنظيف الفرن، والمحلّ كلّه، وتوصيل الطلبات، وحمل الألواح وأكياس الطحين والسكر والصعتر وغيرها من المواد المستخدمة هناك.

يتقاضى على كلّ ذلك أسبوعياً خمساً وأربعين ألف ليرة أي ما يعادل ثلاثين دولاراً. هو لا يعرف أيّاً من حقوقه كطفل وهمومه تشبه إلى حدّ بعيد هموم العامل العادي-في الضاحية طبعاً- بل وأدنى من ذلك. فيوم العطلة الذي يناله العامل أسبوعياً ليس وارداً في البرنامج المزدحم لدى حمزة. كلّ همّه تحسين راتبه للوصول إلى الستين ألف ليرة أسبوعياً يأمل من خلالها أن تحقّق حلمه في دراجة نارية صغيرة يوماً ما.
حمزة يحلم إذاً ولو كان حلمه ضئيلاً. لكنّ سالم الذي يسحب نفسه من تحت أحد الفانات وقد غنمت ملابسه ما غنمته من quot;الشحبرةquot; والشحوم والقذارة اليومية ممنوع من الحلم حتى. فالفتى ذو الستة عشر عاماً بات منذ وفاة والده العام الماضي مسؤولاً مع أخيه الأكبر الذي يعمل على فان مستأجر على خطّ حيّ السلّم الرئيسي عن عائلة تضمّ إليهما ستّة أشقاء ووالدة. quot;كلّ همّي كيف بدّي طلّع مصاري للبيت!quot; يقول سالم الذي ترك المدرسة وهو في الصفّ الثامن. يومها انخرط جدّياً في هموم يؤكّد بتحدٍّ أنّه quot;أكبر منهاquot; ويشهد المعلّم صاحب الكاراج على ذلك؛ quot;هو أجدع شاب إشتغل عنديquot; يمعس المعلّم سيجارته بحذائه ويقول لسالم، quot;لقد مدحت افرح ..مين قدّك!!quot;.

يستخدم الات خطرة .. خاص إيلاف
حسين أيضاً ترك دراسته وهو في الصفّ الثامن ليساعد أبيه في بيع الخضار، حيث يمتلك الأبّ quot;بسطةquot; في كعب حيّ السلّم. حسين يؤكّد أنّه كان ناجحاً في المدرسة، quot;لكنّ الوالد لم يستطع دفع الأقساطquot; في مناطق يقع فيها الطالب بين مطرقة ارتفاع أقساط المدارس الخاصة وسندان التجهيل في المدارس الحكومية المجانية.هو يعمل بين شاحنات التحميل في quot;الحسبةquot; منذ الرابعة صباحاً ليكمل حتى السابعة مساءً في بسطة والده. ولا يتوانى حسين عن إبراز الفوارق بين حياته في الماضي أيّام المدرسة وحياته الآن التي تتلخّص بثلاث خطوات لا رابع لها، quot;شغل، جامع، بيتquot;. هذا عن حسين الذي بات رمادياً منذ الصغر.
وبما أنّنا تحدّثنا عن المدارس فلا مناص من أن نذكر حالة عبد الذي يدرس ويعمل في الوقت نفسه. عبد في الصفّ التاسع ولديه إمتحانات رسمية هذا العام لكنّ هذا لم يمنعه من العمل في أحد معامل مواد التنظيف حيث المواد الكيماويّة تمعن في زيادة خطورة طرف الربو الذي ولد عبد وهو مصاب به.

عبد لا يعمل لحاجة أهله إلى أموال أو غير ذلك بل quot;لتحقيق ذاتيquot; يقول الفتى الذي بات زعيماً للفتيان الآخرين في مدرسته الرسميّة حيث الخمسة آلاف ليرة تشكّل زعامة هناك. هو يعتمد على نفسه كلّياً منذ الآن وبتشجيع صريح من والده الذي يعمل محاسباً عتيقاً في إحدى الشركات لجمع مصاريف دراسته الجامعية التي يتمنّى أن تخرّجه مهندساً يوماً ما.


النقّالة مش شغّالة


آخرون لا يتّخذون منحى الثبات في أعمالهم وهذا ما يجعل إستغلالهم وإنتهاك حقوقهم أوسع وأشمل. هؤلاء يتنقلون بين أعمال البيع على العربات والعمل في المحلاّت التجارية وفي ورش العمار وفي المعامل ولدى أصحاب الحرف وفي كاراجات التصليح. والقاعدة المعروفة منذ زمن بعيد أنّ quot;النقّالة ليست شغالةquot; وهذا ما يحصل مع هؤلاء الفتية.

محمّد مثلاً يمضي أيّاماً عديدة في الشارع، والشارع هناك ليس زاروباً بل طريقاً عاماً يبرز فيه شوفيريّو الفانات مواهبهم الإستحماريّة في القيادة شأن العديد من سياسيينا العتاعيت. دعونا من هذا الموضوع.محمّد إذاً لا يعمل بشكل دائم ويتّخذ من الشارع مرتعاً له، وهذا ما جعله تلقائياً موضع شبهة في كلّ سرقة لراديو سيّارة من هنا وquot;فلترquot; دراجة نارية من هناك، وميزان، ولمبة، ومسكة quot;بلاي ستايشنquot;، وسبيكر كومبيوتر من أماكن أخرى متفرّقة.

يزحف تحت السيارة ..تصوير عصام سحمراني -خاص إيلاف
وبما أنّ السارق عقابه كبير فالمحاكم الشعبية العليا قرّرت مع كلّ سرقة أن تجعل من صاحبنا المسكين ممسحة ولا كلّ المماسح. وبما أنّ العدل أساس الملك فإنّ محمّد يمضي أيّاماً بعد الضرب والبهدلة في هذا المحلّ أو ذاك يعمل دون أجر تقريباً ليعوّض ما لحق بصاحبه من خسارة وليغسل عار السرقة الذي ارتأى أهله أنّه لحق بهم. quot;والله مش أنا!quot; يبدأ محمّد كذلك وينتهي الأمر بعد سلسلة من الكفوف باعترافات لم تخطر لهم على بالٍ من سرقة quot;خرجيةquot; طفل إلى اقتناص بعض الفواكه والمأكولات من الطلبيات التي يسلمها أحياناً، إلى سرقة صناديق العصير وأقراص quot;كعك العبّاسquot; وquot;الراحة وبسكوتquot; في مجالس عاشوراء، إلى غيرها كثير من الأمور.

الأمور التي بات على أساسها محمّد غير مرغوب فيه في أيّ عمل من الأعمال وهذا ما يزيد من إحباطه الذي سلك سبيل التدخين وهو في الرابعة عشر لم يزل. وبالمناسبة فإنّ والد محمّد يعمل في أوروبا ويأتي سنوياً إلى لبنان وأخاه يمتلك محلاً للهواتف الخلوية ممنوع على محمّد دخوله. أمّا الوالدة فهي من طردته من البيت لأنّها اكتشفت غشه في quot;اللحمة بعجينquot; أيضاً؛ quot;كيف لو بالبيتزا!!quot; يسخر محمّد.


سامر أيضاً يتنقّل بين عمل وآخر لكنّ quot;الأودمةquot; صفة ملازمة له. هو يأتي إلى حيّ السلّم من منطقة المريجة المجاورة في الأشهر الفائتة للعمل في أحد الأفران الكبيرة. يمضي في عمله أكثر من أربع عشرة ساعة في حرارة مرتفعة تذيبه ذوباناً وهو في الخامسة عشر فقط.

لن نتكلّم هنا عن الأجر الذي يتقاضاه سامر بل عن سبل المعرفة التي يتّصل بها. فأجر سامر جيّد بالنسبة إلى غيره من العمّال الصغار والأربع عشرة ساعة تساهم في ذلك لكنّها في المقابل تعزله أيّما عزلة عن أيّ اتصال إجتماعي أو معلوماتي.

اين الاطفال العمال من حقهم في اللعب ..خاص إيلاف
كلّ ما يعرفه سامر يتّصل بالفرن والعجين والخميرة والنشاء والكعك والخبز العربي والفرنجي. حتى الهواية الوحيدة لديه المماثلة لغيره من صغار المنطقة وهي كرة القدم فلا يترك له عمله وقتاً لممارستها سوى في الصباح وهو آت بملابس العمل من منطقة المريجة التي يتواجد فيها ملعب رملي متوسّط الحجم تحتله مجموعة من الشبّان الذين تخطّوا منذ فترة عمر اللعب. عندها فقط يستطيع الفتى أن يمارس هوايته ولو من مركز حراسة المرمى-الملطشة- ولو مع أشخاص أكبر منه بعقد كامل على الأقلّ. ولا يهتمّ كثيراً بالتسديدات تأتيه من كلّ حدب وصوب، كأنّ اللاعبين أيضاً يدلون بدلوهم في عقابه الإجتماعي المحتوم، فقد باتت هذه الفترة أفضل فترات نهاره. لا بل إنّه كوّن صداقات مع اللاعبين الكبار الذين باتوا يفتقدونه حين لا يأتي ويرسلون وراءه من يناديه.

كثيرة هي الأعمال في الضاحية الجنوبية وكثيرة أيضاً بموازاتها إنتهاكات حقوق الإنسان حيث لا رقيب ولا حسيب. ويتفاقم الأمر أكثر في حالة الأطفال العمّال هناك الذين لا يعاملون على أساس صغرهم وقلّة خبرتهم في الأعمال التي يضطرون اضطراراً للقيام بها. وهذا ما يزيد المشكلة تفاقماً يؤدّي إلى مشاكل نفسية إجتماعية لدى الفتية الذين سيتحوّلون إلى رجال يوماً ما. رجال سرقت مرحلة كاملة من مراحل عمرهم اللازمة ليتحولوا إلى شكل متطور من معلّميهم في المحال والكاراجات، أو ليسلكوا دروب الإنحراف في بيئة تهيء لذلك ظروفاً وتسهيلات كبيرة.
تلك أيضاً دورة حياة..

*ينشر بالتزامن مع مجلة quot;واوquot; العدد التاسع