حكايات غارات ودمار وصمود
الحياة بشكلها الحربي في الضاحية

تصوير عصام سحمراني من الضاحية الجنوبية لبيروت

أزمة محروقات تعيدنا إلى الثمانينات-خاص إيلاف

عصام سحمراني : quot;سمير.. سمير.. هنالك ضوء أبيض ينطلق من المحطة إلى السماءquot; يصرخ حسين بما يشبه الهيستيريا لأحد سكان الحيّ النادرين الذين ما زالوا صامدين فيه.

سماء ذلك الليل الداكن ذي الكهرباء المقطوعة كانت توحي بشيء فتزيد شكوك حسين في مصدر الضوء المنبعث من محطة المحروقات.

فمهلة الثماني وأربعين ساعة لتوقّف الغارات على ضاحية بيروت الجنوبية ومعها كلّ لبنان لم يتبقّ منها سوى الدقائق الستون الأخيرة وأخبار تواجد عملاء لإسرائيل في الضاحية الجنوبية يضعون إشارات مجهولة الشكل لا زالت طازجة في وعيه، وحسين ذو الثمانية عشر عاماً وحده في المنزل بعدما أصرّ على البقاء وعدم الرحيل مع والده والعائلة؛ quot;شو هالمصيبةquot;.

يندفع سمير بتخوّف مشابه وينطلقا نحو المحطة ليجدا الضوء قد اختفى ومعه شكوكهما التي بدّدها العمّال النائمون هناك في تبيان سبب الضوء.

إستهداف الشاحنات المدنية في منطقة الحدث -خاص إيلاف
هكذا تسير الحياة إذاً في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد أكثر من عشرين يوماً من العدوان على لبنان وهي قلبه المتلقّي أكثر الغارات ضراوة. فالسكّان القليلون نسبة إلى سكان الضاحية المليونية ما زالوا صامدين فيها حتى الرمق الأخير. يخرجون بين الغارات لقضاء ما تيسّر من أمورهم اليومية ويعودون إلى منازلهم أو إلى الملاجئ المبتكرة لديهم، ويعيشون في قلق وخوف دائمين من غارة مفاجئة تجعل الطابق التاسع في البناية أرضياً بعدما خبروا عدم تمنّع إسرائيل عن ضرب المدنيين العزّل.

رامي أحد هؤلاء الصامدين. يستيقظ يومياً على صوت طائرة التجسّس الإسرائيلية quot;الأم كاquot; أو quot;إم كاملquot; كما يدعوها كثير من سكّان المنطقة تحبّباً بعدما ألفوها في أجواء ضاحيتهم على الدوام؛ quot;يعني كيف سنعيش دونها إذا انتهت الحرب.. لا أدري!؟quot; يسخر رامي.

هو ينطلق يومياً متفقداً أجواء المنطقة والمنازل والمحال التجارية المستهدفة للأقرباء والأصدقاء الذين تركوها ومضوا إلى مناطق أخرى آمنة داخل أو خارج الضاحية.

وعلى الرغم من عدم تمكنه من دخول المربّع الأمنيّ من قبل عناصر الإنضباط في حزب الله الذين يحفظون الأمن ويمنعون السرقات وينظمون جولات للمصورين الصحفيين، فهو اطمأن بشكل ملموس على محلّ أحد أقربائه في الداخل؛ quot;البناية بأكملها سوّيت مع الأرضquot; يقول رامي آسفاً لكنّه لا يتمادى في أسفه كثيراً؛ quot;مش مشكلة فدا المقاومة والسيد حسن نصر اللهquot;.

منطقة الصفير في الضاحية الجنوبية-خاص إيلاف
يتمركز عناصر الإنضباط في مناطق متعدّدة من المربّع الأمني وعلى أطرافه إمتداداً إلى مناطق عديدة خارجه لحفظ الأمن وكثير من الأمور الأخرى لكنّ المهمّة الأبرز التي يتحدّث عنها كامل هي؛ quot;قتل الكلاب الشاردةquot; يؤكّد كامل على هذا وينفي أن يكون هذا الأمر للتسلية فحسب ويشرح أنّ quot;الخوف من قيام الكلاب بأكل الجثث إذا ما تواجدت في المنطقةquot;. ولا ينفي كامل أن يكون ما يقوم به تدريباً لضمان الجهوزية لأيّ إنزال جوّي؛ quot;سنقتلهم كما الكلابquot;.

يقوم سعيد إلى جانب قيامه بمهام أمنية مع أحد تنظيمات المنطقة المحافظة على الأمن واصطياد العملاء بمهام تطوعيّة أخرى أهمّها في المركز الطبّي المستحدث داخل المنطقة. يضمّ المركز خدمات إسعافات أوّلية وصيدلية ما أن تعبّأ رفوفها حتى تفرغ مجدّداً؛ quot;فنحن نقدّم الدواء مجاناًquot;.

أمّا العمل الذي يقوم به سعيد هناك فهو قراءة لائحة مكوّنات الأدوية من الداخل المكتوبة باللغات الأجنبية وتقديم الأقرب منها إلى الدواء المطلوب من أحد السكّان؛ quot;فليست جميع الأدوية متوفّرة لديناquot;.

الدراجة النارية التي يتنقّل عليها حيدر وعدد من أشقائه وأصدقائه في أحياء المنطقة وخارجها باتت أكثر شبهة عندما نقل شقيقه إلى المستشفى لوضع عدد من الغرزات في رأسه. الشاب سمّي بجريح البطيخة بعدما صدم أعلى رأسه بالحائط المنخفض عند باب المصطبة حيث كان يجلس مع حيدر وشقيقهما الثالث عندما صرخ يحي بائع الخضار بأعلى صوته اسمه وكان الثلاثة يلعبون إحدى ألعاب quot;الشدّةquot; التي ازدهرت كغيرها من ألعاب الجلوس وquot;التنبلةquot; خلال الحرب.

بناء محترق _شارع هادي نصرالله-خاص إيلاف
نقله حيدر إلى المستشفى وقد وضع قميصاً بيضاء على رأسه سرعان ما تخضّبت بالدماء وهذا ما سمح لحيدر بالتعليق بصوت مرتفع عند كلّ مرور له في الطريق إلى المستشفى الوحيدة المتبقّية أمام أحد تجمّعات الناس عبارات مخيفة تدلّ على الغارات مثل؛ quot;فراغية لم يسمع صوتهاquot; وquot;في كتير إصاباتquot; وquot;لماذا لم ينقلكم الصليب الأحمرquot;. باختصار فقد قطع حيدر وشقيقه أنفاس السكّان وباتت دراجته النارية موضع شبهة على كافة الصعد؛ إسرائيلياً وضاحيوزياً.
يستمرّ محمّد في بكائه المضطرب دون أن يتمكن من كبح مشاهد المجزرة الدامية من الإندفاع إلى عينيه ومنها إلى كلّ كيانه. تتدفّق المشاهد حاملة أطفالاً كانت لهم أسماء وأفكار وأحلام وأحاسيس وآمال خضراء لا تقف عند حدّ. quot;ماذا لو كانوا أولادي!؟quot;؛ تخترق الفكرة قلب محمّد كالرصاصة في أزيزها المدوّي فتزيد من نحيبه المصحوب بعبارات التقرّب من الله والدعاء له.

مجزرة قانا الثانية أنست كثيراً من المهجّرين والصامدين في الضاحية الجنوبية على حدّ سواء المصاعب التي يعانونها في روتين حياتهم الجديد الذي لم يعتادوه بعد.

فالمجزرة نقلتهم مباشرة إلى مصير كان يمكن لأيّ مدنيّ - وما زال الإحتمال مفتوحاً- أن يتعرّض له؛ طفلاً، شيخاً أو امرأة.كانت المجزرة الثانية في قانا ستمرّ على والدي سوسن وإخوانها الثلاثة وأختها بكثير من الدموع والنحيب والمخاوف والعواطف المسافرة جنوباً مع ضحايا المجزرة.

كان ذلك مفترضاً لولا المجزرة الخاصة التي أصيبت بها العائلة باستشهاد سوسن وأبنائها الأربعة في مجزرة أخرى قبل يوم واحد في quot;النميريةquot; جنوباً. المجزرة الخاصة التي غطّت عمّا سواها وجعلت صورة الموت أسرع وأسهل لدى أهل الحيّ جميعاً لا لدى أهل سوسن فحسب.

جسر صفير -خاص إيلاف
quot;يا إم عماد.. سوسن بنت إم وسام وولادها ماتواquot;؛ يأتي صوت علي أسفل البناية ليصيب أمّ عماد بنوبة بكاء حبستها مذ سمعت الخبر عبر التلفزيون قبل قليل ورجت ألاّ تكون سوسن التي تعرفها. الآن تأكّد الخبر ومضت أمّ عماد بدموع متفجّرة حملتها رأساً إلى بيت أمّ وسام حيث تجلّى مشهد التفجّع كاملاً بمجيء أهل الحيّ الذين يحتفظ كلّ منهم بجزء من ذاكرته لسوسن وأبنائها. المشهد استعاد ذكرى الموت الجنوبي الأصيل بعيداً عن الأجواء العاشورائية الملتبسة للبكاء على الميّت. فالبكاء كان على سوسن وأبنائها ذلك اليوم. لهم ودون سواهم حين يشهد رأس أخيها علي الذي ضربه بالحائط مرّات ومرّات، ويد أخيها عبّاس التي جرحها وهو يضرب الزجاج بها، وقلب أبيها العليل المتسارع النبضات والشهقات، ونحيب والدتها الصامت والمرتفع تلقائياً مع صراخ لامرأة من هنا أو من هناك. سوسن وأولادها تملّكوا مشهد الموت كاملاً ذلك اليوم.

أخبار لمجازر، أهل لشهداء، نحيب وبكاء، غارات وملاجئ وخوف.. وصمود وكثير من الصمود يعيشه سكّان الضاحية الجنوبية التي لا تغيب طائرات الإستطلاع عن أجوائها فيشعر السكّان وكأنّها تلاحق خطواتهم. تلك هي أجواء الصمود بانتظار الإنتصار ولا شيء سواه.

دمار قرب مجمع سيدالشهداء-خاص إيلاف

شارع الأبيض في الضاحية -خاص إيلاف

في قلب بئرالعبد- خاص إيلاف

كانت محطة محروقات- خاص إيلاف

شارع هادي نصرالله- خاص إيلاف