بين رمي المناشير ووقف إطلاق النار
ساعتان في معوّض تخترقان حاجز التهجير

تصوير عصام سحمراني من ضاحية بيروت الجنوبية

عصام سحمراني : يجتمع مجلس الأمن تمهيداً لاستصدار قرار. يقوم الصهاينة بإضافة مجزرة في الشيّاح إلى سجلّهم الإجرامي.

ترمي الطائرات المعادية مناشير تطالب فيها أهالي المناطق غير المنكوبة في الضاحية الجنوبية والتي تمتدّ من الشيّاح إلى المريجة وبرج البراجنة وحيّ السلّم بمغادرتها فوراً. يظهر السكّان من مخابئهم بعشرات الآلاف لينزحوا عن المنطقة بسرعة قياسية. تبدأ الغارات.

دخان الغارات الصباحية ما زال يتصاعد في الضاحية الجنوبية ذلك الصباح منذراً بمسك ختامها ضدّ الأبنية التي ما زالت شامخة في سماء الضاحية الشامخة منذ الأزل.

سوق معوّض التجاري لم يخالف تلك الخصائص الصباحية رغم الدمار الذي ضرب قلبه وجوانبه على مدار الأيّام الأخيرة والذي لم يغب دخان مخازن أدويته وأخشابه التي طالها القصف عن سمائه فالخوف الأكبر لدى الإسرائيليين لم يكن من الصواريخ كما بدا بقدر ما كان من الخوازيق التي من المؤكّد quot;تنجيرهاquot; لهم في مخازن الأخشاب ومعهم جميع المستسلمين من الحكام العرب.

مضت العائلة نحو إحدى مدن الإستقطاب السياحية التي تعاون أهلها تماماً مع أفرادها على صعيد تأمين المسكن الملائم لهم.. فقط بألف ومئتي دولار كإيجار شهري يتيح لأربعة أشخاص لا أكثر منهم السكن داخل الشقة أمّ الباقون؛ quot;بالتهريب أدخلناهمquot;. أمضت العائلة الأيّام الخمسة الأخيرة مجتمعة في تلك المدينة الآمنة والتي تحولت شوارعها وأسواقها إلى مركز استقطاب للنازحين المتسوقين ليعوّضوا غياب الخليجيين عنها فكان التعاون الخادع منتشراً فيها على صعيد رفع أسعار كلّ شيء وكأنّ الأشقّاء الخليجيين ممّن يقصدون المدينة أشقاء أكثر من أشقائهم الذين يشاركونهم في هوية لبنانية ربّما بات من المجدي الآن الإستفتاء حول معناها.

العائلة كانت آمنة لكنّ مشغل الخياطة العائد لعلي كان في خطر داهم بما يحويه من بضائع تقدّر قيمتها بما يفوق المئة ألف دولار أمريكي؛ quot;حصيلة تعب السنينquot; تقول زوجته. حتى تيما الصغيرة التي لم تبلغ الرابعة بعد كانت تؤكد أنّها ستخبر رفاق مدرستها الفرانسيسكانية ماذا حلّ بمنزلها ومشغل والديها؛ quot;الإسرائيليي كسرولي كلّ اللعبquot; تقول الصغيرة بحزن.

المشغل بطبيعة الحال يقع في سوق معوّض المنكوب والمهجور والذي تحولت أبنيته غير المدمّرة إلى ساحات داخلية للزجاج وجدران الجبس والخشب المحطمة فوق الأدوات المنزلية والكهربائية والصناعية.

وهذا ما كانت عليه البناية التي يقع المشغل فيها حين وصل الأشقاء الثلاثة إليها بعد سرعة قياسية نقلتهم من مركز نزوحهم الجبلي إلى الضاحية المنكوبة.
الطرقات التي تحولت بعد أيام ثلاثة إلى يوم حشر حقيقي بعد إعلان وقف إطلاق النار بالسيارات والشاحنات والدراجات النارية والبشر الذين اخترقوها باشتياق إلى الوطن الوطن الذي يقصدونه حيث منازلهم وأرزاقهم ولو كان الكلام كثيراً ومليئاً في كثير من الأحيان بالكذب من أنّ الوطن لجميع أبنائه وأيّ مكان في لبنان هو لأيّ لبناني في مكان آخر.

كان ذلك وارداً لولا الهوية الطائفية لبعض المناطق التي رفضت التنازل عنها. الطرقات في ذلك الصباح الذي اخترقته سيارة الشبان الثلاثة كانت فضاءاً مليئاً بأصوات الطيران الحربي والدخان المستمرّ التصاعد من مناطق الضاحية الجنوبية. هم اعتادوا على هذه الأجواء التي ذهبت بأشغالهم المتنوعة أدراج الرياح فلم يبق لهم سوى إنقاذ ما يمكنهم من المشغل بعد تدمير كامل لواجهاته الخارجية الحجرية منها والخشبية فوق كلّ ما أمكن من أدوات وماكينات وطاولات.

دخل الشبّان الثلاثة إلى سوق معوّض من أحد متفرعاته التي لم تضرب بعد (ضرب في النهار نفسه بعد ذلك) ولم يتفاجأوا أبداً حين لم يجدوا نملة واحدة تدبّ في ذلك المكان الذي قيل عنه أنّه أفخم أسواق الضاحية الجنوبية يوماً ما.

وحدهم في ذلك المكان ركنوا السيارة بعيداً وسط الشارع المدمّر لئلاّ يقع مزيد من الدمار عليها من أحد الأبنية الآيلة للسقوط حتماً.

مضوا بعدها بسرعة أدرينالية اكتسبوها في الأيّام الماضية للحرب التي غيّرت شكل حياتهم تماماً إلى المشغل. الغارة ضربت المنطقة في فجر ذلك اليوم حاملة معها دمار الأبنية المواجهة إلى داخل المدخل الرئيسي لبناية المشغل الذي سدّ بالكامل بجميع أنواع الحجارة والزجاج وشظايا الصواريخ البارزة بفولاذها البشع كصانعيها ومستورديها معاً.

تخطّوا هذه العقبات المألوفة ووصلوا. تمرّ دراجة الدورية الخاصة بعناصر حزب الله سريعاً في الشارع دون أن تتوقّف لثانية واحدة فطائرة التجسّس (الأم كا) تدور في الأجواء منذ أيّام عديدة حاملة معها شؤم بداية الغارات واستهداف كلّ ما يتحرّك على الأرض.

الشبّان الثلاثة يجدّون في إزالة الركام عن الخزانة الحديدية الكبيرة التي تحوي ما تحويه من بضاعة تساوي آلاف الدولارات من لوازم فساتين السهرات الغالية الثمن كـquot;الستراس والشكّ والخرز والأزرارquot;.

ينجح الشبّان في ذلك ويسارعون إلى التفريغ العاجل في أكياس كبيرة بيضاء. وعلى مدار ساعتين كاملتين يفرغ الشبّان الثلاثة أكثر من سبعمئة كيلوغرام من داخل الخزانة وضّبوها في الأكياس وحملوها إلى السيّارة على مدار أكثر من عشر جولات من الصعود والنزول من المشغل وإليه على الطابق الثالث وعبر السلالم طبعاً.

السيّارة امتلأت وأنقذ الشبّان ما أنقذوه من الداخل وتركوا ما تركوه وانطلقوا بمظاهرهم التي تحولت إلى اللون الترابي كلون مدينتهم المنكوبة إلى أحد مستودعات الأصدقاء في العاصمة حيث أنزلوا البضائع مفتخرين بإنجازهم الكبير.

لم تغب طائرة quot;الأم كاquot; عن الأجواء، لا بل انسحبت قليلاً لتتيح لمقاتلات الأف 16 ضرب المنطقة مجدداً بعد مغادرتهم لها بربع ساعة لا أكثر. لم يضرب البناء الذي يقع المشغل فيه لكنّ الحائط الذي كان يسند الخزانة الحديدية العتيدة وقع ورافقته نحو نهايتها المحتومة أسفل الشارع.

هذا عن علي الذي أنقذ بعضاً من رزقه بمساعدة شقيقيه ودعاء الأهل. لكنّ كثيراً من السكّان ذهبت بيوتهم وأرزاقهم إلى غير رجعة، هذا عدا عن المئات من الشهداء والجرحى ومعطوبي الحرب القذرة العدوانية السادية النازية التي شنّتها علينا ديموقراطيات العالم المتحالفة مع قوى الشرّ الشيطانية في أنظمة عربية بتنا لا نطالب كشعوب مقموعة أمامها سوى الإنتقام الربّاني منها.

مؤكد أنّ كثيراً من المواطنين المنكوبين من قريب أو بعيد حزن وبكى ويئس وشتم ولعن وتطرّف جرّاء الحرب القذرة التي طالت أرواح بشر يشاركونه الهموم نفسها، وطالت أرزاقاً وبيوتاً له، لكنّ الأكيد أيضاً أنّ كثيراً من المواطنين أحسّوا بنوع من الإرتياح وإن لم يكن كاملاً من الموقف الصادق لأمين عام حزب الله الذي وعدهم بإعادة الإعمار ودفع التعويضات.

على أمل تحقيق كلّ ذلك دعونا نحتفل بإنتصار بات جميع العرب يحسدنا عليه.