قد لا أجد مقدمة مناسبة لهذا المقال، فهو لا ينزح لأن يكون قراءة في رواية، بل قراءة في مبدع، وهو ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً. هنا سأتناول رواية سعار الصادرة منذ فترة قصيرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر للكاتبة الكويتية بثينة العيسى كمولود أول لها على الورق، بعدما قضت سنوات إبداعها الأولى عبر أزقة الإنترنت سواء في المنتديات أو المواقع الثقافية المختلفة.
المشهد الكويتي يجعلك ترتبك، فأحياناً يرى البعض بأن من يتناول تجربة كويتية يحاول إقامة محاكمة للمشهد الكويتي، فهو مشهد مختلف لأن خواصه غريبة، من حيث العدد والمضمون والاتجاهات والإرهاصات التي يعاني منها، ولكون أغلب كتابه لم يتكئوا على عمق ثقافي كويتي فنهلوا من ثقافات أخرى كان تأثيرها واضحاً على نتاجاتهم التي يميل أغلبها إلى التقليدي. في نهاية الثمانينات حتى بداية التسعينات كان هنالك جيل شعري وآخر سردي في الكويت، برأيي لم يبرز منهم سوى اسمين شعريين ألا وهما: دخيل الخليفة وسعدية مفرح اللذين لم يمارسا العادة المتداولة في أن ينتهي وقتهما ويتحولان إلى تماثيل تدافع عن كلاسيكيتها، بل على العكس نزحا نحو كتابة قصيدة النثر وتجربتها وكذا تطوير تجربتهما في التفعيلة.
ماذا عن السرد؟ هنالك أسماء عدة ارتكبت القصة القصيرة، لكن على صعيد الرواية كانت التجربة فيها أقل طموحاً. قد يبرز لنا اسم إسماعيل فهد إسماعيل، لكنه ليس من الجيل الجديد ولا حتى من جيل الثمانينيات، ومنذ إسماعيل الذي مازال يكتب حتى الآن خرجت بعض المحاولات الروائية أغلبها لقصاصين وغيرهم لعل أبرزهم على الإطلاق ناصر الظفيري في روايتيه سماء مقلوبة وعاشقة الثلج اللتين كانتا روايتين مغايرتين من حيث البنية الخاصة، فأرى أن روايته الثانية هي الأبرز كويتياً على صعيد التكنيك السردي. ليعذرني البعض إن لم أجد ما يلفتني في المحاولات الأخرى وفي النهاية هذا رأيي الخاص. وللمصداقية هنالك رواية شابة خرجت منذ فترة لكاتبة قصة أيضاً وهي ميس خالد العثمان، ولست بصدد الحديث عنها، فأنا لم اقرأ روايتها بالكامل لأنني و للأسف الشديد حين وصلت للصفحة العاشرة لم تشدني الرواية وبذا تركتها.. لربما سأعود لها ذات مرة!
منذ صدور "سُعار" - وهي الرواية الثانية لبثينة لكنها الأولى من حيث إصدارها بسبب تأخر دار المدى بإصدار روايتها الأولى "ارتطام لم يسمع له دوي" والتي كما أعتقد أن عنوانها مستوحى من قصيدة للشاعر العراقي الجميل شعلان شريف – تناول عدة من الكتاب رواية بثينة في مقالات أو حوارات مفتوحة، كان مفتتح نقاش هذه الرواية يعول على قوتها، ثم بدأت الموجة المضادة للرواية و اعتبارها رواية رديئة حصلت على الدعم الإعلامي لا أكثر ! أنا شخصياً لا أجد في ما كتب ما ينصف موضوعية أن نناقش رواية "سُعار"، إن البعض للأسف لا يؤمن بنظرية "موت المؤلف" بل قد يحاكم سُعار لأن بثينة التي لا تعجبه كتبتها. لا أدافع هنا عن بثينة لأنني بصراحة لا أرتبط معها سوى بزمالة عادية جداً أنترنتية بالدرجة الأولى، إضافة إلى أنني أملك رؤيتي الخاصة حول سلبيات وإيجابيات الرواية، بل وسلبيات وإيجابيات بثينة
العيسى من منطلق كينونتها المبدعة.

تعقيب على التعقيب:
سأبدأ من ذيل القضية!. في البداية قدمت الشاعرة سعدية مفرح رواية سعار، و لا أعلم لماذا لا تتخلص بثينة من هذه الشكليات، فالنص المبدع لا يحتاج لمن يقدمه، بل إنها لو لم تفعل ذلك لتجنبت الكثير من اتهامات البعض بمحاولتها جلب التلميع الإعلامي بحكم شهرة سعدية مفرح باعتبارها شاعرة مميزة (وهذا رأيي الذي أؤمن به )، عدا ذلك أنه من الغريب أن تقوم شاعرة بتقديم ساردة، فالرواية عالم مختلف عن الشعر، يجب الإحساس به عن قرب، عالم مغاير وله رؤية فلسفية خاصة، ولعل أهم جزء في عالم الرواية تم إهمال الحديث عنه، ليس لعيب في الشاعرة سعدية، بل لأنه الإيمان بالمنطقة الفاصلة بين الشعر والرواية. تقول سعدية "هذه ليست مقدمة" وفي النهاية تقرر"هذه روائية ناجحة وهذه رواية ناجحة جداً" سأستغرب كقارئة هذا الحكم بينما ما كتب ليس بمقدمة، بل سطور قليلة تكلمت عن جو الرواية بشكل عابر و معقد، بصراحة هذا المفتتح هو بمثابة إعطاء صورة مقلوبة عن مشهد ما ! يقول جورجي أمادو مفسراً رفض فكرة أن يقدمه شخص ما : "روايتي ليست معاقة لتستعين بعكازة شخص آخر".
بعدها كتب الأستاذ جورج جحا وهو صحفي في وكالة رويترز عرضاً صحفياً عن سُعار، والتي يعتقد أن اسمها "سعاد" فجورج جحا الصحفي يصعب عليه إكمال الرواية إلى النهاية حتى يكتشف معنى كلمة سعار في منتصف الرواية، بل فضل الكتابة عنها من أول صفحات مقرراً بأن سُعار خطأ مطبعي – بما أنه كرر الخطأ طوال المقال - و الاسم هو " سعاد " بما أن البطلة بهذا الاسم ! والمعروف أن حجا يتعاون مع رويترز في عرض كل ما يصدر في الشام تحديداً.
ثالثهم الأستاذ طالب الرفاعي، وهو كاتب قصة كويتي، حين قرأت "عرضه" لسُعار شعرت بأن هنالك قصد في أن يتم تلخيص الرواية بأسطر بسيطة عبر الحديث عن أجوائها، ثم ببساطة إطلاق تصريح بروائية واعدة تجتاح عالم الرواية العربية !
هذا ما كتب إلى الآن في مقالات، وما عدا ذلك طُرح بشكل هامشي، وكنت سأضمنه لولا أنه من الصعب الحديث عن رأي غير مرصود في مقالٍ ما. برأيي ما سبق ذكره له أضرار جانبية على بثينة، فهي كما أرى تملك نصاً حقيقياً لكن هذه المحاولات جاءت في الطريق الخطأ، مع احترامي للأسماء و اختلافي مع الطرح.

الهامش:
قسمت بثينة روايتها إلى هامش ومتن، لغة الرواية قادرة على جذبك من أجل إكمالها، في الهامش تجد مساحة كبيرة تضعها الكاتبة مخصصة لهذا الجلد الذي يمارسه الإنسان مع ذاته، لربما ركزت بثينة على هذا الصراع الذاتي السيكولوجي مما أثر على جوانب كثيرة في عملها، ومن وجهة نظري كان هذا الجانب نقطة محسوبة لبثينة في تمكنها من فتح الأوراق إلى أعلى درجة أو بتعبير آخر الاستخدام العام للعقل كما يقول إيمانويل كانتْ.
المعضلة في رواية بثينة والمتواجدة في الهامش و المتن، لا تحسب ضد بثينة لأسباب سأذكرها، هي معضلة الحدث. والحدث الذي تتناوله بثينة في روايتها هو حدث قصة عاطفية بسيطة عن امرأة ورجل يضطرها أحياناً لطرح مشاهد مقاربة للمسلسلات العربية، مع محاولاتها توخي الحذر من هكذا فخ توقعنا فيه القصص العاطفية و رخامتها، هذا الحدث غير مؤثر في ذات القارئ، لا يحرك مشاعره و لا يأسره، لأنه مكرر واعتيادي، وهذا ما جعل بثينة تحول الهامش إلى مكان تقحم فيه القصص والمشاهد العاطفية، حتى أن البعض يرى في هذا الجزء مجرد جزء ممطوط و ممل! اتفق مع هذه الفكرة من حيث عدم تأثير الموضوع على القارئ، لكنني لا أجد أي مشكلة فيه لأن بثينة ترى الأمر من زاوية أخرى (على الأقل كما أتخيل) فهي تتعامل مع الرواية باعتبارها أكبر من قصة مؤثرة تدفعنا للبكاء، بل تريد توجيه فكرة معينة للالتفات لهذين الشخصين وهما من حياة ارستقراطية كويتية، تريد أن تسلط الضوء على هؤلاء البشر الساقطين تحت طحن آلة المادية، ومعاناتهم العاطفية كبشر عاديين مضطهدين اجتماعياً من قبل المجتمع ومغالطاته.
لكن ما يجدر ذكره أن كل الحوارات في الرواية مكتوبة بالعامية الكويتية، وهذا ما تبرره بثينة بأنه نقل للحقيقة فلا أحد يتكلم بالفصحى في الحياة اليومية، وهذا ما أتقبله واستغربه في آنٍ معاً، فهكذا تحول بثينة الرواية إلى آلية رصد للواقع، رغم أن الرواية هي حياة مستقلة بحد ذاتها، هذا يعني أننا سنحاكم بثينة في روايتها على أي شيء لا نجده متقاطع مع الواقع! إن هذه المحاولة في كتابة العامية ليست فريدة بالطبع، فقد كرسها من قبل الروائي العراقي فؤاد التكرلي وغيره، من المحزن أن يقرأ رواية بثينة شخص مغربي أو مصري و لا يفهم مفردة "اخترعت" مثلاً فهي تعني الخوف باللهجة الكويتية، بينما سيراها "اختراعاً"!!

المتن:
ها هنا بدأت بثينة بوضع الوجبة الدسمة والمختزلة، أصبح الحديث خارج عن القصة العاطفية المترهلة، ومتركز حول الإنسان و صراعه مع الذات ثم مع الآخر الإنسان و الآخر العسكرتاري، فهي تتناول قصة دخول الأمريكان على العراق، وترابط ذلك مع حياة الكويتيين بحكم انطلاق الحملة العسكرية الأميركية من الكويت، لم تستعرض هذا الاستنفار الذي حصل في الكويت و الخوف من الصواريخ و ما يترتب على أي حرب. بل رصدت أفكارها، ففي هذا الجانب مثلت "سعاد" أفكار "بثينة"، أو لنقل تلبست بثينة سعاد و طرحت مشاعرها جهراً، كيف تتناول الآخر كيف تفصله وكيف في النهاية تصارع ذاتها ثم ببساطة تهرب من محاكمتها لذاتها، كما عودتنا البطلة طوال الرواية. كتبت بثينة "المتن" باعتباره مذكرات يومية طوال الحرب، وكان بإمكانها أن تكتب هذه المذكرات بنفس سردي واحد، بل إنها كذلك لولا الفواصل التي وضعتها، لم تتضح لي الحكمة في استخدام هكذا تكنيك، حد أن البعض قد يعتقد أن بثينة عاجزة عن فعل "النفس السردي المتواصل" لذا تقوم بتقسيمات سهلة!.
كانت هنالك اقتباسات Quotes مضمنة في الرواية من "اللا منتمي" للإنجليزي كولن ولسن، بوذا، و ت. أس. إليوت. لربما وجدت اقتباس أو اثنين فقط متناسبين مع نسيج السرد، أما بقية الاقتباسات فقد كانت مقحمة بالفعل، بمجرد أن تشطبها تجد أنها لا تضيف أي شيء للرواية، والمعذرة حين أرى في ذلك مجرد استعراض عضلات فكرية لا أكثر، لا تحتاج له بثينة.
وبمناسبة ذكر كولن ولسن بدت بثينة متأثرة به ليس عبر قراءتها لـ "اللا منتمي" فقط، بل عبر قراءتها لسيرته الذاتية "رحلة نحو البداية" الصادرة عن دار الآداب البيروتية منذ فترة طويلة، فأفكار كولن ولسن التي لا أحب الكثير منها بينما أحب طريقة تفكير ولسن، تتأثر بها بثينة بشكلٍ ما، خصوصاً رؤيته نحو الرواية باعتباره روائي بالدرجة الأولى، لا أعلم لماذا حين قرأت السطر الذي تجد فيه كلمة "سعار" في رواية العيسى، تداعى لذهني سريعاً جملة من سيرة ولسن الذاتية، مما يجعل الجملة الأولى والثانية متقاربتين فيقول ولسن:
"ورحت أبحث عن المجلات العلمية بجنون أو سعار كسعار مدمن الخمر في البحث عن الويسكي". أما بثينة فقد جعلت الجملة مشابهة سوى أنها تصف بها سعار البطل في بحثه عن حبيبته.. لا أعلم، مجرد تناص لربما!

قد أبالغ، ولكن لو كان في الرواية عيوب كثيرة أجد أن لغتها تغفر لها – حسب رأيي فقط – فلغة السرد جميلة جداً وهذا يعتمد على أن بثينة لها محاولات شعرية وترغب بطرح مجموعة شعرية، في البداية لم أحب قصائدها لأنها نزحت لتقليد قصائد الشاعرة اللبنانية سوزان عليوان فمرام المصري و أوكتافيو باث و غيرهم.. لكن الآونة الأخيرة قامت بكتابة قصائد جميلة جداً منها "أزرع وطناً في أصيص" و"البارعون"، ثم فجأة تغيرت لنصوص تهويمية لربما كمحاولة لخلق خطاب أو فكرة صوفية ! يضايقني أن لغة الرواية لم تسلم من بثينة، فرغم جمال هذه اللغة إلا أنها أحبت دائماً أن تستخدم مفردات متحذلقة كتلك التي لا ينفك المثقف عن استخدامها رغم أنها ذات نبرة تركيبية معقدة لا داعي لها، مثل أن تقول : " اللا ضياع اللا نهائي !" أو جملة مقاربة لذلك فيبدو أن الكاتبة تحب هكذا مصطلحات ولم تنس تكرارها هذه "اللا" كثيراً لأسباب أو دون أسباب.

http://mona0.jeeran.com