من المؤكد ان العمل الثقافي المؤسسي المحترف في العالم المعاصر قد بلغ شأ وا من النضج والرسوخ، وتراكمت في مسار الأمم ومنجزها وتاريخها محصلات ثرة تتيح لكل طالب خبرة ان يتعلم وهو في سبيله للأحتراف. وعلى هذا لم تعد مؤسسات الثقافة المحترفة في تجارب الأمم المتحضرة او تلك التي تدرج في مسار التحضر وتتوق اليه، تعمل على طريقة التجربة والخطأ وكلما اتت امة لعنت اختها او انها تنظر للثقافة على انها مطية للهوى والميول الذاتية والخاصة وحتى المواقف الشخصية وكلها من علامات امم غارقة في الوهم والتخلف بينما هي تعيش فصاما قاتلا بأنها تنجز الروائع.... والروم خلف ظهرك روم.
ما يدفع لهذا القول هو اعلان الحكومة برنامجها للمئة يوم المقبلة في بلادنا وفي حقل الثقافة تحديدا، وهي مسألة تخصنا جميعا في مجتمع الثقافة وحقولها وآفاقها ومنه الصحافة الثقافية الوطنية والحرة فضلا على مؤسسات الثقافة غير الحكومية وتاليا جمهور المثقفين المعنيين بما يقال ويكتب ويخطط بالنيابة عنهم عبر المؤسسة الرسمية وهو ماانا بصد د مناقشته في هذه الورقة. لكنني قبل الخوض في المشكل، لابد لي من تذكير نفسي اولا والقارئ ثانيا ان العملية الثقافية في اطارها المؤسسي المحترف انما تنطلق من (فكرة) ما، اي انها مقترنة بدافع وتأسيس واع، فكرة فيها روح الحداثة والتحضر والواقعية،و هو الذي يؤطر العملية ويشكل ملامحها، ويرافق هذه الفكرة في مرحلة صعودها تبلور (فلسفة) ما للمخططين للثقافة، رؤية ما قابلة للحياة وقادرة على النمو وبالأمكان ان تعبر عن تطلعات مستقبلية واقعية وعملية وفي حالة الثقافة امكانية التعبير عن المجتمع الثقافي، وتجسيد تطلعاته وافقه الحضاري الأبداعي واما الحلقة الثالثة فهي مرحلة العمل والأنتقال من الفكرة والفلسفة الى التجسيد العملي للرؤى والتصورات وحتى الأستراتيجيا الثقافية وهو ماكتبنا عنه مرات كثيرة في الف ياء الزمان وناقشناه في اروقة الوزارة ومؤتمراتها واجتماعاتها وكنا ننتقد ونصوب كما نقترح ونعزز مسيرة العمل الثقافي المخلص.
على هذا احسب ان اية خطة للثقافة العراقية من المفترض ان تسلم بهذه المعطيات الأساسية قبل ان تسطر بنودا ومقررات. لكن ماهو مهم ايضا ومسلم به هو الأنطلاق من القول الحكيم الذي يوصي بالأستعانة من اهل كل صنعة بالصالح والمحترف من اهلها، بمعنى ان خطة الثقافة لايمكن الا ان يسطرها المثقفون انفسهم او ان يكون لهم صوتهم المسموع فيها، على اساس فرضية مفادها: ان زمن الدكتاتورية والفوقية والبيروقراطية والشللية التي كانت تتحكم بمقدرات الثقافة العراقية قد ولى والى غير رجعة.
أأتي الى خطة الحكومة ذات المئة يوم، فقد بلغ مجموع كلمات الخطة بحسب مااعلن حوالي (80) كلمة... واشتملت على ماهو آت: (تطيبيق منهاج وطني يرعى الأدب والثقافة... وايجاد الحركة الفنية والثقافية والأدبية الجديدة الملتزمة.. الأهتمام بالمبدعين من علماء ومفكرين وادباء... تأسيس النوادي الثقافية.. اقامة المسارح ودور النشر.. احتضان المواهب والطاقات الناشئة..)...
هذه هي الخطوط الرئيسة للخطة الوزارية لمئة يوم قادمة، ومن الواضح ان هنالك تفاؤلا ملحوظا تعوم في عالمه هذه الخطة يتمثل في انشاء المسارح ودور النشر والنوادي الثقافية وهو ماسننتظر بفارغ الصبر اخبار احالته الى الشركات المتخصصة لبنائه وبعد مئة يوم تفتتح تلك المسارح الأفتراضة ودور النشر ومااليها... ونفرح كلنا...
واقعيا احسب ان لدى خبراء الثقافة في هذا البلد اكثر من خطة واقعية وعملية تستند الى (فكرة) وتعبر عن فلسفة ورؤية واقعية وعملية لوظيفة ودور المؤسسة الثقافية وهي مسألة مهمة في فهم المشروع الثقافي، واستيعاب مساراته، وهنالك كثير من التحديات والمعضلات الحقيقية التي تفتك بالواقع الثقافي والتي لاينبغي التغاضي عنها وتهميشها لأن العنصر الأهم في نجاح اية خطة للثقافة هو انطلاقها من الواقع الثقافي بكل مافيه وليس من المكاتب المكيفة واحلام اليقظة او الوعي واللاوعي.
يوما ما... كان مثقفو هذا البلد قد التأموا فيما عرف ب (مؤتمر المثقفين) وماكان ذاك مؤتمرا عبثيا ولا مؤتمرا سياسيا خاصا باليسار او اليمين او الجنوب او الوسط او الشمال وماكانت هنالك ايديولوجيا شرقية ولا غربية قد بشر بها ذاك المؤتمر او القائمون عليه، بل كان عراقيا خالصا لنخب رصينة من المثقفين ومن خبراء الثقافة وكان المشهد متنوعا بتنوع الطيف العراقي، قدم المؤتمر صورة حقيقية ومؤشرات عملية ربما احرجت مؤسسات الوزارة التي نظمته و باعتراف الوزير السابق عندما صرح عقب المؤتمر ان توصيات ومقررات المؤتمر اثبتت وجود خلل في الأداء كما انها تضع مؤسسات الثقافة في الوزارة امام مسؤوليات وتحد حقيقي باتجاه الشروع في تنفيذ التوصيات والمقررات .
اليوم يبدو ان تلك التوصيات وكل التحضيرات وكل اللجان الأستشارية قد ذهبت الى ادراج الماضي، وما تم انجازه وعبر شهور طوال من التحضيرات المكثفة والأجتماعات لاندري ان كان له من اثر في الخطط الجديدة ام اننا سنواصل النهج اياه القائل (سنبدأ من الصفر) وهي سنة الأمم المبتلاة ببلايا مزمنة من مخلفات الأنظمة التوتاليتارية.
الأمل هو ان يتواصل تأسيس التقاليد التي لم يصنعها وزير سابق للثقافة، بل رسمها وأسسها المثقفون الوطنيون المخلصون بصرف النظر عن توجهاتهم ورؤاهم وانتماءاتهم، لأن الأساس هو ثقافة العراق ومستقبل هذه الثقافة وتطلعات المثقفين الذين سينتظرون وسيراقبون ماسيتم انجازه في سقف المئة يوم من انجاز.. بينما لو كانت النظرة اكثر واقعية لأخذ رأي المثقفين انفسهم في خطط ثقافة بلادهم لأن المؤكد الذي لاخلاف عليه ان (الثقافة) ومؤسساتها لايمكن في يوم ما ان تجير لصالح تيار ولا فئة ولاشخص ولاحزب، لأنها ببساطة هوية الوطن التي لاتقبل الأجتهاد في قراءتها، هي ثقافة الوطن التي تعني المثقفين اصحاب المنجز الثقافي والتاريخ الثقافي المرتبط بروح الثقافة العراقية ومكابداتها وشجونها ومعضلاتها وحيث اهل مكة ادرى بشعابها وتعرجاتها.
- آخر تحديث :
التعليقات