الرمزي والسريالي وخلود اشارات السير الحمراء
بيروت من جورج جحا (رويترز): في مجموعة quot;هي البدايةquot; للكاتبة القطرية مها الهنداوي يواجه القارىء اساليب ورؤى فنية مختلفة بل متناقضة احيانا ومتفاوتة في الجودة الفنية احيانا اخرى. اجواء قصص مها الهنداوي خليط من الرمزي والسريالي الذي تحتشد فيه الافكار والمشاعر.. والواقعي الذي يصل الى مستوى quot;العاديquot; وتكاد تخبو فيه اللمعة الفنية وهو قليل. بعض هذه القصص يشكل قصصا فنية كاملة بل مميزة ومنها ما هو اقرب الى لوحات فنية رمزية وقسم اخر كقصة quot;انتحار شاعرquot; مثلا يبدو اقرب الى ان يكون حالة تتداخل فيها اجواء الاساطير والمقالة الوجدانية. بعض نتاج مها الهنداوي الكاتبة والباحثة يشبه حكايات واقعية او صفحة واحدة منتزعة من حياة متعددة الصفحات.. بل هو اقرب الى نقل حالة او تحول من حالة الى اخرى كما في قصة quot;انقلابquot; التي تكاد تكون تقريرية. الا ان معظم هذه القصص quot;يقولquot; اكثر مما يبدو على quot;السطحquot;.
مجموعة مها الهنداوي التي درست في الولايات المتحدة وتشغل وظيفة مدرس مساعد في جامعة قطر كما تعمل في وظيفة استشاري ارشاد في مركز الاستشارات العائلية اشتملت على 14 قصة توزعت على 93 صفحة متوسطة القطع. وقد صدرت المجموعة عن دار quot;فراديس للنشر والتوزيعquot; في البحرين. لوحة الغلاف هي رسم من اعمال الفنانة دلال القيسي.
في القصة الاولى quot;اشارتنا الحمراءquot; يتجاور الرمزي والعبثي. الرمزي يبدو كأنه يتحدث عن وضع بلدان تشبه بلدان هذه المنطقة من العالم. اما الاطار الذي يرد فيه ذلك فيبدو فوق الواقع واقرب الى عالم الاحلام احيانا من حيث حركته ومن حيث كون الاحلام قابلة للتفسير وانها قد تكون انعكاسا لواقع.. وquot;الانعكاسquot; هنا هو بمعنييه الاثنين quot;المراتيquot; ناقل الصور.. وذلك الذي يرينا النقيض.
والانعكاسان لابد من ان يأتيا في غالب الاحوال في جو يراوح بين الضباب وبين الاقنعة وهناك في الحالين شيء من الاختلاف اذ لا يمكن ان تكون الامور صورا او حالات طبق الاصل. واللعبة الفنية هنا ذكية وموحية وقد تكون الأبرز بين القصص من الناحية الفنية. فهي عبر شيء من quot;اللامعقولquot; تنقل quot;وضعا عاماquot; يشبه هذه quot;اللامعقوليةquot; ويتحول الامر الى اوطان لا تسير امورها سيرا صحيحا. ويغدو ما كان يفترض ان يكون حالة توقف موقتة الى quot;اقامة دائمةquot; بل الى تخلف راسخ.
نبدأ بمشكلة مألوفة نوعا ما. اشارة السير الحمراء لا تنطفيء. يتجمع صف من السيارت في انتظار اشارة التحرك لكن دون نتيجة. يزداد صف السيارات طولا وترتفع الاصوات والتأفف والاحتجاجات. يقول الراوي quot;تفاءلنا خيرا عندما رأينا شرطي المرور يقطع الشارع من بعيد متجها الينا... حدق في الاشارة. نظر إلى ساعته... هز كفيه مستغربا. انتظرنا اكثر وقد اصابنا الملل والضيق. تجمعنا مرة أخرى نتباحث حلا. علت الاصوات بين معارض ومؤيد... فما لبثنا ان رأينا ضابطا تبدو عليه علامات التوتر والانفعال متجها نحونا بخطى سريعة...quot;
quot;بعد حوار مع الشرطي اخذ ينظم صفوف السيارات ليفسح في المجال لسيارة سوداء ذات ستائر كي تمر.. والحجة هي quot;ان السيارات السوداء اكثر امتصاصا لحرارة الشمس.quot; وتستمر الحكاية ففي اليوم الثالث قضى التعب على عدد من الناس فأحضرت اوراق للتوقيع والبصم وفي اليوم الرابع صدرت اوامر بتوفير الطعام. في اليوم الخامس احضرت اغطية ومفارش وملابس. في نهاية الاسبوع تلقوا وعدا بانهم سيتوجهون إلى منازلهم وأعمالهم. اليوم الثاني من الاسبوع الثاني كان مخصصا لترتيب quot;الخطبةquot; ووضع المنصة والسجاد الاحمر لقدمي الخطيب وتجهيز مكبرات الصوت. وعلى غرار قول لسعيد تقي الدين ان quot;أطول ساعات العمر هي التي نمضيها بين ..سيداتي سادتي.. وعاش لبنانquot; نقرأ ان الخطيب جاء quot;فأشاد بموقفنا العظيم... والتزامنا بالوقوف.. اعتذر لنا ونحن بدورنا صفقنا فشكرنا مرة اخرى.quot; وقبل ان يغادر قال انه سيتصرف.quot; ما زال الرجل يؤكد لنا انه سيتصرف وما زالت الاشارة حمراء وما زلنا واقفين ملتزمين إلى الان.. ننتظر.quot;
قصة quot;الحفرةquot; نموذج موفق فنيا ايضا ويمكن اختصار اجوائها بما يلي quot;لكن .. الذهب ينفد شيئا فشيئا إلى أن ينتهي في يوم وتبقى الحفرة تكبر وتكبر.. فتقتلنا... لم يكن يعلم ذلك عندما ترك زوجته وأولاده واتجه إلى تلك الارض التي قيل عنها أنها تعطي ذهبا... قرر العودة لكن الحفرة تكبر... ظلت تلاحقه في اليقظة.. رأها في المنام تقترب منه فتتهاوى فيها جثته...quot;
تجف الاحلام اذن وتلتهمها الحفر أو هي تلتهم أصحابها في البحث عن quot;الدورادوquot; أو المدينة الضائعة. تضيف القصة أنه ظن أنه نهض من نومه لكن عينيه بقيتا مغمضتين quot;لا يستطيع فتحهما.. حاول لكنه سمع نواحا.. ولولات وصراخا.. انها أصوات أولاده وزوجته... هل وصلتهم الحفرة فدفنوا فيها. قالها وهو يحاول أن يفتح عينيه لكن لا جدوى.quot;
قصة quot;انتحار شاعرquot; تتحدث عن شاعر يقلب وريقات الروزنامة (اليومية) ويتساءل عن الاتي من خلال الوريقات التي لم تقلب بعد. يقتحم غرفته رجال يحمل كبيرهم صوتا يتلوى في يده كالافعى quot;إنه الجلاد بلا ريب.quot; نقلوه إلى زنزانة صدئة القضبان مليئة بالاوساخ وأغلقواالباب عليه. وجد بين الاوساخ قصبة حولها إلى مزمار. اذن الشاعر انسان أسير في هذا العالم. لكنه يغيره ويجمله. موسيقى اسير الزنزانة حولت الاوساخ الى عالم quot;جماليquot; وتسللت عبر الجدران توقظ النائمين quot;لقد آن لتلك القلوب المتحجرة ان تنتفضquot; لكن ردة الفعل كانت ان صرخ الجلاد قائلا quot;ينبغي اسكات هذه النغمات قبل فوات الآوان... لا بد للمزمار ان يخرس... اقتلوا الشاعر.quot;
وكما ان مصرع ادونيس مثلا في الاسطورة لم يمنع عودته الى الحياة في اشكال اخرى.. وبعد ان شرح جثمان الشاعر وقطعت اوصاله كما في اوزيس واوزيريس نجد ان quot;حشرجة المزمار الحزينة ما زالت تسبح في الفضاءquot; وانها تحرك الكائنات كما كان مزمار quot;اورفيوسquot; يفعل.
في قصة quot;انقلابquot; جو عادي عن عودة الانسان الى الامور التي فطر عليها. وفي quot;قيود لا تموتquot; يتحول الانسان الى اسير حلم ويبدو الحلم سرابا. وفي عمر متقدم يتحقق الحلم بصورة ما لكن الانسان الذي تعود على السعي والركض لم يعد هناك. في قصة quot;مفارقةquot; مثلا نموذجان واحد للوجاهة والصيت والشهرة والمنابر والسفر.. واخر طالب جامعي ينتزع من منزله ويدفن حيا في زنزانة ليعذب ومن ثم يختفي الى الابد.
التعليقات