مبكراً رحل الأديب السوري فوزي معروف الذي نذر عمره مدرّساً وكاتباً وباحثاً ومؤلفاً، وقلماً خصباً ساهم في زيادة دائرة النور والمعرفة من حول طلابه وأبناء مجتمعه، فلم يختلف اثنان على مكانته واحترامه، فهو المربي الذي أعطى وبذل واخلص في كل الميادين ، وهو الغارس والزارع ،وما زرعه سيظل مغروساً في نفوس من عرفه وتتلمذ على يده، فكان المعلم ممن نفخر بانتمائهم لمهنة التعليم الذي بذل الغالي والنفيس ليعلم الأجيال ويلقنهم المعرفة، لذلك جعل الطلاب وأولياء أمورهم والناس كلهم يحترمونه ويحبونه ، وهو أيضاً الكاتب العربي،والمناضل الوحدوي الديمقراطي،الملتزم تجاه قضايا الإنسان العربي خصوصاً، والإنسان بشموليته،أينما وجد من أجل الحرية والتحرر والعدالة والتقدم . لقد كان رحمه الله في كل ما كتب يهتم بأن يقدم الحقيقة إلى الناس، ومن أجل الوصول إلى الحقيقة كان عليه أن يتعب، وأن ينقب، وأن يدقق، وأن يقارن بين المراجع المختلفة، وأن يباعد بين عواطفه وبين نتائج أبحاثه، فلا تأخذه العصبية إلى طمس ما يجب أن يعرفه الناس، وبقي على مسافة من الجميع وفقا لقناعاته.ولم يتأخر أبداً عن إعطاء كل ما لديه من معرفة، ويقدم خدمات لمن يقصده من الطلاب والمثقفين، لقد خسر طلاب العلم أستاذاً كبيراً، صرف عمره في طلب المعرفة والمزيد منها، فقرأ كثيراً وكتب كثيراً،وكان حريصاً باستمرار على تطوير نفسه وتزويدها بالعلوم والمعارف التي تجعله ينمي معلوماته وثقافته.
أيام مرت على رحيلquot; أبا عمرquot; فلا آلاف المعزين فيه في السويداء ولا مئات الذين رافقوه إلى مثواه الأخير في مدينة ملح، ولا عشرات زملائه وأصدقائه في اتحاد الكتاب العرب ،ونقابة المعلمين والمجالس والمنتديات الثقافية ،وطلابه في كلية التربية في جامعة دمشق ،استطاعوا حتى الآن أن يقنعوا أنفسهم بالقدر المكتوب، وكلهم يتكلمون عنه وكأنه مازال بينهم، ولم أجد أحداً ممن عرفه يصدق حتى الآن أن الأديب الإنسان فوزي معروف لم يعد بيننا وانه لن يطل علينا فجأة بطلته البهية وابتسامته التي كانت لا تفارق شفتيه، وروح البساطة التي كان يتمتع بها،فهو رجل الأخلاق الحميدة، ومثال الشهامة والكرامة والوفاء وحسن المعشر،وكل ذلك انغرس حباً في أفئدة الجموع الغفيرة التي شاركت في يوم وداعه،وعيونهم فياضة بعبرات تحرق المهج ،ويا ليت الظروف سنحت لي كي أتمكن أن أكون في مأتمك في جبل العرب، فالراحل دخل عمق مئات القلوب وملأها بكل معاني الاحترام،وحتماً ستبقى أيها المربي ذكرى عطرة في قلوب محبيك في مختلف المحافل الأدبية والفكرية والتربوية التي بذلت فيها الجد والاجتهاد والانجازات، وكنت في مسيرتك المنتج حتى اللحظة الأخيرة في حياتك الحافلة،فسلام على من أعطى ، ليصبح أنموذجاً للعطاء والتضحية.
ستفتقدك أيها المعلم كل هذه الميادين التي أعطيتها عمرك، وتعب السنين، بأعمالك وإنجازاتك، ومؤلفاتك، ومساهماتك ،وندواتك ،كأستاذ جامعي، ومؤرخ في العديد من القضايا الثقافية والأدبية . سنشتاق إليك يا quot; أبا عمرquot; كلما تطلعنا إلى صدر مكتبتك الزاهرة التي اعتدت أن تتوسطها في البحث والقراءة ونيل المعرفة، دائباً في طقوس الكتابة اليومية،ككاتب يتم تقبله ورصده وقراءته من داخل أصالته الإبداعية.
سنشتاق إلى محاضراتك وتدفق لغتك وانسيابها التي تجعل من كتاباتك مرآة صافية صفاء ثلج حرمون ،ووعدنا لك أن يبصر النور في القريب العاجل كتابك quot;نيران على القمةquot; الذي يتحدث عن الثورات ضد الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان، والذي كنت قد وضعت عليه لمساتك الأخيرة قبل رحيلك، والى جانبه كامل محاضراتك ودراساتك الأكاديمية والأدبية التي كنت في صدد إصدارها ،لتضاف إلى مؤلفاتك التي نشرت ،نقدمها بفخر إلى القارئ العربي ،ونحن واثقون من أنها تمتلئ بالحصاد الإنساني والأدبي والتاريخي.
أيها المربي الفاضل ،هي سنوات قليلة التي عرفتك فيها فكانت مجرد لحظات مسروقة من القدر المرتقب، لكنني أعتز بأنني عرفتكَ وتعلمتُ منكَ الكثير ولو لمدة قصيرة جداً، وأنا محظوظ لأنني تكلمتُ إليك وتقربتُ منك ،فكنتَ الحنان الدافئ,وفي شواطئك الحب الصادق،ويا لها من صدفة أن آخر جلسة جمعتني بك قبل شهور خلت ، بل أخر صورة تذكارية التقطها إلى جانبك،كانت في ذات المكان الذي غادرتنا فيه ، تحت شجرة التفاح ،وسط بستانك الأخضر، الذي زرعته بعرق جبينك والرزق الحلال، ،وأنت تمسك بيدك المعول والقلم اللذان شكلا سيرتك الناصعة بحب الأرض الطيبة ونيل المعرفة ، أليس الكل تحدث عن كتابك الأولquot;هكذا يصنعون أنفسهمquot;؟ الذي أصدرته قبل عقد من زمن،فحمل شعلة الإيمان بقدرة الإنسان هذا الكائن الذي يزداد ويتكامل فيه الوعي على تحقيق ذاته،والانتصار على نفسه أولاً وأخيراً،فأردت من خلاله أن تكون صفحات هذا الكتاب قبساً من نور في ديجور الظلام الحالك الذي نجتاز،وشجاعة في الصبّر على قسوة الظروف الذاتية والموضوعية المحيطة ،كما الشجاعة في الإرادة والعمل المستمر من أجل الوصول إلى الهدف المرسوم .
وداعاً أيها المربي الفاضل بأخلاقك وشيمك ومواقفك ومبادئك.. وهكذا ستبقى بعد رحيلك، غائب كبير، حاضر بيننا وبين أهلك وعائلتك ورفاق دربك، سوف نفتقدك كثيراً، لكنك ستبقى الغائب الذي لا ينقطع له تأثير في جيلنا وكلّ الأجيال القادمة ،ألست أنت القائل : quot; على الزارع أن يزرع،وليس عليه أن يعرف أين تقع كل حبة من بذره،فالمهم الزرع الصالح،وبالتالي فالعمل والإرادة يحققان المستحيل بل إنهما يحققان الممكن ولا حدود مرئية لهذا الممكن الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان quot; .
صحفي لبناني مقيم في الإمارات
التعليقات