صالح كاظم من برلين :قبل يومين، على وجه التحديد في ليلة عيد الميلاد، مرت الذكرى الخمسين على موت الكاتب والشاعر السويسري روبرت والزر الذي توج بموته ثلاثين عاما قضاها في مصح للأمراض العقلية في إحدى القرى النمساوية القريبة من مسقط رأسه، بيل. ربما كانت هذه الذكري ستمضي بلا ضجيج لولا الإهتمام الذي أحاط بأعمال الكاتب في بداية السبعينات ومازال مستمرا حتى يومنا هذا، سيما بعد أن تم حل العديد من الألغاز المرتبطة بما تركه من إرث جرى الإتفاق على تسميته بـquot;الكتابات الرصاصيةquot; ndash;نسبة الى قلم الرصاص- ، والمقصود بها تلك الكتابات التي بدأ بها الكاتب بعد دخوله المستشفى وقراره النهائي بـquot;التخلي عن الكتابة بالريشة ndash;الحبر- والعمل من الآن ولاحقا بقلم الرصاص.quot;، كما ورد في رسالة له الى صديقه وناشر كتبه لاحقا كارل سيلش. وفي الواقع فأن هذه الأعمال كتبت على ماتوفر من الورق بما في ذلك الوصولات وبطاقات التنقل بالباص..الخ، وذلك بحروف بالغة الصغر، يعجز المرء عن قرائتها، إلا من كان خبيرا بتحليل الخطوط. من هنا فما زال العمل جاريا على تحليل هذه الكتابات كجزء من المساعي المتواصلة لإصدار الأعمال الكاملة للكاتب في حلة جديدة.

يقول والتر بنيامين عن روبرت والزر: quot;شخصيات رواياته تأتي من الليل، حين يزداد ظلاما. وهي بذلك تكون قد تركت الجنون وراءها وغلفت نفسها بجدار من السطحية الوحشية تمنعنا من سبر أغوارها.quot; وهو بذلك يكون قد مهد لكاتب آخر ستلقى كتاباته مستقبلا صدىً أكبر أسمه فرانز كافكا الذي بقيت أعماله حية في الذاكرة الثقافية للقرن العشرين بعد أن جرى نشرها تعارضا مع وصيته من قبل ماكس برود. ولست هنا في مجال المقارنة بين كاتبين أستطاع كل منهما، على طريقته، من وضع اليد على الجرح الإنساني في القرن العشرين إرتباطا بتهافت الأسس quot;التنويريةquot; للمجتمع الرأسمالي وما تركه ذلك من آثار على الفرد، بل يبدو هذا الإستطراد ضروريا لوجود الكثير من الخطوط الإبداعية المشتركة بينهما، مما يؤكده الإنبهار المبكر لدى كافكا بما قرأه من أعمال والزر، وما أكده فيما بعد الياس كانيتي الذي كان من أكثر أدباء القرن تحمسا لأعمال كافكا، إذ قال: quot;والزر أكثر جذرية من كافكا، وليس من الممكن أن يكون كافكا بدون والزر.quot;
يقول والزر: quot;أنا أكبر وأصغر سنا من كل الشبان والشيوخquot;، واضعا بذلك حدا مستحيلا لكل من يريد الخوض في تجربته الفنية والحياتية التي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر وأنتهت بسقوطه ميتا وسط الثلوج في 1956 إثر نوبة قلبية أصابته أثناء قيامة بإحدى جولاته المعتادة التي كان يعتبرها من ضرورات الحياة. في روايته الأولى quot;الأخوان تانرquot; يموت أحد أبطال الرواية أثناء نزهة وسط الثلوج في عيد الميلاد. هل تنبأ الكاتب بذلك بموته بعد ما يقارب 48 سنة على ذلك؟ سؤال لا يمكن الإجابة عليه بسهولة.

أثناء حياته الأدبية القصيرة (1932-1904) كتب روبرت والزر الكثير من الأعمال التي وضعته في الصف الأول من دعاة الحداثة في الأدب وجذبت إليه أنظار زملائه من كتاب تلك المرحلة ومنهم روبرت موزيل وهرمان هيسه وآرتور شنتزلر والشاعر كريستيان مورغنشترن وغيرهم، ومن ضمن هذه الأعمال: quot;الأخوة تانرquot; وquot;ياكوب فون غنتنquot; وquot;الخادمquot;.

وقد بنيت هذه الروايات وكذلك قصصه القصيرة التي نشرت في الوقت ذاته على تجارب مستقاة من حياته الخاصة التي قضا جزءا كبيرا منها في العمل كموظف في بنك، أو كسكرتير خاص ومساعد لبعض الشخصيات الإجتماعية في سويسرا، بعد أن فشل في الإلتحاق بمعهد التمثيل تحقيقا لحلمه الكبير في أن يصبح ممثلا. يقول سيمون تانر، أحد أبطال رواية quot;الأخوة تانرquot;: quot;لقد أثرت غضب العالم وهاهو يقف أمامي مثل أم غاضبة ومهانة. وعلي أن أدفع ثمن كل ما أهملته وخسرته وحلمته ولم أنتبه له وكل ما تبقى من جناياتي..quot;

روبرت والزر الذي كان يعشق التجوال على قدميه لمسافات طويلة، وذلك حتى أثناء إقامته في المصح، مات أثناء واحدة من هذه الجولات تاركا للأجيال آلاف الوريقات وقصاصات الورق التي مازالت تضع الباحثين أمام جملة من الألغاز التي تنتظر الحل.