محمد مزيد من بغداد: عندما نتجول في شارع الثقافة العراقية. ايامنا هذه. سنجد بدون ادنى شك تأثيرات ذلك الحصار الدامي الذي فرضه النظام الشوفيني على الشعب العراقي ابان فترته المظلمة. خصوصا على المثقفين العراقيين الذين تحايلوا وصمتوا وتواروا عن الانظار. والذين كانوا بانتظار ان تمطر تلك الغمامة السوداء كي يخرجوا الى النور. مما استولد لديهم سلوكا ثقافيا في غاية الطرافة والحزن والمأساة. ربما لم يمر به مثقفو اي بلد عربي اخر من قبل وربما من بعد.

ذلك السلوك يعد الان من مخلفات الماضي لكنه مازال يلقي بظلاله على الحراك الثقافي مما انتج فيما بينه وبين العالم المنفتح المصاريع لغة وخطابة تحتاج منا التوقف عندها لتسليط الضوء عليها.. اذ مازال المثقف العراقي الذي حوصر اكثر من اثنتي عشرة سنة يركض خلف الكتاب المستنسخ. الذي اعتاد عليه في تلك الايام. والذي غالبا ما يكون سببا لاطلالته على العالم واساسا في التواصل وتلقي رسائله وخطاباته.

هذا شارع المتنبي الذي يكتظ كل جمعة بالمثقفين العراقيين والباعة المتجولين الذين يتبارون في ايجاد الكتاب الثمين المفقود في المكتبات. ستجد فيه الكتاب المستنسخ او الكتاب المنسوخ على جهاز الدفلوب هو الاكثر رواجا و طلبا وهو الاكثر ترجيحا في البحث والتنقيب.. بينما الساحة العراقية بعد ان تفتحت ابواب الحرية قد احتشد فيها كل ما يتمنى المثقف العربي الحصول عليه.

تعود قصة الكتاب المستنسخ الى تلك الايام السود التي انغلقت فيها السبل للحصول على الكتاب الثقافي. فكان ذلك دافعا لمجموعة من المثقفين الصامتين الرائعين ممن تيسرت لهم الحال ان يسعوا الى تصوير الكتب الثمينة. في المعارف كلها. اللغوية والادبية والفلسفية والنفسية والدينية. لتباع هذه الكتب باسعار زهيدة ويثلج بها صدر المقتنين. والحكومة كانت تدرك جيدا ان شريحة المثقفين هم دائما كانوا الاكثر خطرا على وجودها لانهم كما تعتقد يحملون شعلة برومثيوس ويتنقلون بها من مكان الى اخر. ويروجون لها من الكلام الى الصمت ,, رغم ان عيون عسسها كانت ترصد بدقة ومجهرية ما يمكن ان يفعله هؤلاء الصعاليك الذين انصرفوا عن ولائم الدكتاتور ليستطعموا جوعا شفافا لم يخرجهم عن طورهم ولم يدخلوا حلبة المنافسة غير الشريفة لتلميع وجه الطاغية القبيح. كان كل همهم الوصول بالكتاب الى اولئك المتصامتين المتوارين عن الانظار القابضين على الجمر بانتظار انتهاء فصول مسرحية المهزلة التي استمرت ثلاثة عقود وبنجاح قل نظيره في الفشل.

اصبحت تجمعات المثقفين المتوارين فيما بينهم تشكل نمطا يوميا من السلوك. كان احيانا يجلب بعض السرور لصدورهم المختنقة بالالم.و لان ما ارادت التعتيم عليه دولة اللاثقافة بات مكشوفا. وكان شارع المتنبي يشهد. كل اسبوع. وفي كل جمعة. همسا بالغ الخطورة. لم تستطع اجهزة النظام الفاسد القبض على لغته الغامضة السحرية.
وتكونت لدى المثقفين مكتبات مستنسخة. حروفها ناعمة صغيرة يخالطها الحبر ورداءة الورق. وكانت كل اسباب ايقاف عجلة الثقافة التي جندت الحكومة لها ما جندت من الترغيب والترهيب تبوء بالفشل مادام هناك من يمد المتعطشين للمعرفة وقد انكروا ذاتهم بل ان بعضهم ذهب الى دروب الموت الحتمي ولم يثن ذلك الاخرين الذين اضاءوا الحياة الثقافية العراقية بهذا العطاء الثر الجبار.
شاعر يقول : لست ادري كيف يمكنني ان اصف تلك اللحظات المجنونة التي وقفنا فيها نتحدى الطاغوت لنرسل الكتب المستنسخة الى المبدعين العراقيين مقابل اثمان بسيطة ربما تسدد بالكاد تكلفة الورق والحبر.
لماذا يبحث المثقفون عن تلك الكتب المستنسخة بينما شارع المتنبي يكتظ بكل ما لذ وطاب. انه الاعتياد على هذا السلوك. كان هناك شبه اجماع على ان ما كان يفعله المثقفون تلبية لاشباع فضولهم المعرفي يعد من الناحية النفسية نضالا سريا ضد الاستبداد والقمع والسواد الذي عممه خطاب الشوفينيين. هذا الشعور يثير طعما اخاذا باذخا في نفوس المثقفين لذلك كانوا يهرعون الى سوق الكتاب في شارع المتنبي بحثا عن تلك السعادة الباطنية التي عاشوها. وليس خافيا ايضا ان الكتاب المستنسخ مازال الى الساعة الاكثر رواجا بين الكتب الاخرى.
هذه الظاهرة الا تحتاج الى دراسة؟ ربما !