حوار مع المخرج العراقي عرفان رشيد:

التحدي الأساسي هو الحفاظ على التعددية في العراق

حاوره في روتردام محمد الأمين: ولد المخرج والصحافي العراقي عرفان رشيد عام 1952 في مدينة خانقين بالعراق. نال شهادة التخرج من أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد وغادر العراق الى ايطالياعام 1978 حاز على جائزة (إسكيا) لعام 2004 وهي أهم جائزة ايطالية في مجال الصحافة والاعلام. ألّف بالإشتراك مع اند ريا موريني و آنا دي مارتينو كتابIl Cinema dei Paesi Arabi، يعمل عرفان رشيد مديراً للتحرير للقسم العربي في وكالة (آكي) الإيطالية للأنباء، على هامش مشاركته بفيلم quot;بازولينيquot; في مهرجان الفيلم العربي بروتردام، كان معه هذا الحوار:

*بعد تجربة طويلة في العمل الاعلامي، سواء الصحافي او التلفزيوني، شاهدنا تجربتك الأولى في الحقل السينمائي، لماذا بازوليني تحديدا؟
- quot;لستُ سينمائيا بالمعنى الدقيق للكلمة، أنا في الحقيقة خريج مسرح من اكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، ولكن عملي في التلفزيون اتاح لي الفرصة في أن تكون لي علاقة بالسينما كمتابع وكمساهم في تنظيم تظاهرات سينمائية، وكمحاور لعدد من المخرجين العرب والعالميين وقد ساهمت أيضا في الاعداد لتظاهرات سينمائية عربية في ايطاليا، وانجزت كتابا مع زملاء ايطاليين عن تاريخ السينما العربية بالايطالية.
بالمعنى السينمائي اعتقد بان السينما الحقيقية هي العمل السينمائي الروائي المُنجز بالمواصفات السينمائية. وقد كانت اعمالي في جزء كبير منها في مجال البرامج التلفزيونية الوثائقية. اما العمل الأخير الذي انجزته، وعنوانه quot;بازوليني، الشاعر الذي رأى...quot; فقد كان عبارة عن تحية لهذا الشاعر والفنان الكبير الذي قتل في منتصف السبعينات في ظروف غامضة لكونه شاعرا متميزا وناقدا للواقع السياسي والاجتماعي وذا بصيرة ثاقبة مكنته ان يتوقع حتى مقتله.توقع الكثير من الامور قبل 35 عاما وقد تحقق جزء منها، كهيمنة المجتمع الاستهلاكي الذي يسود اليوم في المجتمعات الحديثة وسيطرة رأس المال على مقدرات الشعوب. كما أشار بازوليني الى التأثير السلبي الذي تمارسه وسائل الاعلام في تسطيح الثقافة وافراغها من مضامينها العميقة وإلغاء خصوصياتها المحلية.
حينما فكرت بانجاز هذا العمل بمناسبة الذكرى الثلاثينية لمقتل بازوليني كان في ذهني أكثر من شاعرعراقي قتيل، ولكني اخترت اسما واحدا كي يكون نموذجا او يكون حاملا لراية الشعراء الشهداء في العراق وهو الشاعر العراقي محمود البريكان. وقد قتل غدرا لان الاخرين لم يرتضوا له ان يعيش حريته التي اختارها بعيدا عن الاضواء، قتل وهو لا يمتلك سلاحا للدفاع عن نفسه سوى سلاح الكلمة. والقتلة يخشون الكلمة.

* بما ان فيلمك يتناول حياة شاعر وسينمائي، ترى ماهي الاضافة التي يستطيع الشعر ان يقدمها للمخرجين العراقيين في تأسيس سينما ذات خصوصية عراقية؟
- لا أعتقد أن بإمكان الشعر أن يُعطي شيئاً مباشراً، لكن بإمكان السينمائيين الاستفادة من خصوصية الشعر في الاختزال وفي توليد الصورة. متى ما كانت صورة المخرج بنفس قدرة الشعر يُصبح العمل كبيراً وخالداً. بإمكان الشعر أن يتحول أيضاً إلى أداة هامة في السينما التوثيقية والتسجيلية، تلك السينما الضرورية للغاية والتي تواجه هي بدورها خطر التسطيح الذي يمارسه التلفزيون عليها. أعتقد أن على السينمائيين ألاّ يخشوا أو يهابوا في التعامل مع ما يُنجزه الشعراء من نصوص.
من جانب آخر أرى ضرورة أن يولي السينمائيون العراقيون اهتماماً كبيراً للتوثيق. أدرك انه صار من شبه المستحيل أن يسير سينمائيونا في شوارع العراق وهم يحملون كاميراتهم، لكن الحدث السياسي والعمراني والاجتماعي السائر حاليا وفق وتيرة سريعة وخطيرة تُفضي إلى عملية نسخ مستمر للواقع ما قد يؤدي إلى مسح الذاكرة البصرية لواقعنا، ومن المعروف ان الحرب تسعى في واحد من مساعيها لالغاء الذاكرة، والعراق هو اليوم في حرب وعلى جبهات متعددة ضد القوى التي تحاول نسف الهوية العراقية وهي قوى إرهابية ظلامية. تركيزي يصب على التوثيق من أجل الحفاظ على الذاكرة العراقية من الضياع، وهو توثيق لايقلل في جميع الأحوال من أهمية انتاج افلام روائية. قصيرة او متوسطة او طويلة، لان العمل الروائي هو السينما،أما العمل التوثيقي فيغلب عليه الطابع الاجتماعي والثقافي والسياسي والتاريخي.

* هل هناك امكانيات تساعد على انجاز اعمال وثائقية بالمستوى المطلوب؟
- نعم، فثمة طاقات ومواهب كبيرة والمطلوب هو ان تتظافر الجهود بين عدة مشارب فالسينما لاتقوم دون الرواية او دون الموسيقى أو الديكور ودون المخرج ومقومات مهمة اخرى، هناك عدد كبير من الروائيين العراقيين الذين سجلوا منذ سنوات طويلة تفاصيل وانطباعات الفرد العراقي في بنية روائية محكمة ودقيقة وعلى السينمائيين العراقيين أن يحذروا من الوقوع في فخ سينما المُخرج، فذلك سيحول دون الانفتاح على الاشكال الأدبية التي رصدت الواقع العراقي وفي مقدمتها الرواية العراقية. ولنأخذ السينما الواقعية الايطالية مثالا، فهي لم تصل الى مستويات رفيعة الا من خلال انفتاحها على الواقع المعيوش.وبداياتها كانت من حكايات الناس ومن الشارع والأمكنة العامة،ومن الدمار الذي خلفته الحرب.

* ثمة من يرى ان على السينمائي ان يواصل عمله الابداعي حتى في الظروف التي ينعدم فيها الأمن،وثمة من يعتقد ان السينما صناعة لاتتطور الا في مناخ يسوده الأمن والاستقرار؟
- أعتقد أن الأمان والديمقراطية عناصر ضرورية للسينما كفن وكصناعة أكثر من اي عمل فني آخر كالفن التشكيلي او الكتابة الروائية، وهناك ايضا مافيات ارهابية تعيق الانجاز السينمائي في العراق، اذ تنظر الى الفن السينمائي كواحد من المحرمات والأعمال المنافية للدين، ولانعرف على أية مصادر ظلامية تعتمد هذه الميليشيات في رؤيتها للفن والسينما والمسرح، وهي تصورات تتنافى مع أصول الدين الاسلامي، الدين الاسلامي برأيي لم يتخذ مواقف ضدية من الابداع، بل على العكس من ذلك انه يحث على الابداع والمعرفة، والاية القرانية التي تقول: quot;انما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ quot; واضحة في دعمها للعلم، والسينمائي له دور علمي من خلال قراءته للمجتمع والعلاقات الانسانية وتواصل الانسان مع الكون.

* من خلال عملك في مجال الصحافة ودورك في اقامة ورشات عمل للصحافيين الشباب، كيف تنظر الى الصحافة العراقية سواء في داخل العراق أو خارجه،وماهي التحديات التي تواجه الصحافي العراقي؟
- quot; لننطلق أولاً من التحديّات. والتحدي الأول والأساسي هو تحدي التكوين. نحن في العراق، وبرغم كون عمر الصحافة أكثر من قرن، نكوّن الآن إعلامنا وصحافتنا التي، وبرغم المخاطر، بدأت تخلق أجواء التعددية. ليس كل ما يُنجز أو يُنشر جيداً، إلاّ أنه يمثل مرحلة مخاض هامة للغاية ستلد بالتأكيد رؤى مختلفة، متصارعة، متباينة لكن مكمّلة إحداها للأخرى. تلك هي الديموقراطية. لقد رُفعت الكمامة عن الأفواه وبدأت الأفكار التي كانت حبيسة العقل والروح بالانطلاق. تحدينا ألاساسي هو الحفاظ على هذه التعددية من الانزلاق إلى خانات التشاتم والتهاتر.
صحافة الخارج كانت هامة للغاية، لكن صحافة الداخل هي الأساسية. ينبغي أن تنصب جميع الجهود في ذلك الاتجاه، بمن في ذلك نحن الذين ما نزال نعمل خارج الوطن. الصراع بين غد العراق، الذي نطمح أن يكون مشرقا،ً وأمسه الملئ بالظلمة والدماء، يجري هناك على أرض العراق. وما لم تتظافر كل العقول والرؤى ستكون المسيرة شائكة أكثر مما يُرتجى.

* الا تعتقد ان ثمة مسافة زمنية هي ضرورية من اجل انجاز توثيق فني للواقع، وان القبض على الواقع واسراره يتطلب الخروج من دوامته؟
- بالتأكيد. لا وجود لأي عمل فني دون تمثّل كامل للأحداث. لكن حتى التوثيق، الذي يمثّل بشكل أو آخر نظرة مبدع ما في لحظة واحدة، بإمكانه أن يتحوّل إلى مفردة هامة لقراءة الواقع. دعني اعطيك مثالاً بسيطاً: من كان بإمكانه أن يتصوّر أزياء الفراعنة دون أن تكون الإهرامات ملأى بمفردات توثيق سجّلها الفنانون الذي عاشوا في تلك الحقبة. من أنجز الزي أو رُقُم البردي وثّق الأمور في تلك اللحظة من الحقبة الفرعونية. لكن ذلك التسجيل الصنائعي أصبح أداة هامة لقراءة تاريخ الحضارة الفرعونية. في زماننا الحالي نمتلك أدوات توثيق سريعة، وهي هامة للغاية لأن عمليات التحوّل العمرانية، سلبأ أو إيجابياً، تُجري تغييرات سريعة للغاية. إنها تأثيرات لا تمس فقط الشكل العمراني بلا أيضاً صلة البشر بالعمران نفسه. لذا فإن التوثيق يسجّل الطابع البنائي والسوسيولوجي والاقتصادي والسلوكي معاً. الأمر يُصبح أكثر تعقيداً في واقعنا العراقي الذي مرّ بالديكتاتورية وبالحروب. الديكتاتور حاول أن يصوغ كل شئ باسمه، فمن كان سيضمن أن تكون لدى لأجيال اللاحقة الصورة الحقيقية لواقع الآثار في العراق أو لبغداد ما لم تكن هناك وثائق مصوّرة سينمائياً أو فوتوغرافياً. وبرغم أنني أعارض توفير الدعاية التلفزيونية المجانية للإرهابيين، كما هو حاصل الآن عندما تتهافت أجهزة الإعلام على تصوير وتقديم فظاعاتهم، فإنني أرى ضرورة أن تُسجّل كاميرات المخرجين كل تفاصيل تلك الأحداث المرعبة. إنها جزء من ذاكرتنا الجماعية التي ستكون يوماً ما سلاحاً ضد الظلامية والإرهاب.