بجنوب مصاب بصيف رئوي حاد، أذيب تضاريس الثلج لأبدد هالات البرد عن جلالة الشتاء. وأنكش رعونة القَرَسِ بهجير الظهيرات، وأطرد رطانة القشعريرة بخبل هبوب السموم.
لعلّي بذلك كله، أفتح سدود العزلة، ليندلق نهر الأعزل منساباً رادعاً ضفتيه بأمواج الشعر الراقصة ألقاً بنشوة الإنعتاق من أصفاد شتاءات النفي ومواسم الخرس وغياهب الإقصاء. ولعلّي بشباك المودة، وربما بسنّارات الإغاضة، أنتف زغب الخجل، أو بعض قتامات الانزواء، عن حقول عامرة بالخصب، عبقها جديرٌ بالشهيق، وبريقها أحق بالانتباه، وثمارها آيلة للقطف. وعلى قدر ما أتحلّى به من جنون التّلَذّذِ بشهوة الاكتشاف بين ركامات البوح المهولة، وفي غمرة هوسي في التنقيب تحت أطلال الهذيان المعرفي، وبعد تجوال مضنٍ، لوّحَ لي الشعر مبحراً يمخر عباب العتمة، بمرادي الاجتهاد وهي تجلد مشاحيف الانصراف صوب آفاق المطلق، توقاً لما هو حلمي وأخّاذٍ ومدهش. تأملت كثيراً قبل أن أدع الحاسوب يفضح انبهاري باشتغال الشاعر (الأعزل) وهو يشج برؤاه، رأس الكارثة التي حلت به منذ فراره من حروب بلاده التي أذكاها الفرّانُ وهرب إلى حفرة، أنهت طغيانه. وتأخرت كثيرا قبل أن أدحرج أول حرف على بياض الصفحة، لأن مخيّلتي الموقرة وبعد لأيٍ ملحوظ صفعتها بمفردة (جنوب) والذي أتصور بسخونته المرعبة وبأفرانه الجحيمية التي تشوي جسدي الآن، سأتمكن من تفتيت جبروت (شتاء الأعزل) للشاعر شعلان شريف، والصادر في كتاب غجر 1، ضمن سلسلة شعرية تصدر عن مجلة غجر ndash; هولندا - 2005
يبتدئ الكتاب بـ (النهار) وينتهي بـ (الليل وهوامشه) فارشاً تجربة منفاه القسري بدءاً ببغداد وانتهاءً بهولندا. يسأل عن معنى النهار الذي يتربص للإطاحة بأحلامه وتوقه لعيشٍ بلا وجع. غير أنه يرى النهار (آلةً) تمعن في التأثير على حيوات الشاعر :
آلةٌ.. تملأ القوارير بذكريات العشاق وأحلامهم. آلةٌ.. تجمع صرخات الغرقى وتدفنها في الضباب. آلةٌ.. ترسم في الهواء خارطةً للغائبين، لشحوبهم.. لصمتهم.. لأجسادهم التي تكتظّ بجثث العصافير...
وداخل أقفاص الأسر في رفحاء يتعالى (الرنين.. لتزيين الذكرى) حيث عالماً من الألم نتيجة الاحتباس المثير للقنوط المفضي للحنق على سوء المعاملة التي تعرض لها هناك هو ومن معه من الأسرى، والتي فضحها كتاب lt; جمهورية رفحاء gt; لصديقنا الشاعر طارق حربي. في دهاليز الحيف تلك تخترق الذكريات جدران الزمكان، لتسيل أو تنثال أو تتمطى طفولته وصبابته وفتوته التي سلخته أمانيها عن ذويه لترمي به في أتون دكتاتورية رفحاء.
فبل عدة جدران استعدَّ للرحيل : تخلّص أولاً من عينيه، رمى يديه خلف السياج، وبصعوبة بالغة، استلّ شرايينه واحداً واحدا، وتركها تنبض على الرّف، ثم فكّر : لابدّ أنّ اللصوص سيكملون المهمة!. أن سياقاً كهذا يشير إلى أنه شاعر يكتب متنا شعريا ذا منظومة بث ٍ تعمل بكفاءة لاستدراج القراءة على الغور بعيداً في بنياتها ذوات البعد العمودي مرجعيا، وهذا ما يمنحها سحر الإغراء لقراءتها بتأنٍّ وتفرّس شديدين، بوصفها نتاج مخيلة ذات فطنة في تمثل مرجعياتها الحياتية والمعرفية، لينأى المتن بعيدا عن البوح ذي البعد الأفقي مرجعيا والذي يوقعه في السطحية. وفي (نسياني الأبيض.. تعاويذي السوداء) وعبر كوة الذكرى راحت تتسلل بانوراما حياته الفائته، وربما ينسلّ هو إليها، ليثمل خاشعاً لحيثياتها المهيمنة على عارضات ذاكرته أينما حل : ولن أصل إلى الدمية النائمة قرب طفولتي، لن أتلمّس بهاء الجنة المحاورة لأحلامي.. دائماً هناك ما يتساقط على سطح المنزل، هناك ما يذبل في كف القابلة، هناك ما ينحني لفتنة القتيل. وفي (انعتاق الأخطاء من سلطة اليد)
يستثمر ثيمة الشك الفلسفية لفتح ملفٍ سريٍّ عن أخطائه المتناسلة على سيناريو حياته، وذلك عبر مشهد متخيل تنفتح صوره على بعضها في سردية تمددت على متوالية سطور تنتهي بأسئلة :....ألتفت إلى المنعطف القادم، حيث تنتظرني حواسي نائمةً في صندوق بأقفال بيضاء، أفتحه لأجد كلّ ما سقط سهواً أسفل الطريق : كذبة الجسد، أنثى، نظرات مبللة كأنها ثلج يحوك مؤامرة (ثلجٌ يرمّم بالأخطاء أنوثة المعنى)... كيف أغلق ثقوب هشاشتي؟ نائمُ في الغواية (أو غوايةٌ نائمة)، أيّتها اللغة أيّ فحولة ترتجينها في هذه المساحة العزلاء؟ ما جدوى البياض؟ وفي محاولته للإشتغال مع الأسطورة في (صحراء آدم) يحاكي شخصية آدم في تحولاته الاستكشافية لمعرفة كنه وجوده منذ خطيئة قظم تفاحة المعرفة وطرده من جنة السعادة، إلى صحراء العذاب الأبدي، وتيه اللهاث اليومي المقيت
lt; الأرض gt; : أنا الذي جعل المرآة تنزف، وعلّق الفأس في عنق غيمة نائمة، فمن يرشدني إلى الطوفان / الطوفان لأغرق، أو إلى الساقية / الساقية لأغفو؟ من يحمل الجرّة إلى آدمَ، قبل أن يغلق صحراءه، وينام...؟ (الغيابة العظمى) نص يجوس منحاً وجوديا في تقصّيه لكنه ميتافيزيقيا الوجود، وذلك من خلال تصور متخيّل ليوم الفناء الآدمي، وافتراض حوار تساؤلي واخز مع lt;lt; عنقود أسراره gt;gt; القاطن في الأقاصي : الآن أيقنت أنك أنت أعدائي، قلت لعلّكَ الأعلى.. فتسلّقت صوتي، وكانت المآذن تغرق في حشرجاتها،
قلت لعلك الأسفل.. فرأيت في جمجمتي نفقاً يعوي، وعظامي شوارع في الصحراء، ليس الأعلى والأسفل سوى أوثانٍ تنهش لحم الفراغ! ل شيء فوقي سوى جثة تفتش عن غراب،
(هل يكفي هذا لتصبح الأرض مساحةً لضجيجنا؟) ويعمد في متون (الوافد : مصائد ومخارج) و (3 لوحات) و (الليل وهوامشه) إلى الإفادة من الطاقات التعبيرية للقصيدة ذات المقاطع القصيرة، في سيميائيتها اللغوية الموجزة والمحملة بالتشفيرات التأويليه والدلالية والرمزية والتخمينية والحضارية والداعمة لمعاني القصيدة. فتراه حينا يعتني برسم
الصورة : ينزلق من عري إلى آخر، ممسكاً بلهاثهِ خشية السقوط، مأخوذاً بإيقاعات الهدم.
أو يلجأ إلى التدوير الشعري : أسوار.. تفصلني عن الصحراء، التي تفصلني عن المدن، التي تفصلني عن البحر، الذي يفصلني عن... أو يدعم المقطع بهامش، وهي محاولة لإعادة كتابته، لفتح قنوات جديدة لولوج المعنى. هامش4 : مطمئناً أخرج إليك أيها الليل، فقد تركت جسدي نائماً، ألقيت عليه أغطيةً ثقيلة، وأوصيته أن يحتفظ لي ببعض الأحلام.
بعد هذا الإيغال العجول في المتون، نستنتج، أن لا رادع للشعر حين ينثال من المخيلة. ولا رادَّ له في ترحاله عبر اللا مأهول، ولا وصايا أو محددات أو مصدات لكيفيات مثوله أمام التلقي، هو جريانٌ حثيث ومتواصل ينضح من منابع شتى، في جدلية انبثاقٍ دائمة الحراك.
بيد أن الشعر الجاد والأبدي الحضور، من يتمتع بمنظومة اتصال عالية الكفاءة في البث المعرفي، والتي تمكنه من الصمود أمام نزوعية وتمترس منظومة التلقي في كل حين،
ويبدو أن فكرة موت المؤلف البنيوية، فيها شيء من الإنصاف لماهية الإبداع، وذلك لانصراف هذه الفكرة التام إلى النص دون سواه، للتعرف على آليات حسن إنتاجه وحسب، دون الانشغال باعتبارات أخرى لا علاقة لها بالعمل الإبداعي، وحسبي وفقت في وقوفي على كتاب الشاعر الأعزل، الذي لم ألتقِ به أبدا إلاّ من خلال كتابه الشعري هذا، والمرسل لي عن طريق الصديق عدنان الفضلي، والذي نَمَّ عن مخيلة مجبولة على تقصي تضاريس الشعر الأكثر وعورة ومغامرة، وهو أعزل فعلاً، إلاّ من مرجعيات ثقافية خصبة، مكّنته من دحض متاريس الذائقة الخام والكسلى الباحثة بطبيعتها عن السهل اللا ممتنع.