1
بظهور ثلاثيته الروائية، quot; لفلكيون في ثلثاء الموتquot; (1)، إتضحت أكثر فأكثر ملامح أدب سليم بركات، الفنية. هذا الكاتب، الذي خط لنفسه أسلوباً خاصاً، فريداً، غيرَ مطروق من قبل في فن الرواية العربية. ولكي يستجلي المرءُ تلك الملامح، الموسومة، فلا محيدَ عن إلقاء نظرة خاطفة، شاملة لأعماله السابقة وتقييم بعض الدارسين لها. فإذا كانت رواية بركات، الأولى، quot;فقهاء الظلامquot;، قد إختارت وقائعها من الشمال السوري، المحاذي للحدود التركية والعراقية، فقد تفردت التالية، quot;أرواح هندسيةquot;، بإختلاف موقعها المكاني؛ حيث تدور حكايتها في بيروت عشية الإجتياح الإسرائيلي عام 1982. إنّ quot;الريشquot;، هي العمل الروائي، الثالث، الذي فيه يعود المؤلف إلى التطرق لموضوعه الأثير، والمنابع التي سبق له أن نهل منها فنه لما يزيد على العشرين عاماً : نعني إتجاه الخارطة ثمة، إلى الشمال المحتضن طفولة مؤلفنا وصباه، وما يفتأ مساكناً ذاكرته؛ هذا بالرغم من وقوع حوادثها الرئيسة في قبرص. وإذاً مع quot; معسكرات الأبد quot;، تكون التجربة الروائية لسليم بركات، قد إنتشرتْ على مساحة زمنية تقاربُ العشرة أعوام، يستطيع فيها المتتبع لرحلته الإبداعية أن يتلمّس الوشائج الممتدة بين تلك الروايات، الموسومة. هذا، وعلى الرغم من تميّز quot; أرواح هندسية quot;، الملاحظ آنفاً، بيْدَ أنّ روايات الكاتب، إجمالاً، تعالج قضية أساسية : هيَ المصير الإنساني في بحثه المثابر عن هويته ومغزى حياته. هيَ ذي إذاً، روايات أربع، لم تتطرق لموضوع مشترك زمنياً، إلا أنّ أسلوبها الفني كان واحداً؛ لا من حيث شفافية الرمز حسب، بل وأيضاً لكون نماذجها البشرية تشترك في سمات متماثلة، فضلاً عن المرامي الهادف إليها كل من تلك الأعمال.

2
quot; فقهاء الظلام quot;، تدور حوادثها في quot; القامشلي quot;؛ هذه المدينة، التي تبعد أمتاراً قليلة عن الحدود التركية، المحاطة بسياج من الأسلاك وأرضها مزروعة بالألغام. واقعٌ مأزقٌ، لم يمنع المهربون، على الأقل، من تحديه بالتسلل عبر حدوده، جيئة ً وذهاباً. سردُ الكاتب هنا، المتسم أحياناً بالمبالغة، يتطرق لحركات أولئك الرجال الجسورين، الخارقة؛ وهيَ أساطيرٌ، على الأرجح، يتناولها الأهلون في أحاديثهم من جيل لجيل، مستقرة هكذا في لا وعي الكاتب، منذ طفولته. سمة موحدة لهذه الرواية الأولى، مع شقيقتها quot; معسكرات الأبد quot;؛ ألا وهيَ quot; التكرار quot;، الحاصل للحدث نفسه، عند كل بداية للفصل المقترح : ففي تلك الأولى، يضعُ كاتبنا تحت مجهره ـ حاله في ذلك، حال المخبريّ ـ كل خلية من خلايا البطل، راصداً عملية تكوينه الجنينيّ في رحم أمّه. فيما نتابع، في quot; معسكرات الأبد quot;، تفاصيل الصراع الضاري بين الديكيْن : هنا وهناك، يشكل التكرار هذا، جزء صادق وعميق الدلالة في النسيج الكليّ للسرد، كما سيمرّ معنا في حينه بخصوص العمل الروائي، الأخير. حكاية quot; فقهاء الظلام quot;، يمكن تلخيصها ببضعة أسطر، لا أكثر : quot; الملا بيناف quot;، الرجل المكتهل، يُرزق بمولودٍ ذكر، ذي طبيعة خارقة للمألوف؛ يُعطيه إسم quot; بيكس quot;. فهذا الأخير، ينمو بصورة عجيبة، فلا يمضي نهار اليوم الأول، الشاهد لولادته، إلا ويضحي رجلاً مكتملاً، ناضجاً؛ حدّ أنه يطلب من الأب عروساً لنفسه (!).. لا بل سيضطردُ المولودُ الجديد في العمر ليلتئذٍ، فيماثل أبيه سناً ويحرجه قدام أهالي الحيّ، الذين قدموا لمباركته فيه : quot; هكذا ينسج الكاتب سليم بركات روايته، quot; فقهاء الظلام quot;، خالقاً جواً من الفنتازيا المستمدة من الحياة الواقعية لهذا المجتمع الكردي quot;. (2)

هذه الرواية، التي إمتزج فيها، ككل إبداعات الكاتب، الجانبُ الواقعي بجانب ميتافيزيقي، حالم باليوتوبيا المؤملة في مستقبل مخلّص؛ تتجلى واقعيتها، أيضاً، بإضاءاتٍ ضافية في هذا الإتجاه. فهيَ تذكّر المرءَ بسيرة كاتبنا، الذاتية، كما قرأناها في مؤلفيْه quot; الجندب الحديدي quot; و quot; هاته عالياً.. quot;. في هذه الأخيرة، رأينا كيف كان المعلم الحزبيّ الغريب، المستبدّ، يضطهد التلامذة ويشتم أمهاتهم، كونهم أكراداً. ولكنه لا يلبث مع سقوط النظام الحاكم آنئذٍ، أن يلقى مصيراً قاسياً على أيدي هاته الأمهات، جزاء غروره وصلفه وعنصريته (3) : بينما في رواية quot; فقهاء الظلام quot;، يقدّم مؤلفها صورة اخرى للمعلم، الغريب؛ هذا الشاب المستنير، الذي يحاول نشر معتقده التقدميّ بين تلامذته. بيْدَ أنه، بدوره، يلقى مصيراً لا يقل قسوة على أيدي الأهالي، وهذه المرة بسبب إستهانته بمعتقداتهم وتقاليدهم، ليكون جزاؤه بترهم لأصابع يديه، ومن ثم طرده خارج منطقتهم. على أنّ المجتمع يدفع أيضاً ثمناً لتلك الفعلة، الموصوفة، بما يلقاه من عذاب الضمير. فها هيَ أصابع تنمو في الأرض، مشيرة نحوَ الأهلين بالإتهام والإدانة. فكان أن عمد هؤلاء إلى تكليف الجدّ quot; عفدي quot; حارساً للحقل، ليحصدَ ثماره الدامية تلك، كلما نمت من جديد. جديرة بالملاحظة كذلك، وظيفة الجدّ quot; عفدي quot;، المذكورة آنفاً، مع وظيفة الحارس quot; شاشان quot; في رواية quot; معسكرات الأبد quot;. لا بل إنهما هنا وهناك، كما لو كانا إنعكاساً لصورة اخرى، واقعية، سبق وقرأنا عنها في سيرة الكاتب الذاتية؛ ونعني بها quot; سيفي quot;، حارسة الجداول. (4)

3
الخيوط السحرية، المنتهية ببيئة الكاتب، كما تأثرنا بعضها في كلتا الروايتيْن الأولى والرابعة، والمنسوج منها عالمهما؛ هذه الخيوط، تتقطع بنا نوعاً، ونحن في المعبر المودي إلى روايته الثانية، quot; أرواح هندسية quot;، التي تدور حوادثها في بيروت خلال أوائل الثمانينات. ولكن لمَ آثر كاتبنا كسْرَ الإمتداد الأفقي، البيئي، عند منعطف هذه الرواية؛ بيئته الكردية نفسها، المنتقي منها موضوعاته المفضلة والمستغرقة معظم إبداعه الشعري والنثري؟.. الجواب، على تقديرنا، عائدٌ لما يمكن وسمه بـ quot; إلتزام quot; أدب سليم بركات للفنّ الخالص، المجسّد لإسترجاعات ذاكرته / وتجارب حياته الشخصية، سواءً بسواء. هذا الأدب المجسّد، خصوصاً، حيواتَ الآخرين في بيئته تلك، وعبْرَ تأملاته المستغرقة، القلقة، لكائناتها وأشيائها وموجوداتها، خالطاً مصائر الجميع ببعضها البعض. هي ذي، إذاً، مدينة كبرى بحجم quot; بيروت quot;، مختلفة عن مدينة مسقط رأسه بكل شيء، وبالتالي تعكس إختلافها على أسماء أبطاله وأبعاد مكانهم ومسافات زمنهم. ها هنا، على سبيل التمثيل، رجال التنظيمات اليسارية والفلسطينية، المتجولون علانية بأسلحتهم وعتادهم..، وها هنا، أيضاً، قادتهم على مثال quot; الزعيم quot;؛ الشخصية الروائية، التي جسدها فنّ كاتبنا، الرفيع.

شخصية البطل هنا، قد لا تفاجيء القاريء الجيّد لأدب بركات، من حيث كونها صورة مقاربة لشخصيته بالذات؛ وهوَ الأدب، الذي وسمناه آنفاً بالحنين الدائب إلى ماض ضائع. يبدو أنّ إيثاره لهذه الثيمة، في روايته الثانية، لأنها كانت تلحّ عليه بشكل معذب. جدير بالقول، في هذا المقام، أنّ بركات لم يتعجل البتة في نقل تجربته البيروتية إلى القاريء؛ حال تلك الأعمال، الروائية ـ أو سمّها، ما أردتَ ـ المدونة من لدن بعض الكتاب العرب، ممن شاءَ لهم الإنفعال وردّ الفعل أن تكون أعمالهم، حول تجربة بيروت، غير ناضجة ولا تستحق القراءة. على العكس من اولئك الرفقة، بدا كاتبنا في quot; أرواح هندسية quot; مترفعاً ومتحرراً من تلك الشوائب، الموسومة، مخضعاً قلمه لذاكرة حارة وذهن بارد في آن؛ فلم يبتده الكتابة إلا وقد إختمرتْ بفعل السنين، الصبورة، صورة ُ ما يصبو إليه داخله المتململ. ولكن ما الذي يربط هذا العمل برواياته الاخرى، السابقة واللاحقة؟.. إنه كما يجوز لنا تأكيده، دوماً، الصدق في نقل التجربة الإنسانية، علاوة على الأجواء الغرائبية / الفنتازية، المميّزة لأدب سليم بركات. هكذا أجواء، تخترقها الأرواح الملازمة بطل الرواية، خلل رحلته في السفينة المتجهة به ورفاقه الآخرين إلى منافي الله؛ أرواحٌ، سنتعثر بأشباهها منذ الصفحات الأولى لقراءتنا رواية الكاتب، الرابعة، quot; معسكرات الأبد quot;، وهي تلازمُ أقرباءها الأحياء.

4
ثمّ نصل، أخيراً، إلى رواية quot;الريشquot;، المستعيد فيها مؤلفها بركات ملامحَ بيئته؛ هذا على الرغم من حقيقة، أنّ المكان الرئيس لأبطالها ثمة في جزيرة المنفى، القبرصية. وعلى كل حال، فلم يختلف دارسو الكاتب حول إسلوبه وإيحاءاته الرمزية هنا، بل إستوقف إنتباههم ما كان من تعامله مع مسألة التاريخ القومي، التراجيدي، لشعبه الكرديّ ما بين الأعوام 1900 ـ 1947 م (5). ونقدّر بأنه ما كان في إعتبار بركات، بطبيعة الحال، كتابة رواية تاريخية. فها هنا، إذاً، كما كان الأمر في ثيمة quot; أرواح هندسية quot;؛ تطغى أجواء الغربة على حيوات الأبطال ومصائرهم، على حد سواء. نحنُ بصدد تتبع حركة إبن الشمال، quot; مم quot;؛ الشاب العاثر الحظ، الحامل همومه الشخصية، ومن ثمّ القومية، من مكان إلى آخر : في البدء، بلدته الصغيرة المحاذية للحدود التركية، مروراً بحلب، مدينة الدراسة، وإنتهاء في مستقره الكئيب، المتوحّد، في جزيرة قبرص. على أنّ ذلك المكان، ينحو بنا تبعاً لحركة اخرى، زمنية، مستعيدة لحقبة تاريخية، مفصلية، من التراجيديا الكردية، المعاصرة لعشية الحرب العظمى. وعلى هذا، نجدنا من جديد متلمسين ذلك الخيط السحري، الموصوف آنفاً فيما يخصّ أدب بركات؛ أيْ حنين الذاكرة، الدائب، للجذور المترسبة في البيئة الأولى.

لا غروَ إذاً، أن يتمثل بطلنا، quot; مم quot;، تجربة الكاتب بركات، الشخصية، في ذلك المنفى، الموسوم. فضلاً عن إضفاء مزيد من الجوّ الغرائبي / الفنتازي، الغامض، على المكان وكائناته جميعاً : تلك التجربة، القبرصية، ربما أفادت الرواية في محاولتها تقديم صورة دقيقة، صادقة، للمكان؛ بما في ذلك، نقل مشاعر كاتبنا الذاتية، الأكثر خصوصية، كمغتربٍ يشاركُ بطله مسار حياته ومآلها. على أنّ تصويره، الموصوف، ما كان سطحياً أو فوتوغرافياً، بقدر ما كان فنتازياً. علاوة على أن كاتبنا لم يعمد إلى إلباس بطله ذاك، وغيره من الشخصيات، حللاً جاهزة تحلّ محل السياق الدرامي، بما يسمح لكل منها التطور المستقل ـ والمنفعل، في آن، بوعي بما حولها وحتى بلوغها الكمال الذي يصبوه لها الروائي : quot; فهذه الشخصيات، مسلحة بالوعي بإعتبار أنّ مشكلة الأكراد، مشكلة سياسية. لذلك فتاريخ الحركة السياسية للأكراد هوَ التاريخ الروحي لشخصيات الرواية، وإنكسار هذه الحركة هوَ إنكسار الشخصيات الروحي أيضاً quot; (6). على أنّ أدب سليم بركات، الروائي، لا يخلو من الإشكال؛ هذا الأدب، المهيأ له الإنفتاح على قراءاتٍ لا تنتهي؛ لا لكي تتضح رموزه ومراميه على وجهها الحقّ ـ فهذا مخالف لوظيفة النقد والقراءة ـ بل وخاصة، كيما تتسع آفاق ذلك الأدب وتتناهى إلى اللا نهاية.

الهوامش :
1 ـ بصدد الجزء الأول من هذه الثلاثية : يمكن مراجعة دراستنا، المنشورة في quot; إيلاف quot; / الأرشيف، في 10 مايو 2006
2 ـ فؤاد حجازي، فقهاء الظلام : فانتاسيا تستلهم واقعاً ـ مجلة فلسطين الثورة، عدد 511 لعام 1985
3 ـ سليم بركات، هاته عالياً، هات النفير على آخره ( سيرة الصبا ) ـ بيروت 1982، ص 14
4 ـ المصدر نفسه، ص 40
5 ـ فرهاد بيربال، الريش ـ مجلة quot; بربانغ quot; الصادرة في ستوكهولم، عدد 93 لعام 1993
6 ـ ابراهيم عبد المجيد، الريش ـ مجلة quot; الكفاح العربي quot; الصادرة في بيروت، عدد 668 لعام
1991

للبحث صلة..

[email protected]