سلوى اللوباني من القاهرة: إختار الكاتب quot;فهمي هويديquot; متابعة يوم في حياة المصريين من خلال الصحف، فرصد معظم الاخبار والحوادث والتقارير التي وردت في ذلك اليوم وقد اختار يوم 11 فبراير من عام 2001 وهو يوم عادي للغاية يصور حياتنا العادية التي لا تسمح لنا دوامة الحياة اليومية بتجميد لحظاتها وإدراك دلالة وقائعها المتلاحقة، وقد دفعه الى هذا الرصد والتحليل تعدد مظاهر الفساد في مصر ويقول إذا رفعت الغطاء عن أي مرفق في الدولة فسوف تفوح منه على الفور رائحة الفساد قوية ونفاذة ولا نستطيع أن نستثني من ذلك مرفقاً من قطاعات الانتاج أو الخدمات... الامر الذي يثير الكثير من التساؤلات عن مدى جدية الرقابة وفعاليتها إزاء ذلك، فقد بات مهماً للغاية أن يتم التعامل مع الظاهرة بمنتهى الحزم، وأصبح ضرورياً فتح باب المناقشة حول أسباب تفشي الظاهرة حتى بلغت ما بلغته من إستشراء وخطر، ويضيف بأن ثقتنا بأنفسنا اهتزت لذلك نستعين عادة بخبراء أجانب لاستجلاء الحقيقة في أي امر يلتبس علينا إلا أنه يستبعد فكرة الاستعانة بخبراء أجانب في ملف الفساد لاننا لن نجد في الاغلب العدد الذي نحتاجه لاصلاح كل ما لدينا من عطب.
مصر الاولى ومصر الثانية:
قدم هويدي العديد من ملفات الفساد في جميع المجالات في كتابه quot;عن الفساد وسنينهquot; صادر عن دار الشروق، مستنداً بأدلة من الصحف والتقارير والاحداث..في مجموعة من مقالاته التي نشرت على صفحات جريدتي الاهرام والوفد مرافعاً فيهم عن مصر الثانية الحقيقية لكشف حقيقة مصر الاولى، فهو يعتبر أننا صرنا بصدد مصرين الاولى تظهر على شاشات التلفزيون وتحتل الصفحات الاولى من الصحف، والثانية لا تكاد ترى لها اثراً على التلفزيون ومكان أخبارها على الصفحات الداخلية في الصحف، خصوصاً صفحة الحوادث ولا يتسرب لها خبر الى الصفحات الاولى إلا إذا كان مرتبطاً بكارثة، ويوضح أن مصر الثانية هي مصر الحقيقية في حين أن الاولى هي المتكلفة والمزيفة، وبأن هناك دلائل وشواهد بان أهل مصر الاولى أصبحوا يضيقون ذرعاً من الثانية ويتأففون من وجودها وقدم مثالاً على ذلك عند زيارة زوجة الرئيس الامريكي جورج بوش إحدى المدارس الابتدائية في مصر عام 2005 فكان من حظ هذه المدرسة أنها تنتمي الى مصر الثانية بتلاميذها وتلميذاتها وهيئة التدريس والادارة، وكان ذلك سبباً في إمتعاض الجهات المعنية بترتيب الزيارة، فقاموا باحضار تلاميذ ومدرسين وإدارة مصر الاولى ووضعهم مكان أبناء مصر الثانية الذين طلبوا منهم أن يحتجبوا في بيوتهم ولا يذهبوا الى المدرسة حتى لا تؤذي مناظرهم أعين الضيوف الاجانب ومرافقيهم من أكابر المصريين على حد تعبيره.
الفياغرا والدروس الخصوصية:
يقول هويدي أن متابعة أخبار يوم في حياة المصريين يؤدي الى رسم صورة عبثية للواقع المصري كما يدعو الى طرح سؤال ما الذي جرى للمصريين؟ فمن الاخبار التي قدمها كان خبر تحت عنوان quot;المصريون ينفقون 7.5 مليار جنيه سنوياً على الفياغرا ويقول أن هذا الرقم نفاه وزير الصحة وقال أن المبلغ يقدر بحوالي 600 مليون جنيه فقط لا غير!! ويقول هويدي أن المرء يمكن أن يطمئن حين يجد أن مستهلكي العقار ثلاثة ملايين شخص فقط من بين 63 مليون مصري، ولكن الخطر يكمن بأن المبلغ الذي ينفق لشراء الفياجرا يوازي المبلغ الذي تقدمه المعونة الامريكية لمصر وهي 2.3 مليار دولار، ويزداد القلق أيضاً حين يدرك المرء أن الاسرة المصرية تدفع 6 مليارات جنيه سنوياً مقابل الدروس الخصوصية، وأنها تدفع أكثر من 3 مليارات مقابل الثرثرة في الهواتف المحمولة، وتزداد هذه الصورة العبثية كلما قرأت مزيدا من الاخبار فتطرق الى جلسة مجلس الشورى التي أعلن فيها وزير الصحة عن نجاح سياسة تنظيم الاسرة وأن مشكلة الزيادة السكانية ستحل في مصر عام 2005 وأن هناك 450 عيادة متنقلة تعمل جاهدة كل يوم لتحقيق الاهداف الموضوعة لضبط النسل، فيتساءل هويدي كيف يمكن لهذه المشكلة أن تحل في عام 2005 بينما سوق الفياجرا يروج في البلد وتتجه النية لتصنيعه محلياً، وتابع في قراءة الخبر الخاص بمجلس الشورى فنجد وزير الزراعة يقول أن مصر ستصبح دولة مصدرة للجمبري!! وغيرها من التفاصيل التي يخرج منها القارئ حائراً هل مصر تتقدم أم تتأخر؟ هل علينا أن نتشاءم أم نتفاءل؟
دكتوراة مغشوشة.. وبصل وبطاطس:
وانتقل بنا هويدي الى خبر آخر يقول أن السوق المصرية استقبلت شحنة رمال معالجة كيماوياً استوردت خصيصاً لكي تقضي القطط المرفهة حاجتها في يسر، وهذه الشحنة قدرت ب 70 الف جنيه استوردها أحد المصريين لتلبية طلبات بعض الاثرياء، ومن ثم إعلانات عن حصول بعض الشخصيات من أصحاب المدارس الخاصة على الدكتوراة الفخرية من الاكاديمية الدولية للعلوم، تقديراً لجهودهم في المجال التربوي، ويعلق هويدي بأن هذه الشهادات أصبحت تباع في صفقات يكسب منها الطرفان فيتساءل كم دكتوراة عندنا من هذا القبيل مغشوشة أو مضروبة؟ ثم تناول ملف الرياضة وأشار الى التزوير واللعب بالاصوات، وفي صفحة الحوادث طرح أهم الحوادث منها إنقلاب سيارة نقل كانت تقل جهازاً حساساً لعلاج أورام المخ بدون جراحة وهو الاول من نوعه في الشرق الاوسط قيمته 18 مليون جنيه، ولكن الشركة العاملة تعاملت مع الجهاز كما تتعامل مع أي شحنة بصل أو بطاطس، وخبر عن إصابة 26 عاملاً بجراح خطيرة في حادث انقلاب حافلة ركاب بعدما غلب النعاس سائقها، والتحقيق مع 10 مسئولين لاتهامهم بالتلاعب في توزيع 40 وحدة سكنية، وإحالة 9 متهمين في بنك دولي بالاسكندرية الى محكمة الجنايات لاتهامهم بالاستيلاء على 18 مليون جنيه من أموال العملاء بالتزوير، وضبط بعض الصيدليات في القاهرة التي أصبحت تبيع الادوية المخدرة للمدمنين، وغيرها الكثير الكثير والكثير من الاخبار والحوادث في صحيفة ذلك اليوم المذكور.
نهب الاموال والاثار وسقوط المباني:
وفي مقالات أخرى رصد الفساد في مجالات أخرى وفي سنوات مختلفة، فرصد الفساد في الوظائف الحكومية والاعلام والعقارات، فعن قضايا فساد كبار الموظفين قال خلال العام تضبط 78 قضية فساد إداري يومياً في عام 2003، وأن حجم أموال الكسب الغير مشروع بلغ 99 مليار جنيه والرشاوي 400 مليون جنيه والاموال الموضوعة تحت الحراسة 600 مليون أما جرائم غسيل الاموال التي ضبطت فقد بلغت 5 مليارات و16 مليون جنيه، كما قارن وحلل اسلوب التلفزيون في تناول القضايا الهامة، فيقوم التلفزيون بتغطية إخبارية عادية لحادثة مثل حادثة القطار بينما لو فاز فريق رياضي ببطولة ما فإن التلفزيون لا يتوقف عن الاعلان عن هذا الفوز فهم أحفاد الفراعنة، كما تناول الاعلام المصري الذي يعتبره أنه خرج من الساحة العربية في مجال الاعلام، فأصبحت التلفزيونات العربية تنافسه وتفوقت عليه أحياناً في المسلسلات والمنوعات الاخرى التي ظننا أن سبق التفوق فيها لا يزال معقوداً علينا، ويقول أن وسائل الاعلام المصرية أصبحت تتمتع بأفضل الامكانيات الفنية في حين تراجعت الى حد بائس مصداقيتها ورصيد احترامها قطرياً وعربياً، وتناول عدة قضايا أخرى مثل السقوط المدوي لبناية القاهرة ذات الاحد عشر طابقاً، وقضية الاثار الكبرى التي ألقي القبض فيها على 30 شخصا كونوا عصابة عمدت طيلة سنوات عدة الى نهب الاثار المصرية، وقضية بنك مصر اكستريور التي اتهم فيها رئيس البنك وبعض مساعديه في إعطاء تسهيلات بالتواطؤ مع بعض رجال الاعمال، وقضية أستاذ طب الازهر ومساعدوه التسعة الذين أجروا 216 عملية قسطرة قلب وهمية خلال عامين، تلك مجرد نماذج لانتشار وباء الفساد في ساحات أخرى بعضها لا يخطر على البال وما عرضناه باختصار هنا هو غيض من فيض مما وقع عليه فهمي هويدي في الكم والمدى، يقول هويدي أن المعركة ضد الفساد أكبر مما نظن إذ لا يكاد المرء يصدق عينيه وهو يقرأ التقارير والتعليقات التي نشرتها الصحف خلال الاسابيع الاخيرة عن الفساد في الجامعات.
لماذا انتشر الفساد في مصر:
يقول هويدي هناك شلل تعاني منه الادارة الحكومية أو مواقع الانتاج والخدمات فلا أحد ينتج أو ينجز، وهذا يجسد الاحباط والانسحاب لان الناس حين تسد أمامهم آفاق المستقبل يلجئون الى الخروج والانسحاب من الحاضر، وهو ما يشجع بعض الشباب على الانخراط بجماعات التطرف بمختلف أشكالها، وانهى كتابه بسؤال على لسان أحد رجال الاعمال قائلاً نحن ذاهبون الى أين؟ فأجاب أحد الجالسين الى أين وعرفناها.. ولكن السؤال الكبير الان هو إلى متى؟ أما لماذا انتشر الفساد في مصر فلخص بعض أسباب هذه الظاهرة منها انهيار سطلة القانون في المجتمع، التلاعب الذي تمارسه الحكومة سواء عن طريق الاحتيال على المجتمع لزيادة الجباية أو عن طريق إخفاء الحقائق والتمويه على الناس، غياب النموذج أو القدوة على مستوى السياسات والقيادات، وغياب الممارسة الديمقراطية التي تتجلى في الرقابة الشعبية وممارسة حق المساءلة وحرية النقد والتعبير، وترهل القيادات في مقاعدها، وتقديم السياسة على النظام العام والقانون، كما عرض دراسة أعدت عن تفشي الفساد في الاداء الحكومي ونشرتها المجلة المصرية للدراسات التجارية التي تصدرها جامعة المنصورة، التي كان من أهدافها رصد أهم السلبيات الاخلاقية حسب درجة شيوعها بين الموظفين وكانت النتائج أن احتل عدم احترام الوقت المرتبة الاولى بشبه اجماع، ثم المحسوبية والرشوة والتسويف في إنجاز المصالح والاهمال في العمل ومن ثم قبول الهدايا وإفشاء أسرار العمل وسوء استعمال السلطة، وفي تحليل الاسباب التي أفرزت تلك السلبيات بينت الدراسة ما يلي أن الموظف أصبح يفتقد القدوة الحسنة، إضافة الى شعوره بالظلم، وتفشي مثل هذه السلبيات يعود الى سوء الاحوال الاقتصادية، وتعقد الاجراءات المتعلقة بانجاز الخدمات الجماهيرية، وإعداد الموظف في المعاهد الادارية لا يولي أخلاقيات التعامل العناية الكافية، وأن منظومة القيم في المجتمع بأسره قد تراجعت.
بعد هذه الصورة القاتمة...
بعد أن قدم الاستاذ فهمي هويدي هذه الصورة القاتمة جداً عن مصر يؤكد بقوله يُخطئ من يظن أن هذه هي مصر والتي لا بد أن يعرف الجميع أنها أكبر وأعرق من ذلك بكثير، وأن الشرفاء فيها أضعاف أضعاف الفاسدين، لذلك يوضح أنه لا بد من الاعتراف بالخطأ وبوجوده وذلك بداية الطريق للعلاج، ويقول حري بنا أن نشن حملة قومية شجاعة للقضاء على هذه الظاهرة الخبيثة ولا يشك بأن مصر فيها من العقول والخبرات القادرة على علاج هذا الفساد، كما يؤكد أن الشرفاء موجودون ولا يزالون في كل قطاع، وأن الفساد ليس مقصوراً علينا وللاسف فان العالم الثالث يعج بالفساد الذي طال الكبار الذين هم فوق القانون حتى أصبحت ممارسات أنظمة الحكم تلقن الناس دروساً يومية في الفساد المنظم.
التعليقات