هناك مكون بشري يشغل حيزا جغرافياً في هذه المنطقة، يطلق على هذا المكون العنوان الكردي. العنوان المذكور يحتضن نمطا معيناً لا يمتاز عما حوله بمفاهيم ودلالات موضوعية، لكي يرسِّخ الوجود الثقافي لهذا المكون ليشغل حيزا ذات اهتمام على صعيد الجوار الجغرافي ومن ثم في ميادين الدنيا،كما هو يشغل الحيز الجغرافي بشريا والذي يثير احيانا بعض الاهتمام في اوساط معينة. الثقافة عند الشعوب هي ارضية للبناء الاجتماعي بأبعاده المختلفة والمولِّد الذي يبلور عملية التطور الانساني في سبل الحياة.

الثقافة هنا ndash; لدى المكون الكردي- هي ملحق تابع للسياسة في أضيق مجال، بل وانها عبد ذليل بيد من يسمى اصطلاحا (وفق قاموس هذا المكون (بالسياسي/ الساسة. والسياسة هنا ليست وليدة الثقافة كما ينبغي ان تكون، بل هي اشد ما تكون بعيدة عنها ولا تجتمع معها إلا في عملية الادامة ببقائها (بقاء السياسة) بغض النظر عما إذا كانت المصلحة العليا للمجتمع ومتطلبات حياة الافراد ترفض هذه الرغبة بالبقاء. وهكذا يصبح لدينا نظام غير متوافق مع شروط الحياة وهو نظام الفساد والإستبداد، وهو نظام يخنق الثقافة ولايدعها تنتعش في قنواتها الصحية.

لنعد إلى قراءة المكون الكردي في بعده الثقافي. هذا المكون يدعي لنفسه صفات ودلالات معينة من قبيل: الشعب / الأمة / الوطن.
اذن فبما انه شعب يجب ان تكون لديه ثقافته. وما هي هذه الثقافة؟ وكيفية ظهورها ومميزاتها وواقعها؟ ولكن قبل ذلك ماهي الثقافة؟ اعتقد ndash; بغير جزم- ان الثقافة هي ذلك التراكم لمجموعة بشرية معينة على الأصعدة المختلفة من تاريخ وبناء واجتماع وأدب وفلسفة. واللغة هي الناطق باسم الثقافة وهي مرآتها. وباللغات تعرف الثقافات. ان المكون الكردي متباعد في بناه الاجتماعية، وهو متنافر وغير منسجم في تكوينه الثقافي. وخَلَقت كيفية الحياة في هذه البقعة ثقافة هشة ومتباينة وغير متناسقة لم تستطع ان تصنع نمطاً مميزا في تراكم متواصل، متسلسل في محتواه، منسجم في ثناياه. عدم وجود هكذا نمط كما هو لدى الشعوب الاخرى، جعل من الثقافة الكردية هائمة وخجولة وفوق ذلك أمست تعيش في الظِل، ولاقت الاهمال لدى الاخرين، بل وحتى لدى ابناءها. باختصار أمست الثقافة الكردية ذات ظل ثقيل والتي لم تلق رواجا وهو من الضروريات الحتمية لنمو الثقافات وانتشارها. السبب يعود الى ان المكون الكردي لم يتصرف عبر التاريخ كـ(قومية) وكـ(أمة). وفضلا عن تشتته الدائم والمتنافر وغربة بعضه عن البعض إلى حد العداوة والاقتتال، بقي المكون الكردي الى يومنا هذا، مكونا زراعيا قبليا أضفى هو على الثقافة والسياسة محتواه وتركيبته التي وجدت لنفسها الديمومة عبر هاتين القناتين. وبدل ان تصبح لدينا ثقافة تغير المجتمع وتطوره، أصبح المكون الكردي المتخلف هو الذي يلون الثقافة بلونه المتنافر مع الحضارة.

وعلى صعيد آخر تأثر المكون الكردي (المتعدد والمتنافر) بما هو موجود لدى الاخرين، الجيران الذين واجهوه بالرفض والاستنكار والازدراء. من هنا تكونت عبر مراحل متلاحقة، امراض كثيرة منها عقدة الاضطهاد، التقزم، التعصب، الازدواجية، الاغتراب الذي أدى الى المزيد من التخلف الذي يثقل كاهل هذا المكون.

اين العلة في ذلك؟
تكونت البنية الكردية في البدايات الاولى من المهاجرين من القبائل الغازية، والسكان الاصليين. وبما ان هذه المجموعات البشرية كانت مختلفة عن بعضها بقيت وفق هذا النمط بسبب وعورة المناطق والحواجز الكبيرة التي تفصلهم كالجبال والوديان. وبقيت حياتهم محصورة على الرعي والزراعة، دون تواصل وتعاون حضاري. ولم تقم حضارة كبيرة في كوردستان تدمج هذا النسيج المتنافر في وحدة حضارية منسجمة، لبلورة مجتمع متقدم.
أحدث الاسلام انقلابا عظيما في التاريخ، الا ان التفاعل الكردي معه بقي سطحيا. ولذلك لم تتحول اي منطقة في كردستان الى مركز حضاري في اي مرحلة من المراحل.

وفي ظل التقليد والتأثر بما هو قائم، قام بعض المثقفين الكرد، وفي ظل الثقافتين العربية اولا ومن ثم الفارسية ببناء الثقافة الكردية التي اقتصرت في معظمها على الشعر. اما الآخرون من الكرد الذين كتبوا بلغات اخرى غير كردية، اصبحوا جزءا من ثقافات الاخرين، اي انهم لم يحسبوا على الثقافة الكردية. ولكن أليست الثقافة العربية هي ثقافة كردية ايضا؟ ألسنا نحن اصحابها؟ أليس الكرد عبر الزمان مع الآخرين من ابناء القوميات الاخرى هم الذين قاموا بصناعة وبناء الثقافة والحضارة التي أفرغت في اللغة العربية؟ هذا الموضوع يحتاج الى نقاش طويل وبحث موضوعي. لكن على صعيد اّخرلم تشكل الثقافة في تاريخ المكون الكردي، في اي مرحلة منه الهمّ الذي يسعى لتشكيل المركز/ او تحول الثقافة الى جوهر المجتمع. ولم يحاول هذا المكون عبر التاريخ ان يكون ذات نسيج متناسق، لأنه ببساطة لم تكن الثقافة جوهرا له أو نسيجا يربط المجتمع ببعضه البعض. قلنا المكون الكردي عاش في مناطق وعرة وفي دوائر اجتماعية صغيرة تمثلت في العشيرة والقبيلة. وهو في جله مجتمع زراعي رعوي، انظر الى مزارع او راع، كم هو المخزون الثقافي لديه؟ ما هي كمية الكلمات في لغته؟ أظن ان لغة المزارع لاتتجاوز ndash; ربما ndash; اربعمائة كلمة.
المكون الكردي منقسم في الصميم بحدّة الى طوائف متفرقة ومعينة أنتجت كل على حدة ثقافتها (وهي فقيرة وباهتة( مثل السورانية، الهورامية، الكرمانجية (البادينية)، الزازائية.... الخ.

لنلاحظ واقعنا اليوم، ونحن في القرن الواحد والعشرون، ومعظم الكرد يستحيل عليهم التفاهم في ما بينهم بسبب الاغتراب اللغوي والتباعد الثقافي ووقوعهم وانصهارهم في ثقافات الاخرين. أقدم عمل ثقافي كردي يعود الى اربعة قرون لـ(ملا جزيري) وباللغة الكرمانجية. كل ماكتب بهذه اللغة قليل جدا. وكذلك الامر بالنسبة للهورامية والسورانية..الخ.
لذلك ليس هناك (عقل كردي) في التاريخ على مستوى الجماعة/ الأمة اذا أردنا نقد هكذا عقل. وهذه الاشكالية الكبرى لم يتطرق احد اليها بالكتابة او الحديث. وهذه من اكبر الكوارث في عملية بناء القومية/ الأمة، وأقصد عدم وجود العقل الجماعي، القومي تاريخيا. لذلك فان احد مشاريعي المستقبلية، هو البحث في اشكالية العقل الكردي تاريخيا.

وفي هذا السياق كتبت رسالة مفتوحة قبل اربعة اعوام، الى السيد جلال طالباني (نشرت في جريدة الكرد في استراليا وكذلك على صفحة كردستان نت) شارحا خطورة البقاء بثقافات متفرقة ومتباعدة مما يعني اننا موضوعيا لانمارس - كوننا أمة - عملية التبلور الثقافي كقومية واحدة، يبدو ان الرسالة لم تقرأ اساسا. ومضمون الرسالة كان الدعوة الى اتخاذ لغة واحدة في البناء الثقافي والتربوي، الا ان هذا المضمون لا يشكل ولم يشكل يوما أولوية في عمل الانسان الكردي في مضمار الحياة. لذلك بقينا على حالنا اليوم وهي على اشد مايكون من التخلف والانحطاط!
كي لاننسى علي ان أشير الى مسألة مهمة جدا ترتبط عضويا بالمجال الثقافي وهو عدم وجود علاقات اقتصادية وتجارية قوية ومتواصلة بين جماعات المكون الكردي، وكذلك لا أثر للصناعة على الاطلاق في هذه البقعة الجغرافية.

التاثير و التأثر الثقافي
هناك تأثير كلي لثقافات الجوار الكردي على الثقافة الكردية (أسميها كردية اصطلاحا والا فواقع الحال يقول لنا ان هناك ثقافات ذات انماط مختلفة ومنقسمة) ولكن هل تستطيع ان تقول لي اين تأثير الثقافة الكردية على ثقافات الاخرين؟ حتى لو كان هناك شيء من هذا القبيل فهو قليل ومحدود.
ان انتماء الفرد الكردي الى طائفته وعشيرته أقوى بكثير الى قومية ذات ثقافة متناسقة.
ان الانتماء الكردي على المستوى القومي محصور تماما بدائرة الصراع السياسي والاضطهاد الاجتماعي والسياسي.
وهذا الأمر على النحو المذكور يمنع تبلور ثقافة قومية غنية تقطع مداها الى الاخرين لكي تجذبهم ولتنال اعجابهم وتحصل على عرفانهم وهذا ما يعيش من اجله الانسان/ القومية في بلوغ الغاية من الوجود. الكرد لايملكون هذه الامتيازات فبقوا مغتربين وسط العالم شاكين ذلك الى الاضطهاد القومي، دون الرجوع الى الاسباب الذاتية لديهم. واذهب الى ان استمرار الاضطهاد القومي نتج عن ضعف البنية الثقافية الكردية وانقسامها وشرذمتها.
اذا تغاضينا عن القرن العشرين وسألنا انفسنا من الذي منع الكرد من ان ينتجوا الثقافة بلغتهم عبر التاريخ؟ فماذا يجيب اصحاب الشعارات الفضفاضة؟!
اعتقد ان العجز كامن في المكون الكردي الذي لايهم - حتى يومنا هذا- بالتحول الى مكون حضاري. الثقافة هي الارضية التي تخلق الانماط ومنها النمط السياسي. في تعريف الثقافة ndash; قلنا - انها التراكم الحضاري لدى شعب معين. ولكن عند المجتمعات المتخلفة تتحول الثقافة الى مطية للفراغ الذي يتقلب فيه الساسة لاهين بالحياة. وفي أي وقت سادت (السياسة) في الحياة على الثقافة معنى ذلك ان أي ثقافة في هذا المضمار هي ثقافة مشوهة لم تخلق لتبني الحضارة وتطورها. وعندما تنحدر الثقافة الى هكذا درك تموت السياسة بمضمونها الصحي وتتحول الى هراوة لسحق رؤوس الأفراد وجعل البلاد دائرة لنزواتها وشهواتها، هذا الموضوع شائك، وأكتفي بهذا القدر في حديثنا هنا. ان النضوج الجماعي في الوعي بالدائرة القومية والوطنية والأمة مرتبط عضويا بالمستوى الثقافي لافراد شعب ما. ان التأخر الثقافي لدينا أدى الى كوارث عظيمة. شرحنا اسباب فقر المكون الكردي في الاصطباغ بالنمط الثقافي الذي يبلور تكوين الجماعة/ الأمة.
في عام 1880 قام الشيخ عبيدالله النهري بإقامة اول مؤتمر قومي للكرد في (شمدينان). انهار المؤتمر وكان السبب الرئيس الاول في ذلك عدم استطاعة المكون الكردي (عشائره وقبائله وطوائفه) التفاهم فيما بينهم بسبب الحاجز اللغوي الذي تحدثنا عنه آنفا. لو كان لدينا لغة واحدة وتراكما ثقافيا غنيا لمكوننا ذات الاربعين مليونا هل كانت الحال تتغير الآن؟ بكل تأكيد نعم!
الكارثة الكبرى انه وبعد نضوج التاريخ والثقافات واكتمالها والتطورات العلمية والتكنولوجية التي طغت على الارض مازال الانسان الكردي المضطرب في داخله يمضي في الحياة بنفس العقلية والتعامل والوسائل التي عاش بها عبر قرون. أي انه اسير ذليل داخل اسوار التقاليد: تقاليد العشيرة والطائفة!

فاضل رسول مفكرا كردياً بارزاً
في رأيي، فاضل رسول هو عقل كبير ان لم يكن الاكبر في الدائرة الكردية في منطقة الشرق في إدراك القضايا والوعي بها واستشراف المستقبل وفق بحث وقراءة عميقين. كان فاضل رسول مفكرا جادا ومهموما للقضية الكردية وعبرها لقضية الشرق وقضية الشمال والجنوب (العالم المتقدم والعالم النامي) وكذلك النظم الفكرية والسياسية من دينية وقومية وعلمانية. في البداية كان فاضل مثقفا يساريا قوميا كرديا، وبعد مدة (في سبعينيات القرن الماضي (حدث تحول في بنيته الفكرية فوسع فاضل حقل افكاره وانتمائه وعاد يقرأ تاريخ المكون الكردي والمنطقة من زوايا واسعة ووفق القراءة التاريخية لأصول القضايا والاحداث. ترجم وألف عدة كتب منها: هكذا تكلم علي شريعتي، ايران غربة السياسة والثورة، تاريخ الحركة الثورية في ايران، النفط والسيطرة، الحد الفاصل بين السياسة والدين، الاسلام والكرد، القوى العظمى والحركات التحررية في الشرق (العلاقة بين الكرد والاتحاد السوفيتي)، وكذلك أسس فاضل مجلة (منبر الحوار) في لبنان عام 1986، وكانت تعتبر واحدة من أرقى المجلات الفكرية في بلاد العرب والاسلام. اعتبره عدد من المفكرين والمثقفين البارزين في الدول العربية وغيرها مفكرا عظيما، بل وكاستجابة لمتطلبات منطقتنا وقضاياها. شبّه بعضهم دور فاضل رسول بالدور الذي شغله جمال الدين الافغاني. عمل فاضل من اجل الحوار (واستشهد في سبيل ذلك عام 1989 اثناء وساطته بين ايران والحزب الديمقراطي الكوردستاني الايراني) بين مكونات المنطقة من قوميات وطوائف واحزاب ودول. ورأى ضرورة قيام كيان كردي متناسق ومنسجم مع الكيانات الاخرى في وحدة حضارية لاتنفي الآخر المختلف قوميا ودينيا وسياسيا.
شعر بخطورة الصراع وتدخل القوى الخارجية وهدر ثروات المنطقة، كتب مقالات كثيرة في (منبر الحوار) حول ذلك.
نشر ابحاثه حول الكرد وكردستان في المجلة المذكورة. عاش الاعوام الاخيرة من حياته حزنا عميقا وأسىً بالغا انعكس سلبا على بنيته وصحته، بسبب المآسي والويلات التي كانت تواجه الكرد وبالذات كارثة الانفال والكيمياوي الذي أباد حلبجة ومناطق أخرى في كردستان.
لذلك انهمك فاضل المفجوع في الاهتمام بالجرحى المصابين واللاجئين الذين تدفقوا على اوروبا اواخر الثمانينيات من القرن الماضي، الى جانب عمله كأستاذ جامعي في النمسا. وافاه الكرد بالنسيان القاتم واهمال تراثه الفكري والثقافي..