بالاضافة الى عناصر التأثير المهمة على المتلقي في قصيدة النثر، هل بأمكاننا أن نضيف عنصرا تأثيريا آخر أليها، بحيث يجذب المتلقي أكثر فأكثر نحوها؟ اذا كان الجواب (نعم)، فما هو هذا العنصر؟ وكيف يمكن أضافته الى القصيدة؟ هل يمكن لقصيدة النثر أن تُكتب بنبرة صوتية كنبرة الحوار الشفاهي المتداول بين عامة الناس؟ أي بتعبير آخر هل يمكننا كتابة قصيدة نثر مبنية على غرار بناء الحوار الشفاهي؟ وخصوصا أذا تذكرنا أن الحوار الشفاهي يقع ضمن سياق النثر، وقصيدة النثر تقع ضمن السياق نفسه بالاضافة الى انتمائها لسياق الشعر العام أيضا. وهذا يعني أن تقبل قصيدة النثر لهذه التجربة سيكون اكبر من تقبل (القصيدة العمودية، قصيدة التفعيلة، القصيدة الحرة) لها، على أعتبار أن هذه القوالب الشعرية الثلاثة تنتمي الى السياق الشعري الخالص، وعلى أعتبار أن بناءها العام وبناء الجمل فيها قائم بالاساس على مفهوم الانزياح اللغوي الذي لايحتمل التطابق الكبير بين بناء الحوار الشفاهي المألوف وبين القصيدة.
أذن العلاقة بين قصيدة النثر وبين الحوار الشفاهي المدون وغير المدون، هي علاقة قوية، وتعطي المبرر لهما للتفاعل مع بعضهما البعض.
ولكن السؤال الذي سيطرح نفسه بقوة هنا، هو أية بُنية من بُنى النثر المعروفة تتضمن أعلى درجات النبرة الصوتية؟ فكما هو معلوم أن السرد والوصف والحوار، هي بنى نثرية. ولكن أية بنية من هذه البنى بأمكانها أن تلبي الغرض المطلوب من طرحنا هذا؟
أننا نرى أن بنية الحوار تتضمن نبرة صوتية وبالتالي نبرة موسيقية اعلى من غيرها على الرغم من أن نبرتها غير موزونة أو مموسقة بشكل منتظم، بسبب أن أسلوب بنائها هو أسلوب حكائي يستخدمه المجتمع في حياته اليومية. ومن هذا المنطلق نقول: هل بأمكاننا صياغة قصيدة النثر حسب بنية الحوار الشفاهي والحكائي لخلق عنصر تأثير آخر لها؟ خصوصا أذا تذكرنا بأن الاسلوب الشفاهي والحكائي يتضمن نبرة صوتية عالية بأمكانها أن تخلق تأثيرا أضافيا على المتلقي. وهل بأمكان الشاعر ان يكتب قصائد نثر تُصاغ بأسلوب الحوار الشفاهي وليس بأسلوب الكتابة التقليدية، مادمنا نعلم بأن الاسلوب الشفاهي ينتمي الى سياق النثر، وقصيدة النثر تنتمي الى نفس السياق أيضا؟ ومن ثم هل بأمكان قصيدة النثر ان توحي للقارئ بسماع صوت كلماتها او صوت الشاعر عند لحظة قراءته لها؟
دعوني افسر الامر بطريقة اخرى أنطلاقا من الرواية على أعتبار أن الرواية تنتمي لسياق النثر الذي تنتمي له قصيدة النثر:
النص الروائي كما هو معروف يتكون من السرد وهو يمثل (البعد الزماني في النص) والوصف وهو يجسد (البعد المكاني في النص) والحوار وهو يمثل (حوارات الشخصيات الروائية).
فالسرد والوصف يمثلان أسلوب الروائي في الكتابة وهما نتاجه الذاتي أو بالاحرى نتاج فضاء الكتابة بشكل عام. بينما حوار الشخصيات الروائية هو أسلوب الفرد في التعامل مع الاخرين، أي أنه من نتاج الواقع والمجتمع، وبالتالي فأن بناء الجمل الحوارية أو المحكية هو بناء أعتاد الناس على صياغته وتداوله يوميا، ومايقوم به الروائي هو نقل مفردات ونبرة وبناء هذه الجمل على الورق. ولهذا حينما نقرأ الحوارات في الروايات فاننا نشعر تلقائياً بتجسد الشخصيات أمامنا وكأنها تتحدث الينا من لحم ودم. وهذا الامر يجعلنا نشعر على سبيل التخيل بأننا نسمع صوت الشخص الذي يلقي الحوار في الرواية. وهذا الشعور يختلف حينما نقرأ السرد والوصف فيها، لان هذين النسقين يعبران عن اسلوب الكاتب وتقنياته الخاصة به.
فالحوار، حكي مباشر وغير مباشر بين الشخصيات الحياتية. أي انه كلام وليس كتابة. (والمقصود بالكلام هو بمعناه التقليدي المتداول وليس بمعناه النقدي الذي يعني أنه أسلوب أو طريقة كلام الفرد) والحوار في النصوص الادبية عامة، هو كلام مدون على الورق. الكلام، ينتمي الى السياق الصوتي بالاضافة الى أنتمائه الى السياق الكتابي أو النثري. بينما السرد والوصف ينتميان الى السياق الكتابي أكثر من أنتمائه الى السياق الصوتي. من هذا المنطلق، يمكننا القول، أننا من الممكن أن ننتقي اكثر الاشكال أو الاساليب النثرية موسيقية وأيقاعية وتحميلها بأشتراطات قصيدة النثر، وبالتالي بأمكاننا أن نخلق قصيدة نثر صوتية أو موسيقية.
الشئ الذي اود قوله هنا هو: لماذا لاندع الفرصة للشاعر ان يكتب لنا بنفس الاسلوب الحواري اليومي والاجتماعي قصائد نثرية؟ اي لماذا لايكتب لنا الشاعر على سبيل الاثراء والتنوع في اساليب الكتابة الشعرية، صوراً شعرية تكون مبينة كبناء الجمل الكلامية التي يتداولها الناس؟
بأختصار، نحن نريد قصيدة نثر صوتية.
وغايتنا من هذا الكلام، هو خلق الانفعال والحرارة الصوتية والموسيقية في داخل قصيدة النثر، وبالتالي خلق عنصر تأثير آخر على المتلقي يضاف الى عناصر التأثير الاخرى المبثوثة في جسد النص. وهذا يعني أننا سنقرب أجواء قصيدة النثر الى جميع مستويات التلقي، ابتداء من الناقد وانتهاء بالقارئ العادي، وسنجعله يشعر وكأنه يجلس أمام شاعر يلقي عليه شعره بنبرة صوتية والقائية جذابة وممتعة، وذلك على سبيل التخيل وليس الواقع طبعا. وليس المقصود هنا بالنبرة الصوتية هو صوت الحروف والكلمات التي تداولها النقاد سابقا. كلا لانقصد ذلك.
فالكلام لايخرج الى المتلقي من دون صوت المتكلم النابع من حنجرته. اما الكتابة فهي تكتب من دون حاجة الى صوت الكاتب او من دون الحاجة الى حنجرته.
اما الغاية الاخرى من هكذا نوع من القصائد، هي محاولة تقريب قصيدة النثر من أجواء وفضاءات الاشكال الشعرية المعروفة (القصيدة العمودية، قصيدة التفعيلة، والقصيدة الحرة)، وتقريبها كذلك من فضاءات الفنون البصرية والسمعية التي أكتسحت العالم بشكل هائل الى الدرجة التي دفعت الفنون الكتابية او المدونة الى الوراء بعد أن كانت الكتابة هي التي تتسيد المشهد الفني والادبي والابداعي بشكل عام.
ان جعل المتلقي يشعر او يحس حينما يقرأ نصا شعريا، كأنه يسمع صوت الشاعر النابع من حنجرته، سيحول النص الشعري الى نص بصري وسمعي بالاضافة الى أنه نص فكري وتأملي ووجداني، لان بناء قصيدة النثر الصوتية سيوحي للقارئ بأنه يشاهد منظر الشاعر امامه ويتخيل سماع صوته. اي ان الشاعر سيصبح ممثلا في مخيلة المتلقي فقط، وليس على ارض الواقع.
فكما نعلم بأن الشاعر هو الذي يدوّن معاني الالهام بلغته واسلوبه على الورق ومن ثم يرسلها الى المتلقي. اي ان اطراف العملية الشعرية تكون حسب المخطط الاتي:
الالهام - الشاعر - المتلقي
نحن نؤمن بأن الالهام الشعري الذي يلقى من فم المجهول على الشاعر، هو مجموعة من المعاني والدلالات والصور التجريدية وليس مجموعة من الكلمات او الجمل اللغوية. فالشاعر هو الذي يجسد هذه المعاني والدلالات والصور الى كلمات وجمل شعرية بأسلوبه الخاص به وبالقالب الشعري الذي يناسبه.
والامر الذي نود قوله هنا، هو اننا نظن بأنه بامكان الشاعر ان يجسد المعاني والدلالات والصور الملقاة عليه بأسلوب الكلام المشار اليه انفا. اي ببناء الجملة التي يتداولها عامة الناس. اي ان قصيدة النثر التي سيدونها الشاعر ستكون بمثابة حوار بينه وبين المتلقي، أو بينه وبين شخص اخر غائب، أو كأنه يتحدث عن ضمير أو مجموعة ضمائر غائبة. بمعنى ان اسلوب قصيدة النثر الصوتية سيكون بمثابة خطاب مباشر وغير مباشر بين الشاعر والمتلقي. او انه سيكون على طريقة الحوار اليومي الاجتماعي. فبدلا من ان نسمع من المتحدث الينا كلاما عاديا او حكايات يسردها علينا لسبب ما، فاننا سنسمع منه شعرا وقصائد مختلفة.
اذن، ان قصيدة النثر بشكل عام، وقصيدة النثر الصوتية خصوصا، لاتبتعد عن السياق الشعري على الرغم من انتمائها الى السياق النثري العام، وذلك من خلال التزامها بالمفاهيم الاساسية للشعر وكذلك لأن غرضها الاسأس هو الشعر وليس النثر. ومن هذا المنطلق فأن قصيدة النثر الصوتية لاتخرج عن قوانين قصيدة النثر الاساسية والمتمثلة (بالايجاز والتكثيف، واللاغرضية) لان أهتمامها ينصب بالاساس في كيفية بناء جمله وبالتالي في كيفية بناء نص كامل يتضمن عنصر الايقاع والموسيقى الذي سيوصل الحرارة والتوتر الشعري في النص. وهذا بحد ذاته يمثل عنصرا تأثيريا شعريا جديدا على المتلقي.
وبعد كل هذا وذاك نسأل: هل بامكاننا كتابة قصيدة نثر صوتية بأسلوب الحوارات اليومية؟ اي هل بامكان الشاعر ان يبني نصه الشعري على طريقة بناء الجملة المحكية على ارض الواقع؟
بأمكاننا القول: نعم.
بل أننا لن نجازف لو قلنا بأن قصيدة النثر الصوتية موجودة وبكثرة ومتناثرة هنا وهناك، ولكنها برأينا لم توضع في اطار خاص بها يشار اليها عند الحديث عن الشعر.
ولدينا في هذا المجال الكثير من الشواهد التأريخية التي تدعم سعينا للكتابة عن نوع شعري موجود أصلا ولكنه أشير اليه لاحقا، وهو مانؤمن به تماما. فالقصيدة الحرة كانت موجودة منذ زمن الشاعر الامريكي (والت ويتمان) ولكن الاشارة اليها أتت لاحقا من قبل النقاد والشعراء. والقصيدة السيريالية ظهرت بشكل بارز على يد (رامبو ولوتريامون) قبل أن يشير أليها (بروتون) وبقية السيرياليين. وقصيدة التفعيلة أشير لها في الشعر العربي من قبل نازك الملائكة والسياب، مع أنها موجودة في اوربا قبل ظهورهم بعدة عقودة. والشواهد كثيرة في هذا المجال.
كان بودنا أن نستشهد بنصوص الكثير من الشعراء في هذا المجال لكي ندعم وجهة نظرنا هذه، غير أن هذا الامر كان يتطلب منا جهدا كبيرا لسنا مهيئين له الآن لاسباب كثيرة أهمها هو الخشية من سقوط مقالتنا في مجال قد يفرض علينا أتباع منهج نقدي اكاديمي صرف. ونحن لانملك ادنى رغبة لممارسة هذه العملية لالشئ سوى لأننا لسنا نقادا ولسنا كتاباً اكاديميين في هذا المجال، ولسنا مُنظّرين. فكل مافي الامر هو أننا نحاول طرح شذرات تأملية حول قصيدة النثر.
ولكننا نستطيع أن نشير الى أن بعض قصائد (بودلير) النثرية تنتمي لهذا النوع. وبعض قصائد (رمبو) كذلك وخصوصا قصيدته (ملكية). وكذلك الكثير من قصائد (ماكس جاكوب ورينيه شار).
ولو قفزنا مباشرة الى العصر الحديث، فيمكننا القول أن قصيدة النثر الامريكية المعاصرة هي أكبر مثال على مانطرحه هنا، لأن العديد منها يقع ضمن أطار قصيدة النثر الصوتية.
أما في الشعر العربي، فأننا لايمكننا أن نُسقط هذا الطرح على منجزه الشعري، لأن الشعر العربي في غالبيته الان ينتمي الى القصيدة الحرة (أي القصيدة المشطرة التي تكتب بلغة شعرية ومن دون وزن وقافية على العكس من قصيدة النثر التي تكتب بلغة نثرية محملة بصور شعرية وممزوجة ببعض الجمل الشعرية) ولكن كما أشرنا سابقاً في عدة مقالات في هذا المجال أن أساءة الفهم العربي لقصيدة النثر جعل المنجز الشعري العربي الحالي يسير في مسار القصيدة الحرة وليس في مسار قصيدة النثر بأستثناء القليل جدا منه الى الدرجة التي لاتستحق منا عناء ذكره.
وعوداً على بدء، بودنا القول وبأختصار شديد، نحن نريد قصيدة نثر صوتية تطلق بلسان يشبه لسان الحكواتي، أعتقاداً منا بأن الحكواتي يلجأ الى صوته لرواية حكايته على مستمعيه، وهذا الصوت يمثل برأينا أحد أهم عوامل التأثير على المتلقي وهذا مانسعى الى الأشارة اليه في مقالنا المتواضع هذا.
- آخر تحديث :
التعليقات