إلى الصديق الشاعر علي الشباني
.. وأشجار الحقيقة التي نحملها على رؤوسـنا عابرين الأيام والليالي

حين غادرتُ الحافلة نازلاً عند أسواق (الشورجة) وسط بغداد، تركت حسين العبد الله واجماً في صمته وسط حشد الركاب، لا أعرف لماذا لم يبادر أحدنا للسلام على الآخر؟ هل هي الخسارة؟ أم الخوف؟ لقد تعجبتُ فعلاً منه ومن نفسي!! وسرعان ما ندمت لنزولي، فقد شعرت بأنني فقدت فرصةً لن تتكرر ثانيةً!! ماذا لو أنني بادرت وسلمت عليه؟ لقد فاجأني بوجوده، لكنَّ ملامحه بدت لي محايدة حين التقت نظراتنا للحظات حيث كدت أهتف باسمه وأحتضنه غير أنني تداركت انفعالي في نفس اللحظة، فقد بدا لي محايداً تماماً كما لو أن أحدنا لا يعرف الآخر!! فلم ألحظ أية ردة فعل أو عاطفة على قسماته!! أليس الأمر غريباً؟ فقد قضى حسين العبد الله معنا أكثر من سنة في ( سجن الحلة )، وياما أكلنا وسهرنا سويةً، ياما تحدثنا نهارات بأكملها، كان يريحني فيه قلة حديثه في السياسة، غالباً ما يتحدث عن ذكريات الطفولة وأيام المدرسة، عن تفاصيل غريبة وتجارب جنسية لا تقل غرابة، تفاصيل كثيرة من النوع الذي لا يُنسى، فلماذا نزلت دون أن أكلمه؟
لقد خفت منه!! خفت من ورطة محتملة!! فرغم أنني لم أكن حزبياً، بل كان بعض الشيوعيين مجرد أصدقاء، وربما تعجبني بعض أفكارهم، لكن ما يربطني بهم هو كراهيتي للسلطة، للبعثيين والقوميين عموماً، لتخلفهم وادعاءاتهم السمجة ونزعتهم الفاشية المرعبة، لكن خوفي منهم والذي نادراً ما أعلنه لأحد، أزداد بعد مجيئهم للحكم ثانيةً في 1968.. ولم تمر سنتين حتى بدأت موجة من التهافت للانتماء لحزب البعث من قبل أعضاء سابقين من مختلف الأحزاب الأخرى بمن فيهم الشيوعيون،.. لقد خفت من حسين العبد الله رغم محبتي له لأن هاجساً خفياً يتحكم بمشاعري إزاء الناس الذين لم التق بهم منذ فترة طويلة، فربما أصبحوا بعثيين دون أن أعرف، والمشكلة التي لم أفهمها هي أن بعض الشيوعيين عندما يصبح بعثياً يتحول الى شخص شرس وصفيق بطريقة لا تخطر على البال!!
نحن الآن في أيار 1973 لقد رسختْ السلطة بما فيه الكفاية ولا أعتقد بأن أحداً يستطيع إسقاط البعثيين خاصةً بعد ظهور أحد قادة الشيوعيين عبر شاشة التلفزيون واعترافاته الغريبة والمفاجئة والتي ذهب ضحيتها مئات الشباب حيث انهار تيار الكفاح المسلح وانهارت معه أحلام وآمال كثيرة كانت تراود الشيوعيين باستلام السلطة،.. إن أفكاراً كثيرةً تجتاح الإنسان في لحظة واحدة، أفكاراً كثيرة ومضطربة تعمي الإنسان لدرجة تجعله عاجزاً عن السلام على صديق قديم وديع ومؤدب مثل حسين العبد الله، وربما كان هو يعاني المشكلة ذاتها، لكن ما الذي أجتاح جسدي في تلك اللحظات؟ كانت قشعريرة مرعبة، كنتُ أرتعد وسط الشارع، تجتاحني رغبة شديدة بالبكاء وأنا أحاول استعادة توازني جالساً على الرصيف حيث سقطت على وجهي متعثراً بشيء ما دون أن أنتبه، كانت عثرة فضيعة وسقطة لا تنسى،.. بعد أسابيع تذكرت وجه حسين العبد الله وأنا عائد من الدائرة، تذكرت زيارتي الأخيرة لبغداد بتفاصيلها الكثيرة، لكن وجه الرجل هو الأكثر إلحاحاً، الأمر الذي جعلني خائفاً من أن تتحول المسألة الى هاجس أو عقدة مستعصية لا أستطيع التخلص منها بسهولة، فأنا رجل لا أخلو من الوساوس على كل حال،..
وجه حسين العبد الله لاح لي تحت شجرة بعيدة على نفس الرصيف الذي يوصلني الى البيت، وحين اقتربت من هناك كان وجه الرجل الواقف ويا للغرابة يشبه وجه حسين الى حد بعيد، لقد تطلعت إليه باستغراب فاستغرب الرجل مني بدوره، ولم أكن ذكياً بما فيه الكفاية لأظل سائراً في طريقي، بل التفت إليه مرتين مما أضطره أن يسألني باستغراب وريبة : ها أخي، مضيع لو محتاج مساعدة؟
يا للعار!! ماذا بوسعي أن أفعل الآن؟ فقد قال الرجل كلامه بريق ناشف وارتباك، أكيد إنه تصورني رجل أمن أو ما شابه ذلك.
- لا يا أخي، أنا آسف، أنت تشبه صديق لي لدرجة كبيرة، سامحني، أنا آسف جداً.

***

في بغداد الكبيرة الهادئة لكن المريبة حيث يسكنني الخوف كلما ذهب الى هناك، حكيت لطارق المفارقة التي عشتها في الحافلة، فقال كعادته وبعيونه المندهشة المذهولة : هذا موضوع مثير، لماذا لا تكتبه؟!
- الموضوع ليس موضوع كتابة يا طارق، أنا حزين ومحطم لأن هذه المصادفة خربطت مشاعري بطريقة غريبة، ثم عن أية كتابة تتحدث ونحن نخاف من ظلالنا؟!
-أنت على حق لكن مفارقات إنسانية من هذا النوع يجب أن لا تذهب سدى..
-لكن حياتنا كلها ذهبت سدى يا طارق.. أليس كذلك؟‍
فلم يجبني، وعاد يتطلع الى الأفق بذهول.. كان النهر محتشداً دفاقاً، وددت أن القي بنفسي الى الماء، لأظل سابحاً متدفقاً مع أمواجه المتدفقة الى الأبد..
في السجن كنت أتذكر النهر دائماً، أحلامي غالباً ما كانت تحدث في البساتين، في الأنهار أو حولها، وكانت تلك نفس هواجس حسين العبد الله، ذكرياتي عن البساتين كانت أكثر اضطراباً، البساتين كانت تحيط مدينتنا من كل جانب، وفي صباح أحد الجمع كنت ذاهباً الى البستان للمذاكرة، كان ذلك في بداية الستينات، وبدل أن أجد بعض زملائي كما اعتدت في الغالب، لاحظت حركة غير طبيعية في البستان وحوله، واستغربت أكثر حين رأيت خالي محمد مع رجلين لم أعرفهما وهو يشاركهما حديثاً جاداً وهادئاً،.. لقد دخلت البستان ورائهما، ثمة حشد آخر من الناس هناك، وفجأة رأيت تابوتاً مسجى على الأعشاب. شممت رائحة الموت لأول مرة في حياتي، شممت رائحة بارود تختلط برائحة طين ودخان سجائر وأشياء أخرى لم أستطع تمييزها، شعرت بالخوف دون أن أعرف لماذا، ولم يكن بوسعي سوى أن أندفع باتجاه خالي الذي بوغت بوجودي للحظة ثم سرعان ما استعاد رباطة جأشه، سألته عن الأمر وعن الرجل الميت، ففهمت منه أن الجميع هنا شيوعيون وهذا الرجل ليس ميتاً، بل هو شهيد، والشهداء يظلون أحياء في قلوب الناس وضمائرهم. قال ذلك بجدية وحزن غريبين لم آلفهما من قبل، لقد أصبح الأمر بالنسبة لي واضحاً،.. قال: يجب أن تشاركنا التشييع. فوافقت طبعاً. وافقت وأنا خائف، وإلا ماذا بوسعي أن أقول لخالي وهو في هذه الحالة من الحزن والتوتر؟! ثم فهمت من سعيد الذي فاجأني بوجوده هو الآخر، بأن هذا الرجل أستشهد تحت التعذيب، وأرادت السلطة أن تدفنه خلسةً، لكن الحزب وبطريقة خاصة استطاع أن يُهرب التابوت، لكي يحوّل التشييع الى مظاهرة تليق بشهيد وتفضح جرائم الأجهزة الأمنية بحق الناس.
سعيد زميلي في الثانوية، يكبرني بسنتين لكنه من عائلة ثرية، لذلك لم يكن يخطر ببالي بأنه شيوعي!! كان يحدثني وهو متأكد بأنني سأكون معهم، كانت المظاهرة صاخبة، أناس كثيرون، أعرفهم ولا أعرفهم، جاءوا من جميع جهات المدينة، أصوات غاضبة وحزينة تهدر عالياً عالياً وأنا أرتفع وأتلاشى حزنا وغضباً وسط الهتافات والمتظاهرين، أرى الناس يحتشدون ويتدفقون ولا أرى نفسي، أرى أشياء كثيرة ووجوهاً غاضبة ولا أرى وجهي،... لقد تغيرت منذ ذلك اليوم، أصبحت شخصاً آخر، تبدلت طباعي وعلاقاتي، وبعد ذلك بسنتين تقريباً، وجدت نفسي أعمل مع سعيد ذاته وثلاثة آخرين بأخطر مهمة يمكن أن يقوم بها شيوعي، كان ذلك خلال حمى الرعب والقتل الذي أثاره البعثيون خلال أسابيع انقلابهم الدموي الأولى في شتاء 1963.
كنت مع الأربعة حين تعاونا على سرقة آلة كاتبة من إحدى المدارس، حيث طبعنا بيانات ضد ( الحرس القومي ) وضد سلطة الانقلاب، لقد شتمنا قتلة الزعيم عبد الكريم قاسم شر شتائم، مالئين المدينة بتلك المناشير التي أرعبت البعثيين وهم في ذروة طيشهم الدموي، لم يكن يخطر في بالهم بان أحداً سيتحداهم بعد ما ارتكبوه من جرائم وانتهاكات رهيبة!!
وهكذا فقد عشنا لحظات غريبة حقاً من التحدي والخوف والرغبة بالانتقام، لكن ما لم يكن مُتوقعاً أن يحدث قد حدث.. فقد تسرب الرعب الى قلوبنا الواحد تلو الآخر، وأي رعبٍ كان!! لقد واصلنا توزيع المنشورات التي تحرض الناس على الصمود والمقاومة لأسابيع طويلة، لكن وبدل أن نجد نتيجة مشجعة لعملنا، شعرنا وكأننا وسط صحراء مكشوفة تحاصرنا أصوات ذئاب محمومة من كل اتجاه، وهكذا سقطنا في حالة من اليأس القاتل، رغم ذلك حاولنا أن نقاوم على سبيل المكابرة، لقد قاومنا خوفنا فعلاً، قررنا أن نتوقف منتظرين تطور الأحداث، لكن سرعان ما برزت مشكلة الآلة الكاتبة، أين يمكن أن نذهب بها؟ لقد اضطربنا، لم يخطر في بال أحدنا أن يلقيها في النهر أو يدفنها تحت الأرض، أصبحت الآلة الكاتبة مصدر رعب غريب،.. اجتاحنا القلق ولم نعد نعرف كيف نفكر بهدوء، فاكتشاف أمرها من قبل ( الحرس القومي ) يعنى الجحيم بعينه، ووسط تلك التوقعات والمشاعر المريرة كنا قد وضعناها في عربة أبو عدنان بياع الفول المتجول. عدنان أحد زملائنا في العملية هو الذي أقترح ذلك، ثم حين انتبهنا لهذه الحماقة!! حاولنا نقلها الى مكان آخر، لكن وتحت تأثير الأخبار القادمة من بغداد عن الاعدامات والاعتقالات ثم فشل الانقلاب المضاد الذي قاده العسكري الشجاع ( حسن سريع ) ثم دوي الرصاص الذي يتصاعد كل ليلة مع هبوط الظلام،.. كل ذلك أدى لزعزعة ثقتنا بأنفسنا فشاع الذعر بيننا وسرعان ما تم اكتشاف الآلة الكاتبة عند محاولتنا نقلها الى بيت أحد الأصدقاء، وهكذا ألقي القبض علينا وأصبحنا في المعتقل الواحد تلو الآخر.
لقد كنت الأخير، اعتقلوني في آخر الليل حين كنت في الطريق الى بيت أحد أقربائي لأختفي عنده لبضعة أيام، لم أكد أنتبه لتلك السيارة السوداء وهي تقف بجانبي حتى وجدت نفسي تحت ضربات أعقاب رشاشاتهم وركلاتهم الثقيلة كما لو كانت بيني وبينهم عداوة شخصية أولاد الكلب، لقد حملوني مضطرباً مدمي وألقوا بي الى داخل السيارة، لم يكونوا يكفوا عن السباب والشتائم وهم يرتعدون غير مستقرين في أماكنهم كأنهم مرعوبون مني!!
كانت السجون تغص بالضحايا وكانوا قد حولوا بعض المدارس الى مراكز تعذيب، المركز الذي أخذوني إليه كان روضة أطفال مقابلة للنهر، حين دفعوني الى الحمام، تصورت لحظتها بان لا مكان لتوقيفي غير الحمام لأن الصفوف غصت بالمعتقلين، لكنني سرعان ما اكتشفت بأنها وسيلة تعذيب جديدة، حيث لم يكن بوسعي أن أثبت في وقفتي لحظة واحدة، كانت الأرض زلقة مشبعة بالماء والصابون بينما ذلك الجلاد الزنيم الواقف عند الباب يضربني بعصا طويلة قاسية كلما انزلقتُ باتجاهه يضربني وهو يلهث يضربني كيفما إتفق وأينما سقطت عصاه على رأسي أو وجهي أو ركبتي، فأحاول أن اثبت جسدي كي أشتم أبن القحبة هذا لكن الكلام يضيع ويسقط معي حين اسقط على وجهي، أنزلق وأسقط لا أستطع أن أسيطر على كلمة واحدة، أنزلق وأسقط وأنهض لأنزلق وهو يضربني، أردت أن أبصق عليه لكن كيف؟! استمرت تلك الحفلة حتى تناهى الى سمعي أذان الفجر القادم من المسجد القريب، فتساقطت من الوجع والإعياء...

***

بعد شهور تسعة انتهت تلك المهزلة السوداء، سقط الانقلابيون كي يأتي غيرهم بضجيج أقل، وبقفازات من حرير نقلوا الضحايا من مراكز التعذيب الى السجون والمعتقلات، لقد نقلوني الى ( سجن الحلة ) وهناك تعرفت على أناس كثيرون من مختلف مناطق العراق، أدباء وعمال ومهندسون وطلبة ومعلمون، سياسيون أو مستقلون وجدوا أنفسهم وسط المعمعة مثلي دون أن يعود بوسعهم الخروج منها، أبرياء آخرون جاءت بهم الشبهات والأقدار يحملون كدماتهم وقلقهم دون أن يعرفوا الى أين سينتهي بهم المطاف. هناك تعرفت على حسين العبد الله، كان هادئاً وذكياً رغم بساطة ثقافته، استغربت انه من مدينتي دون أن أعرفه من قبل، لكنَّ هدوءه في الحافلة كان مختلفاً، كان مُربـِكاً، فحين سقطت على الرصيف وأنا أنزل من الحافلة أرعبني أن أجد نفسي وحيداً، كنت أتحسس وجهي وأكتافي حاكاً آثار تلك الكدمات والجروح التي لم يكن بوسعي أن أنساها..، وها هي الذكريات تعود، تنتابني بين وقت وآخر، وحين يلوح وجه حسين أمامي أتذكر الصراخ والجروح ووجوه الجلادين وأنا أحمل طفلتي الصغيرة، لا أعود أحتمل الأمر فأعيدها الى فراشها وأخرج شارد الذهن قلقاً مشتت الأفكار...
بعد أسابيع حين كنت على موعد مع بعض الأصدقاء في إحدى المقاهي، فوجئت بالرجل شبيه حسين العبد الله يجلس معهم، وسرعان ما عرفت أنه أخوه الذي يكبره بثلاث سنوات، لكن ذهولي كان أكبر حين عرفت منه بأنهم اعتقلوا حسين ثانيةً في نهاية 1970 وقد أطلقوا سراحه قبل شهور، وهو يعيش الآن عند أحد أقربائه في بغداد كي يواصل علاجه هناك. فهو جراء التعذيب في معتقل ( قصر النهاية) أصبح يعاني نوبات من الهستيريا والاضطرابات ثم ينتابه الصمت والذهول لأيام طويلة، صمت وذهول وصار ينسى، ينسى كثيراً...

أيلول ( سبتمبر ) 2000/ ليدز - بريطانيا
[email protected]