في كل مرة اقدم فيها على ترجمة عمل أدبي يبرز في وجهي سؤال لايتناسب مع اجابته: ماموقع المترجم من كل هذا الجهد؟، ثم يستمر شعور الخشية بعد الخيبة من ان يكون احد ما قد سبقك وترجم نفس العمل دون ان يمتلك دقتك واخلاصك للغتك وعدم تهاونك في اتمام وانجاز ماتنشد، سيما وان البعض يتصور ان عملا قد ترجم من قبل صار ت ممنوعة ترجمته مرة اخرى كصك انتداب ابدي.. وانا اعط بلا مكابرة لكل ذي حق حقه، فالصعوبة التي يصادفها المترجم تفوق الوصف، اولها البحث عن عمل جميل وملائم للقراءة وممتلكا شرط العمل الأدبي النافع، اضافة الى حجمه كعمل يمكن نشره بسهولة لقصره بمايناسب النشر في مجلة او صحيفة او موقع ادبي،، فالقصة في اللغات الاخرى تمتاز بالطول والاسهاب حتى تقترب بعض الأحيان من حجم الرواية القصيرة، بحيث سيتعذر نشرها في اللغة العربية الا في كتاب مستقل، ومعروفة ظروف نشر الكتا ب في لغتنا. ناهيك عما يتطلبه دور االمترجم من قراءة اعمال كثيرة لاتستحق الترجمة بتاتا، والتوقف على الأختيارات المناسبة والكاتب المناسب، لذلك بات ضروريا البدء بترجمة الأعمال التي احببتها واعاقتني ترجماتها السابقة عن ادراك سر كمالها وديمومتها، ومن هذه الأعمال هذه القصة التي ترجمت الى العربية بشكل سيئ رغم قيام العديدين بترجمتها، فلم يهتم لها احد، وهي من الأعمال الكبيرة رغم قصرها و التي تعد كأمثولة في فن الكتابة القصصية واسلوب همنجواي الفريد الذي ظل مسيطرا على اجواء الكتابة والأساليب القصصية طوال فترة القرن الماضي، لعل القارئ يكتشف من جديد سر قوة وتأ ثير هذه القصة التي لايخلو كتاب تدريسي في النقد االأدبي من الأشارة اليها، رغم انها اتت في مشهد واحد وزاوية نظر لعين ٍ لاتنسى تشبه عينا للكاميرا المحايدة.انها قصة العزلة والرغبات الدفينة والحوارات المتوترة وفقدان التواصل المفروض بين اقدار البشر. المترجم
بقلم إرنست همنجواي
ترجمة: زعيم الطائي
كان هناك امريكيان فقط قد توقفا عند ذلك الفندق، لم يتعرفا بأي احد من النزلاء بعد، فاتخذا طريقهما بين السلالم العليا، عابرين الممر المؤدي نحو غرفتهما في الطابق الثاني، بمواجهة البحر، والتي تطل ايضا على متنزه عمومي يتوسطه نصب تذكاري للحرب، حيث اصطفت عدة نخلات، مع بضعة مصاطب طليت باللون الأخضر.
دائما في الأجواء الصافية يرتاد أحد الرسامين المكان مصطحبا حاملة لوحاته، فقد كان الفنانون يعشقون الطريقة التي نبتت بها اشجار النخيل العالية، وألوان الفنادق البراقة المقابلة للحدائق والبحر.
.كان نفر من الايطاليين قد جاؤوا من مناطق نائية بغية مشاهدة النصب البرونزي الذي اخذ شكله بالالتماع بعد تساقط قطرات المطر.والتي كانت تنثال من خلال شجيرات النخل، مكونة بركاَ مائية ضحلة تجمعت بين الممرات المغطاة بالحصى، وتحت وابل الامطاراخذ البحر يتكسر في خط طويل متعرج وهو ينزلق عائدا نحو الشاطئ، ثم يندفع عاليا في خط طولي متكسر آخر متراجعا بعد اشتداد غزارتها.
غادرت العربات ساحة النصب، وفي المقهى عبر الساحة، توقف احد الندل عند المدخل مصوبا نظراته الى الخارج، حيث المكان الخالي.
وقفت زوجة الامريكي عند شباكها، متطلعة، فخارجا اسفل الشباك، عند اليمين جلست قطة صغيرة، انكمشت مرتجفة تحت احدى الموائد الخضرالمبللة، وهي تناضل ان لاتصيبها القطرات عند نزولها، قالت الزوجة:
- انا ذاهبة تحت لجلب تلك القطيطة.
عرض زوجها وهو في فراشه:
- انا سأذهب..
- كلا، سوف أأتي أنا بها، المسكينة تحاول جاهدة تفادي البلل تحت المنضدة.
عاد الزوج الى القراءة، مستندا على وسادتين عند قدمي السرير، قال لها:
- حاذري ان تبتلي..
نزلت الزوجة الى الطابق الأول، فتوقف صاحب الفندق العجوز الطويل وحياها بأنحناءة حين مرت بمكتبه، وقد كانت منضدته الى الركن القصي من غرفة الأدارة، احبت المرأة شكله، قالت: - مساء الخير.
- نعم، نعم سنيورة، ياله من جو فظيع.
وبقي في مكانه عند الركن البعيد القليل الضوء من الغرفة، بدت الزوجة معجبة به، اعجبتها طريقته وجديته القاتلة حينما يواجه شكوى من احد ما، اعجبها وقاره واسلوبه في تقديمه الخدمات اليها، احترامه لمركزه في الادارة،
كماأحبت شيخوخته، صرامة وجهه، ويديه الضخمتين.شعرت نحوه بميل كبير.
ذهبت لفتح الباب وجالت ببصرها خارجا، وقد اشتد في تلك الأثناء زخ المطر، عبر رجل الساحة الفارغة امامها متجها صوب المقهى وقد أئتزر واقيا مطريا، ستكون القطة قد اتخذت لها مكانا عند الجانب الايمن، و ربما قد ابتعدت قليلا حيث الرواق، وبينما هي متوقفة عند المدخل، فتحت مظلة الى جوارها من قبل خادمةالغرف، (علينا ان لاندع البلل يصيبك) ابتسمت وهي تكلمها بالأيطالية، بالطبع قد ارسلها مدير الفندق، جدت في السير على الممر الحصوي، تتبعها الخادمة باسطة المظلة فوقها، حتى وصلت الى المكان الذي يقع اسفل شباكها تماما، وجدت الطاولة في موضعها خضراء لامعة وقد غسلها المطر، غير ان القطة لم تعد هناك.
اصيبت فجأة بالخذلان فنظرت اليها الخادمة متسائلة:
- سنيورة، هل فقدت شيئا؟
اجابت الفتاة الامريكية:
- كانت هنا قطة.
-قطة؟
- نعم قطة.
- قطة ( ضحكت الخادمة ) قطة في المطر..
- نعم ( قالت ) اسفل الطاولة، بعد ذلك، اوه، انا اريدها، اريد تلك القطيطة من كل قلبي.
اقطبت ملامح الخادمة حين حدثتها بالانكليزية قالت:
- سنيورة، تعالي..علينا ان نعود الى الداخل، سوف تبتلين.
اجابتها الفتاة الامريكية:
- اظن ذلك.
سارتا عائدتين عبر ممر الحصى، دلفت المرأة خلال الباب بينما تأخرت الخادمة خارجا، كي تغلق المظلة، حالما عبرت الفتاة الامريكية مكتب الفندق بادرها المدير بانحناءةاخرى من خلف منضدته، لازمها شعور بالانقباض، واحساس داخلي بالغ الصغر، فقد جعلتها انحناءة الرجل في تلك اللحظة تزداد ضئالة ولكنها في الوقت نفسه اشعرتها بأهميتها ومكانتها الحقيقية، كان ذلك اشبه بشعور آني واحساس لامتناه بالوجود والرفعة والسمو. صعدت السلم، وحين فتحت باب الغرفة، كان جورج لايزال مستلقيا على الفراش مستمرا في قراءته.
- هل جلبت القطة؟ سألها وهو يضع الكتاب جانبا،
- لقد ذهبت.
راح يفرك عينيه لأراحتهما من القراءة، تساءل: - عجبا، اين تراها ذهبت؟
جلست هي على حافة الفراش، قالت:
- كنت راغبة كثيرا بالاحتفاظ بها، لاأعرف لماذا أردتها بهذا الاصرار، اردت تلك القطيطة المسكينة، .أتراه شيئا مسرا وجود قطيطة بائسة تحت الامطار؟
عاد جورج الى المطالعة، فانتقلت هي الى الجلوس امام منضدة مرآة الزينة،
وطفقت تنظر نفسها في مرآة يد صغيرة، تطلعت تدرس وجهها من الجانب،
بدأت اولا بأحد الجوانب، ثم انتقلت الى الجانب الأخر، بعد ذلك أخذت تتطلع بعناية الى مؤخرة رأسها وعنقها.
- هل تعتقد انها فكرة جيدة لو جعلت شعري ينمو اطول؟
تساءلت وهي تنظر الى بروفيل وجهها ثانية.التفت جورج واخذ يتملى منظر عنقها من الخلف، شعرها المقصوص مثل الاولاد.
- احبه على هذه الحال.
قالت: - لقد تعبت من ذلك، تعبت من كوني ابدو اشبه بصبي.
اعتدل جورج مغيرا وضعيته في الفراش، فلم يعد لمشاهدتها منذ ان ابتدأت بمحادثته. قال:
- ولكنك تبدين جميلة ولطيفةهكذا، سحقا.
أعادت المرآة الى الجرارة، وقامت متجهة نحو الشباك، تنظر بعيدا وقد خيم خارج الغرفة الظلام.قالت:
- ارغب ان ادفع شعري الى الخلف وأشده بنعومة، اعمل منه عقدة كبيرة تنحدر الى الظهر، تلك هي مشاعري، ارغب بامتلاك قطة صغيرة اجلسها في حجري، وتقر كلما ربتت فوق رأسها يداي.
تمتم جورج وهو على فراشه:
- نعم...
-كما أرغب تناول طعامي على مائدة بالأواني الفضية خاصتي تحت ضوء الشموع، ارغب بمقدم الربيع، وتمشيط شعري في الهواء امام المرآة، اريد قطة وبعض الفساتين الجديدة.
- اوه، اصمتي، وخذي لك شيئا تقرأينه..
قال جورج ذلك وتابع قراءته ثانية.، فعادت هي تحدق خارجا من خلال النافذة، كان الظلام قد ازداد حلكة ومازال المطر يتساقط باستمرار فوق الشجر:
- على اية حال، اريد قطة، (قالت) اريد قطة، اريدها الآن، اذا لم يكن بوسعي ان احيا بسرور وان امتلك شعرا طويلا، فبامكاني الحصول على قطة صغيرة.
لم يكن جورج مصغيا لكلامها وقد انشغل تماما بمطالعة كتابه، فبقيت زوجته ترقب النافذة وتتطلع الى الأنوار التي بدأت تغمر الساحة.بينما كان احدهم يطرق الباب.
-ادخل..
قال جورج ناظرا من فوق كتابه .كانت الخادمة تقف في الممر عند الباب، ممسكة بقطة شعرها بلون درع السلحفاة، تخلصت القطة من قبضتها بعناد وراحت تتأرجح عكس الأتجاه محاولة النزول:
- عفوا ..(قالت) طلب مني المدير احضارها من اجل السنيورة.
المترجم عراقي يعيش في الولايات المتحدة
[email protected]
التعليقات