يجرى حاليا في الصالة الكبري للمسرح الملكي باستوكهولم أكبر عرض افتتاحي لمسرحيةquot; رقصة الموتquot; بجزأيها الأول والثاني للكاتب السويدي أوغست سترندبرغ، بإخراج متميز قام به المخرج البريطاني القدير جون كاريد.وكاريد مخرج ثابت في فرقة شكسبير الملكية حيث أخرج لها أكثر من عشرين مسرحية لشكسبير وبريخت وسترندبرغ، لكن شهرته العالمية ذاعت في الثمانينات بعد أن تصدى لإخراج الأعمال المسرحية الكبيرة، من امثال: quot;نيكلوس نيكل بيquot; لديكنز بالإشتراك مع المخرج المعروف تريفور نن. أما quot;البؤساءquot; لفيكتور هوغو والتي تولى إخراجها مناصفة أيضا مع تريفور نن عام 1988، فان عرضها المتواصل سيدخل عامه العشرين في السنه المقبلة ومازال الاقبال عليه شديدا.
و على صعيد المسرح القومي بلندن فان أعمال كاريد من أمثال: quot;بيتر بانquot; مع الممثل العالمي إيان مكمليان و quot;هاملتquot; مع الممثل سيمون رسل تتمتع بمكانة مرموقة في برنامج المسرح لتجوب مسارح العالم في جولات فنية..
ويأتي العرض الحالي لرقصة الموت ليؤكد مرة أخرى على قدرة هذا المخرج الخلاَق في تقديم مسرحية سترندبرغ برؤية إخراجية متفردة وباسلوب فني يجمع بين الأمانة لمضمون المسرحية وخصوصية المخرج المبدع في المعالجة الاخراجية.
تعتبرquot; رقصة الموتquot; المكتوبة عام 1900 الى جانب مسرحيتي quot;لعبة حلمquot; وquot;الآنسة جوليquot; اكثر مسرحيات ستريندبرغ تمثيلا. وهي مسرحية في جزأين، كل واحد منهما بحد ذاته مسرحية متكاملة.
والمتتبع لتأريخ المسرح السويدي يكتشف علاقة حميمة بين المسرح الملكي ورقصة الموت، حيث تكون المسرحية بهذا العرض قد عرضت للمرة السادسة على المسرح الملكي، وقد تسني لكاتب هذه السطور مشاهدتها عام 1983 مع أفضل ممثلي المسرح الملكي في ذلك الوقت، ثم في عام 1993 ومن إخراج الكاتب والمخرج السويدي لارس نورين، حيث تمَ عرضها 141 مرة.
وتكمن خصوصية الإنتاج الحالي في كونه يضّم لأول مرة الجزأين معا في عرض متكامل. فقد جرت العادة على تقديم الجزء الاول وحده وأحيانا وبشكل أقل قدّم الجزء الثاني على حده.
أما إستضافة المخرج جون كاريد لإخراج المسرحية فقد جرى ضمن تقليد ترسّخ في المسرح الملكي باستوكهولم منذ عقدين، يتلخص في دعوة مخرجين كبار من خارج السويد وإسناد مهمة إخراج مسرحيات سترندبرغ إليهم، بهدف تقديم تجارب جديدة قائمة على نصوص سترندبرغ، بأساليب فنية مختلفة وبمنظور غير المنظور السويدي لكاتبهم الكبير.
وقد سبق كاريد في تقديم أعمال ستريندبرغ في السويد مخرجون كبار من أمثال: الاميركي روبرت ولسون و الكندي روبرت ليباج والبولوني أندريه فايده
في الجزء الأول من المسرحية نلتقي بالزوجين: الكابتن إيدغارو أليس الممثلة سابقا، وهما يعيشان منعزلين في جريرة نائية، العلاقة المتوترة التي تربطهما وقساوتهما في معاملة احدهما للآخر يشكَل جوهر الصراع في المسرحية. لكن علاقتهما تتأزم أكثر بحضور صديق العائلة كورت في زيارة مفاجئة أليهما. وكورت هو إبن عم أليس، كان يرتبط بها بعلاقة حب في شبابهما، فتتأجج في أعماق الزوجين مشاعر الحقد و الضغينة، لتستحيل حياتهما جحيما لايطاق من كيل الاتهامات والطعنات النفسية القاتلة بين الاثنين. انها حقا مسرحية عن تعذيب الانسان لأقرب مخلوق اليه.
برع سترندبرغ في رسم شخصية الكابتن إدغار و زوجته أليس بابعاد بالغة الدقة وبعمق نفسي تجعل أداءهما حلما لكبار الممثلين ليست في السويد فحسب، بل وخارجه أيضا. ففي الويست إند بلندن قام بأداء دور إدغار الممثل الكبير لورانس أوليفيه، وفي برودواي قام بتمثيله الممثل إيان ميكلين.
أما في الجزء الثاني فتنقلب الآية تماما، حيث يظهر جيل جديد من فتيان وفتيات، هم أطفال شخصيات الجزء الأول وقد بلغوا سن الرشد. فإن كان الجزء الاول عن الكراهية والتصورات الكئيبة للحياة وكيل الاتهامات والشجار الدائم، فإن الجزء الثاني هو مسرحية عن الحب ومرح الشباب والغزل في عز صيف جميل.فجوديث ابنة إدغار وأليس غارقة في حب آلن إبن كورت، و قصة حبها مع آلن تذكَرنا بعلاقة حب امها أليس لكورت في شبابهما. الا انها تمر بمرحلة نضج إنساني تتسم بكونها أكثر صدقا إذا ما قورنت بتجربة والدتها.
تشكَل مسرحية quot;رقصة الموتquot; حجرا اساسا في الادب المسرحي الحديث، فمن جهة يمكن اعتبارها طليعة الدراما العائلية التي مهَدت لظهور مسرحيات من أمثال quot;رحلة النهار الطويلة نحو الليلquot; لأوجين أونيل، وquot;من يخاف فرجينا ولفquot; لإدوارد البي، ومن جهة أخرى فإن تاثيرها كنموذج أصيل للمسرح النفسي يمتد الى كتاب معاصرين من أمثال هارولد بنتر والسويدي لارس نورين وحتي الى مؤلفي مسرح اللامعقول. ولعل وضع البطلين العجوزين وعزلتهما في جزيرة تذكرنا بمسرحية quot;الكراسيquot; ليونسكو في بعض جوانبها، اما الكاتب المسرحي السويسري فقد أدى إعجابه بالمسرحية الى أعاد كتابتها تحت عنوان الليلة نرتجل سترندبرغ.
عرف عن المخرج جون كاريد ولعه بالعروض الضخمة، لكن ضخامة عروضة غير قائمة على البذخ والإبهارالمقصود بهدف خلق المؤثرات التجارية كبعض عروض الويست إند وبرودواي. إنها بالاحرى تنتمي الى تقاليد مسرح شكسبير الملكي والمسرح القومي بلندن اللذين يضعان الممثل وفنه في قلب التجربة الابداعية، مع إعتماد عروضهما الوثيق على التقنيات الحديثه ومنجزات العصر في مختلف مجالات التكنولوجيا.
نجح كاريد في أن يحوّلquot; رقصة الموتquot;| من مسرحية ذات طابع حميمي أعتاد المخرجون على تقديمها على مسارح صغيرة، الى عرض كبير ذي معمار إخراجي ضخم وهذا إنجاز كبير للمسرح الملكي الذي يدأب على تقديم عروض على مستوى العروض الكبيرة في العالم وبجودة فنية عالية.وعليه فإن مسيرة كاريد الابداعية ترتبط إرتباطا قويا بعمل مصمم المناظر (السينوغراف)، لذا نراه في رقصة الموت يسند مهمة تصميم مناظر المسرحية الى أشهر مصممي بريطانيا بوني كريستي في المسرح القومي بلندن والحائزة على جائزة لورانس أوليفيه في السينوغرافيا.
السينوغرافيا... خريف في الداخل وفي الخارج
بوني كريستي تقدم لنا في رقصة الموت سينوغرافيا تصوّر عالمي الجزأين المتناقضين تصويرا معبرا، فنرى في الجزء الأول عالما مغلقا متمثلا ببرج منعزل في جزيرة نائية، عالم تسوده الافكار السوداوية والتصورات الكئيبة، مجسدة على شكل غيوم سوداء تبلَد وجه السماء في حركة مستمرة تظهر على خلفية المسرح، ترافق مشاهد المسرحية لتعبر عن عوالم أشخاص المسرحية وأمزجتهم المتقلبة. فالسينوغرافيا في هذا الجزء تجسد عالما كبيرا معزولا ونائيا، وكأن ساكنيه يعانون من حالة فراغ في الداخل وفي الخارج، فهو عالم مكتظ بالألام و العذابات الانسانية في لون رمادي كئيب، أنه صورة مطابقة لعالم الكابتن الداخلي حين يقول: انه خريف في الداخل وفي الخارج.في حين تكون الصورة في الجزء الثاني مغايرة تماما، حيث الفضاء الشاعري الرحب بألوانه البهيجة، والسماء الزرقاء بكتل غيومها البيضاء المتحركة بإستمرار. وبهذا يكون لخلفية المسرح دور لايقل أهمية عن دور بقية مفردات العرض.
التجسيد البصري
ويظهر كاريد براعة عالية في توظيف كل أصناف التقنيات البصرية بدقة بالغة على أرضية نص مشحون بانفعالات نفيسية غابة في العمق والتعقيد.. فالاضاءة والموسيقى والملابس تساهم في العرض بتناسب مدروس.وعلى الرغم من الهندسة الدقيقة لمعمار الاخراج، وبراعة إستخدام التقنيات التكنولوجية في العرض، يجدر الاشارة الى نقطة جوهرية في إخراج كاريد الا وهي ان العرض قائم في أساسه على أداء الممثل والتواصل الخلاَق بينهم، فالمخرج يضع الممثل في قلب التجربة الفنية، واضعا كل المفردات العصرية لفن المسرح في خدمته، ليقدم بذلك رحلة في أعماق أشخاص المسرحية ودرسا عن نبذ الخصام والانانية والكراهية، وان الخلاص كامن في العطف و الشفقة والحب.
يضفي كاريد في تفسيره المسرحية طابع الخفه والكوميديا على الكثير من المشاهد التي جرت العادة على تقديمها بنغمة تراجيدية وبكآبة اسكندنافية معهودة، فهي أساسا مشاهد تصوّر مأساة الشخصيتين وسوداويتهما القاتلة، ولم يكن غريبا ان يفاجأ الجمهوربعض الشئ بمثل هذا الطرح لمخرج بريطاني يفسَر عالم سترندبرغ بمنظار مختلف عن المنظار السويدي، ولكن مهما أختلف الأمر فيبقى التعمق وسبر الأغوار والإبتعاد عن السطحية ميزة أعمال كاريد.
فهو يقدم لنا صورة فنية ساخرة لما هو سلبي في الطبع الانساني، صورة مريرة، تستدعي السخرية والضحك ممزوجة بالحزن والاسى الإنسيابية وخفة الايقاع هما ميزتا هذا العرض الذي يتعدى ثلاث ساعات ونصف ليبقى طوال مدة العرض محتفظا بتماسكه وعنفوانه، من دون فراغات وتلكؤات وهبوط، كل هذا والجمهور لا تفارقه اللهفه والشد و الإنجذاب اليه.
يقينا انه عرض يحتل مكانة لا تنسى في ذاكرة من يشاهده.
عرض يقول عنه ليف زيرن أشهر نقاد المسرح في السويد: أفضل عرض لأعمال سترندبيرغ خلال عقد كامل.
التعليقات