هل يمكن تمثيل تراجيديات شكسبير بفريق كامل من الممثلات؟

الدكتور فاضل الجاف: من المعلوم ان العروض الشكسبيرية في الحقبة الإليزابيثية من تأريخ المسرح كانت تقدم من قبل الذكور، والأدوار النسائية كانت تجسَد من قبل فتيان صغار أختصوا بها. لكن العرض الحالي لمسرحية ريتشارد الثالث على مسرح المدينة باستوكهولم أخذ منحىً مضادا للتقاليد الإليزابيثية، وذلك بأداء جل أدوار المسرحية من قبل
ممثلات قديرات. قبل العرض الإفتتاحي كنت أتحرق شوقا لمشاهدة تجربة كهذه. كيف يمكن لممثله أن تؤدي دور ريتشارد الثالث الطاغية الذي يفتك بأعوانه وأقرب الناس إليه، ولا يستثني من ذلك أخاه كلارنس خوفا من وصوله إلى الحكم. كيف يمكن أن يُجسّد مثل هذه القساوة والقبح والتوق الى القتل من قبل إمرأة؟ وكان ترقب الجمهور مزيجا من الفضول واللهفة. خصوصا وقد تمّت برمجة العرض الإفتتاحي في الريبيرتوار ليصادف الثامن من مارس يوم الإحتفال بالمرأة العالمي، ولايزال العرض متواصلا يحظي بإقبال الجمهور.

ما البون بين الممثلات والأدوار الرجالية سرعان ما تلاشى بعد الدقائق الثلاث الاولى من العرض، حيث برزت الممثلة غونيلا رور في دور ريتشارد الثالث في مشهد إستهلالي مقتضب، من فتحة المسرح الارضية قبل فتح الستارة، وهي تمتطي جوادا أصفراللون لتمهّد منذ مطلع العرض لصدى صرخات ريتشارد في المشهد الاخير حين يفقد عرشه ومملكته صارخا: جواد..جواد، مملكتي لقاء جواد.جواد خشبي بلون أصفر دلالة صارخة منذ البدء للموقف الساخر من الطاغية ريتشارد.

ان الصدق في الأداء ينسيك بالفعل الفارق بين الجنسين في هذه المسرحية، بل أن ذلك يؤكد قوة المسرح القديم، مسرح التقاليد والأعراف العريقة، حيث كان المتعارفُ أن يؤدي الرجال الأدوار النسائية في العصر اليوناني والإليزابيثي والمسارح الآسيوية، أما اليوم لم لايمكن أن يكون العكس صحيحا؟

يجزم العديد من الباحثين في المسرح الإليزابيثي، وعلى رأسهم أ. م، ناكلر مؤلف كتاب مسرح شكسبير، على أن الأدوار النسائية كانت تجسَد من قبل الشباب المبتدئين من ممثلي الفرقة المسرحية. وكان هولاء المبتدئين بمثابة تلامذة فن التمثيل، أنضموا الى فرقة شكسبير ليتدربوا على تقنيات فن الممثل على يد كبار الممثلين. وكان كل فتى ينتمي الى ممثل محترف ويرتبط به، وكان لزاما عليه ان يمثل الأدوار النسائية كشرط أساسي في المرحلة الأولى من التدريب والتأهيل، بعد ذلك يتدرج ليغدو مؤهلا لتمثيل الأدوار الرجالية. فالممثل روبرت كوف أحد أهم ممثلي شكسبير، كان أول من مثّل جولييت.. والممثل الذي كان يمثل ليدي ماكبث تتلمذ على
يد الممثل الذي أشتهر بدور ماكبث و ريتشارد الثالث. وهو نفسه قام بأداء الأدوار الرئيسة في معظم تراجيديات شكسبير من امثال: هاملت، ماكبث، بروتوس.

وبناء يقودنا هذا إلى إستنتاج مفاده: ان الأدور النسائية لم تكن تحظى بتجسيد من قبل ممثليين بارعين. على العكس من الأدوار الرجالية التي كان يؤديها ممثلون محترفون من أمثال: توماس بوب المختص بالأدوار الكوميدية مثل فالستاف، ريتشارد بيربيغ الذي كان أول من مثَل ريتشارد الثالث وهو نفسه كان يؤدي أدوار العشاق والأمراء كروميو وهاملت وبروتوس وكوريولانوس. وإذا أجرينا مقارنة بين المسرح الإليزابيثي والمسرح الياباني بخصوص أداء الأدوار النسائية في كلا المسرحين من قبل الرجال، فقد نرى ان الأدوار النسائية في المسرح الياباني العريق كانت ولا تزال تجسَد من قبل ممثلين محترفين بارعين في أداء الأدوار النسائية، وهو يختلف تماما من هذه الناحية عن المسرح الإليزابيثي. اما في عرض مسرح المدينة، فالأدوار الرجالية على عكس كلا المسرحين، تجسَد من قبل ممثلات محترفات قديرات.

الطغاة في مسرح شكسبير
لعل شكسبير أحسن من جسَد الطغاة على المسرح. فقد رسم الى جانب ريتشارد الثالث طاغية أخرى، ليس أقل عنفا وبطشا منه، الا وهو ماكبث. لكن أهم فارق بين الطاغيتين يتجلى في أن ماكبث يتحول الى طاغية وسفاح تدريجيا ضمن سياق المسرحية، في حين ان ريتشارد يطرح نفسه منذ المشهد الأول كطاغية متعطش للسلطة. فإذا كانت ماكبث مسرحية تدور حول رجل عسكري يتحول الى طاغية، نجد اننا نواجه ما سيفعله طاغية في اوج إستبداده وهو يفتك بدون رحمة بكل من حوله. هذا المفهوم يشّكل جوهر رؤية المخرجة الى النص وهو لديها بمثاية مفتاح العرض للولوج الى عوالم المسرحية.

وهي على ظهر الجواد الخشبي،جسّدت رور جوهر شخصية الطاغية بطريقة ساخرة عميقة، في حركات وأوضاع بلاستيكية مؤسلبة، تذكرنا بتماثيل الملوك والاباطرة والطغاة في الشوارع والساحات العامة، ممن كان لا حدود لاحلامهم التوسعية ، فكانوا يؤشرون شرقا وغربا وشمالا وجنوبا وهم يحلمون ويطمحون إلى إحتلال العالم إن شاء لهم ذلك.

مع هذه البداية المرسومة بدقة ، المعّبرة عن شخصية ريتشارد وطموحاته، نكون قد وقفنا على عتبة عرض لمسرحية ريتشارد الثالث من نوع آخر بصياغة خارجة تماما عن الأنماط السائدة. حقا ان المشهد الإستهلالي هو بمثابة مفتاح لجوهرالعرض وأسلوب المخرج الذي ينأى عن النمطية في عروض فرقة شكسبير الملكية المتمثلة بهيكلية ضخمة مع إستخدام مؤثرات قوية ذات أجواء حديثه و مناخات عسكرية في سياقات تأريخية لا تبتعد كثيرا عن العصر الراهن. كل هذا لا يعني ان اسلوبية فرقة شكسبير الملكية خالية من
التجديد والحداثه في محاولة عصرنة شكسبير، لكن الملفت للنظر أنها تحوّلت بمرور الزمن إلى نموذج نمطي يقتدي به الكثيرمن مسارح العالم. في عرض ريتشارد الثالث على مسرح المدينة باستوكهولم، نتعرَف على بعض الحلول الإخراجية وشذرات هنا وهناك قد تذكرنا بعروض فرقة شكسبير الملكية، الا أنه عرض يتمتع بخصوصيته وفرداته من حيث الهوية، و من حيث لغتها المسرحية الساخرة التي تخاطب المتلقي بسهولة وإنسابية وبشئ من السردية المباشرة الطافحة بالحيوية، ومن حيث زمكانيته كالسينوغرافيا وفضاء الأحداث والأزياء المؤسلبة بين التأريخية والمعاصرة، فلا يطغي زمن أوعصر معين على عناصرالعرض البصرية، لكن كل شئ يلمَح بالحاضر بلغة فنية.
ريتشارد الطاغية، رجل دموي، متآمر بإستمرار، فهو يفتك بأقرب الناس اليه، ولا يستثني من ذلك الأطفال، لكن الممثلة تقدم لنا مستبدا هزليا ومضحكا. هذه السخرية من الشخصية بشكل متواصل أكسبت الدور حيوية وعمقا، وكأن الممثله تسخر من ريتشارد وتجسَد لنا رؤيتها الإنتقادية، فتقدمه من خلال إيقاعها الفكري والشعوري، بدلا
عن معايشة الدور معايشة نفسية، فهي تذكرنا بتجسيد تشابلن شخصية هتلر في فيلمه الديكتاتور. تقول لنا المخرجة : ان الطغاة يسعون الى خلق صورة مرعبة ومخيفة لكي يبدوا أكثر جدية أمام الشعب، لكنهم في الحقيقة مغفلون و مضحكون، بل هم أقربُ الى المهرجين أحيانا.
هذه الصورة تتحقق بجلاء في اداء الممثله رور الملئ بالسخرية والإزدراء، فمخارج الحروف ونمط الكلام ووتيرته معا، بالإضافة الى التجسيد الجسماني لقبح ريتشارد وهيأته القميئة المعبّرة عن حبه للقوة والإنفراد بالسلطة في كل حركة وإيماءة، تجعل من تقمصها شخصية ريتشارد مميزاً وفريدا لايقل عن تقمص كبار الممثلين دوره من أمثال لورانس أوليفية وإيان مكمليان.
إن إبداع رور في تمثيل دور رجل دموي معقد يكمن في قدرتها على أن تبتكر لغة خاصة به ، بريتشارد الثالث ، وقواماً بدنياً يناسب جوهره البغيض، متمسكة بنبض هذا الأداء طوال العرض، يساعدها في ذلك الفريق المتماسك من الممثلين بأدائهم المتقن. كما لو كانوا سيمفونية متكاملة.
ان لغة ريتشارد ولهجته المراوغة ولسانه المعسول في الكذب والمرواغة تذكرَنا بلغة الدجالين من كبار الساسة في عصرنا، وهم كثار. من هنا بالذات تبرز عصرنة العرض وحميميته وإلتصاقه بما يجري اليوم. فنجاح العرض في خلق صورة السياسي المتعطش الى السلطة عن طريق التآمر يجعل العرض ملتهبا ومعاصرا ومعبَرا عن الخريطة السياسية لعالمنا الحالي.ان الكلمات المعسولة على ألسنة المستبدين تخفي في طياتها سموم الطموحات والمؤامرات الدنيئة.
وعليه، سيظل عالمنا دائما مسرحا حقيقيا لنصوص شكسبير، المسرح الذي سيبقى دوما فضاء مفتوحا لا يمكن تحديده الا بقوانين المعاصرة. هذه الفكرة عبّر عنها مصصم المناظر في خلق مسرح آخر، من نمط المسرح الأغريقي القديم المبني على شكل نصف دائرة تحيط بها منصات النظارة.
إن السينوغرافيا توحي أيضا بالمسرح الإليزابيثي، وهي في الوقت نفسه مسرح الاحداث السياسية الدموية والصراعات العنيفة التي تذهب ضحيتها خيرة الناس ويكون ريتشارد نفسه آخر الضحايا مهما قسا على الآخرين وامتلك من سلطان.
حقا ان الصورة السينوغرافية في ريتشارد الثالث على مسرح المدينة بأستوكهولم توحي بجملة من المعاني والدلالات المجازية تداعب مخيلة المتفرج وقدراته الذهنية طوال ثلاث ساعات ونصف من عرض متماسك متألق بإستثناء المشاهد الأخيرة. المخرجة أنيت نوربيرغ تقود فريقها النسائي بجدارة تنم عن خبرة متمكنة ، وتقودنا ، نحن المتفرجين أيضا في رحلة فنينة مؤسلبة ممتعة، لكن المؤسف في الأمر، ان هذه الرحلة لا تحط رحالها في نهاية المطاف بالقوة المتوقعة، بل نراها تتلكأ في مشاهدها الاخيرة عندما يفقد الأداء طابعها المؤسلب ليسود فيه النفس
الواقعي والطبيعي، وهذا ما يؤخذ على العرض.