الإيحاء والتنويم الديني
من المستحيل إرغام جميع البشر على اعتناق نفس الدين أو الحضارة أو اللغة والفكر لذا ينبغي العمل على ترسيخ قيم التعددية والتسامح لكل الجماعات البشرية الغربية والشرقية . الفيلسوف البريطاني المعاصر جوناثان ساكس.

عندما نتأمل بمكانة أعيان مجتمع ما والناس الذين يُعدون علية القوم الذين تقدرهم المجتمعات وتبجلهم نستطيع أن نفهم القيم المنتشرة في هذا المجتمع ونفهمه بشكل أكبر، فمن يُشغل موقع الطبيب أو المهندس يُشار إليه بالأحترام والتقدير في المجتمع العراقي - مثلا - وهذا ما يدفع طلبة الأعدادية إلى التنافس من أجل أن يُشغلوا هذه المواقع ويهتموا بالوصول إليها مع غض النظر عن طبيعة مواهبهم ورغباتهم في دراسة مجال ما فتسود وجوه من لم يوفقوا لذلك وتبيض وجوه آخرين! وفي مجتمعاتنا أحتفظ موقع رجل الدين بالوجاهة والتقدير ويُطلق على الإنسان الذي يشغله بالعالم بدون وضع قيد أو شرط فكأنه شامل لكل العلوم وكل مجتمع يتماسك بنسق من القيم والرموز الثقافية من لغة واساطير وتقاليد وأعراف ودين والأفكار والمعايير التي تمثل سلطة الرقيب- سلطة القمع الرمزي حسب تعبير بيير بورديو - على بناء الأفراد بشكل يجعلهم مقبولين داخل مجتمعهم وأي خروج عن نسقهم يجعلهم في عداد الهالكين والمنبوذين إذا صح لنا أن نستعيد بعض فرضيات الوظيفية والبنيوية الوظيفية في علم الاجتماع عن الضبط والتنظيم الاجتماعيين - أنظر الموجز في النظريات الاجتماعية للدكتور أكرم حجازي - وهذا ما يحدث حتى داخل الأنظمة الإيمانية المغلقة كما حدث لمارتن لوثر وكالفن في التراث المسيحي أو لقاسم أمين وعلي شريعتي أو الشيخ مصطفى ابو رية أو محمد حسين فضل الله في المجتمعات الإسلامية وقد ترتبك هذ الأنساق وتتعرض للهزات وتولد أكثر من نسق للقيم في مجتمع ما ويمكن أن أمثل لذلك بوظائف رجال الدين الكلاسيكية فهم كانوا يمثلون النخب المثقفة قديما ولكن ظهور طبقة المثقفين الأكاديمين زعزعت سلطتهم الثقافية والروحية وأمتد الأمر عندما طالت يد المثقف الأكاديمي ساحات الدراسات الدينية التي كانت محصورة بطبقة رجال الدين وهذا ما لا نزال إلى ألان نشاهده في نصوص كثيرة تطالب غير رجال الدين بالابتعاد عن تلك الساحة مع أنه لا يوجد أحتكار للمعارف ولا شرط لها غير التمكن المعرفي وقد راينا علماء الإسلاميات الغربيين يقومون بما لا يقوم به نفس المسلمين من دراسات مبتكرة ولكن واقع المسألة محاولة احتكار وظيفة سدنة الرأسمال الديني وتسيير التراث حسب تعبير محمد اركون وفي الحقيقية فإننا نظلم أغلبية رجال الدين المتزمتين حين نطالبهم بأن يكونوا (من دعاة الأصلاح في الدين ونحن في هذا كمن يطلب من صاحب دكان أن يقوم بعمل ينفر الزبائن منه) كما يقول علي الوردي وهذا ما أدى برجال الدين المتنورين إلى الخسارة والتشويه كما نجد في السيد محسن الأمين مثالا واضحا من التراث الشيعي -أنظر لمحات من سيرته في كتاب هكذا عرفتهم لجعفر الخليلي - هنا وجد أكثر من نسق اجتماعي بين من يتابع رجال الدين وهم الأغلبية حاليا وبين من يتابعون الدراسات الأكاديمية ونتائجها وهم الأقلية المرشحة للأنتشار الواسع مستقبلا. عموما فإن هذه الأنساق الرمزية والثقافية تمتلك سلطة الإيحاء المنومة للفرد أو التي تحافظ عليه داخل الجماعة وهو ما أطلق عليه الدكتور علي الوردي بالتنويم الاجتماعي لأنه يشبه التنويم المغناطيسي القائم على الإيحاء ، يقول في ذلك ( إن الإنسان يخضع في حياته الاجتماعية لتنويم يشبه من بعض الوجوه التنويم المغناطيسي وهو ما يمكن أن نسميه بالتنويم الاجتماعي فالمجتمع يسلط على الإنسان منذ طفولته ايحاء مكررا في مختلف شؤون العقائد والقيم والاعتبارات الاجتماعية وهو بذلك يضع تفكير الإنسان في قوالب معينة يصعب التحرر منها وهذا هو الذي جعل الإنسان الذي ينشأ في بيئة مغلقة ينطبع تفكيره غالبا بما في تلك البيئة من عقائد دينية وميول اجتماعية واتجاهات عاطفية وما أشبه فهو يظن أن أتخذ تلك العقائد والميول بأرادته واختياره ولا يدري أنه صنيعة بيئته الاجتماعية ولو أنه نشأ في بيئة آخرى لكان تفكيره على نمط آخر) لمحات أجتماعية من تأريخ العراق الحديث ج 2ص 319. وللنبي الكريم محمد عبارة تقول (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وهذا ما يمكن أن تقوله مجتمعات آخرى وتضيف إليه أو يؤسلمانه وفي داخل المجتمعات الإسلامية أو يسننانه أو يشيعانه...الخ. ومن الجدير بالتنبيه أن الأغلبية تخضع للتنويم الاجتماعي ولكن ليس الجميع فهناك شخصيات تخرج عن ذلك ومن هذا النوع الذي لا يخضع للتنويم تظهر الشخصيات التي تحدث تغيرات كبيرة في مجتمعاتها وحديثنا هنا عن المحيط الاجتماعي لا ينفي الغرائز الفطرية التي تحدث عنها نعوم شامسكي والتي لها حديث آخر.

التنويم الديني
اذا كان هناك(التنويم الاجتماعي ) فإن عمليات الإيحاء المستمرة التي ينهض بأعبائها رجال الدين تخولنا أن نطلق عليهم بالمنومين الدينين وليس المراد من ذلك السخرية منهم أو النيل من مكانتهم فلهم أدوار مهمة في الحفاظ على تماسك المجتمع ومواجهة خطر الأنهيار مثلما أن للطقوس والشعائر الدينية وظائف تخفيف الضغوطات النفسية أو التوترات الاجتماعية كما يذكر الأنثربولوجي برنسلوي مالينوفسكي خصوصا عند وجود هزات ضخمة تلتجأ المجتمعات بسببها لموروثاتها الدينية وتبدأ بالأنشطار وشلل التفكير وقابلية التلقي كما حدث في العراق الحالي وليس ذلك بغريب إنما الغريب أن لا يُفهم! إذاً ليس حديثنا هنا للنيل من رجال الدين وإنما محاولة لفهم طريقة عملهم من زاوية آخرى فرجال الدين المسلمين - مثلا- يوظفون آدوات مختلفة في عمليات الإيحاء الديني كالكتب والأناشيد الحماسية والمواعظ الشفوية - هي الاشد تاثيرا- التي يقوم بها المبلغ والواعظ وخطيب الجمعة والتي لها حضور جماهيري واسع ومن لا يحضرها من المؤمنين يستطيع بسهولة أن يسمع الكاسيت أو يشاهد فلما مصورا منها أو البرامج الحية في عصرنا ويمكن أن نجد أنموذجا مثاليا للمنومين الدينين في شخص الداعية عمرو خالد فالرجل سجل نجاحا كبيرا في عمليات التنويم الديني وقل مثل ذلك عن الداعية يوسف إسلام فأغانية الدينية تؤثر تاثيرا كبيرا ولها أدوار إيحائية ممتازة وعلى نفس النسق تشتغل المسلسلات الدينية التي تصور النقاء التام للشخصيات الدينية والتأريخية ولا تصورهم بشكل واقعي وإذا حاولت أن تقوم بذلك تتعرض لهجوم اجتماعي كما حدث لأسامة أنور عكاشة ورايه في شخصية عمرو بن العاص !! قلت يوما للدكتور شاكر النابلسي إن التاثيرات الشفوية أشد تأثيرا من الكتب في مجتمعاتنا ولا زلت أؤمن بإننا نخدع أنفسنا عندما نعتقد أن نصوصنا المكتوبة ستنتج الأثر المطلوب في مجتمعات نسبة الأمية فيها عالية ونسبة القراء قليلة ونسبة الباحثين المتفردين أندر من الكبريت الأحمر وأوساطنا الثقافية مشغولة بالشعر غالبا وهنا تبدو الحاجة الماسة إلى سياسي كبير من النوع الذي وصفه المؤرخ الأمريكي برنارد بايلين ذلك الذي يضع مخططا استراتيجيا بعيد المدى ويمشي ببلاده وشعبه نحو تحقيقه. لأننا محاطون بعمليات الإيحاء الشفوي المستمر بالمواعظ والخطب الحماسية والكاسيتات والدعاة والمبلغين وائمة الجمعة والجماعة والمفتين إضافة إلى الكتب الدينية التجارية فما الذي سيفعله الكتاب الفكري أو الفلسفي أو الديني المتنور لوحده في مواجهة كل ذلك ليخترق الوجدان والوعي واللاوعي الاجتماعي ؟ إننا نحتاج إلى السياسي الماهر إلى جانب المفكر والمثقف الرصين ليقوم بالمشاريع بعيدة المدى ، فهل نملك هكذا ساسة؟