للمقاهي في ليالي رمضان الساحرة في بر مصر قصص ونوادر وحكايات، وفي ميدان سيدنا الحسين الذي تتناثر حوله القهاوي والاضواء والالوان تروي علي أنفاس الشيشة أحلي هذه النوادر والحكايات. ولا ينسي الشيوخ والمخضرمون من رواد قهاوي سيدنا الحسين، تلك الليلة من رمضان 1900، حين أعتلي " عبده الحامولي – ألمع مطربي ذلك العصر – مئذنة مسجد سيدنا الحسين لينقذ بصوته الرخيم حي الجمالية من كارثة محققة.
كان الحامولي جالسا علي قهوة " الخان " يدندن لمجموعة من أصدقائه في ضيافة الخواجة اسكندر أشهر تاجر منيفاتورة بالمغربلين، وما ان علم رواد القهاوي المجاورة بوجوده حتي تدافعوا داخل القهوة وخارجها،ومن شدة الزحام والاختناق وخشية نشوب معركة كبيرة بين أصحاب القهاوي والرواد والفتوات في هذا الشهر الكريم، نصح أحد المقربين للحامولي بحل يدرأ الفتنة ويرضي كل الاطراف، خصوصا جمهوره الذي لايملك المال لسماع صوته في الحفلات، وتمثل هذا الحل في اعتلائه مئذنة المسجد لينشد بعض التسابيح.
وجرت العادة علي ان تنشد التسابيح عقب آذان العشاء من أعلي المنابر في أواخر رمضان وتسمي ب"التواحيش"، ومعناها توديع الشهر الكريم، وبث ما لفراقه من الوحشة في النفوس. وما ان بدأ الحامولي انشاده بصوته الجميل المنحدر الي المسامع، حتى اكتظت ساحة الميدان وأسطح المنازل بالناس، واثر كل وقفة من وقفاته كان الجو يمتلئ تهليلا وتكبيرا :
يا من تحل بذكره
عقد النوائب والشدائد
يا من من لديه الملتقي
واليه أمر الخلق عائد
وترتفع الآهات من الصدور كدوي البحر الزاخر... الله، وبقي الحامولي ينشد تواحيشه ثلاث ساعات من دون انقطاع.
كان لرمضان في ذلك الزمان الجميل من البهجة والوقار ما لا وجود له اليوم، وعلي الرغم من ان الشهر الكريم بقي علي عهده كل عام فان الناس والاحوال تغيرت، اذ كانت الزينات في الساحات علي شحوبها وقلتها اذا قيست الي كرنفالات اليوم، أروع في العيون وأوقع في القلوب لانها كانت أعلق بالمعاني منها بالمباني.
كانت القهاوي عبارة عن دكك من الجريد والخشب والحصر، تضاء بالقناديل والسناقر، " والسنقر " أشبه بفانوس نحاسي كبير، كان يستخدم للاضاءة ليلا ولتسخين غلاية المياة ( لزوم المشروبات ) نهارا.
والقهوة والشيشة أهم ما تقدمة القهوة ومنها جاءت تسمية العامة لها ب"القهوة" الي اليوم، رغم اصرار حراس لغة الضاد علي أنها "مقهي". أما الشاي فهو حديث العهد، جاء مع الاحتلال الانجليزي من الهند التي كانت مستعمرة بريطانية. وكانت الادوات المستعملة من النحاس والصاج والفخار. وفي ليالي رمضان كان المنشدون يروون السير الشعبية والامجاد والبطولات، عقب انتهاء التسابيح من المنائر بأصوات كبار المشايخ. وتطورت القهاوي بمرور الزمان فحلت الكراسي الخشب والخوص المجدول والخيزران والكنب المكسو بالجلد محل الدكك، والفوانيس التي تضاء بغاز المصباح، وبدأ "التنباك" وسائر الالعاب المسلية تغزو القهاوي، كما حل الصيني والكريستال محل الادوات النحاسية والفخار.
قهوة الفيشاوي
لعل القهوة الوحيدة التي أحتفظت بتراثها هي قهوة الفيشاوي، فعمرها يتجاوز 200 سنة، ورغم انها هدمت اكثر من مرة واعيد بناؤها، فانها ظلت علي عهدها الاول. فقد كانت البوابة الرئيسية لعبور خان الخليلي، علي يسارها مسجد الحسين،و علي يمينها الأزهر الشريف، وقد صممت علي الطراز العربي الاسلامي القديم، حيث المشربيات والزجاج المعشق الملون والمرايات والثريات والخشب الارابيسك المطعم بالصدف، وتكاد تشم عبق التاريخ في ربوعها، فلونها البني المحروق وحوائطها الصفراء الداكنة بفعل دخان الشيشة وآثار الزمان، جعلت منها مزارا لعشاق الاصالة والتراث.
وهي مقسمة الي حجرات، لكل منها تاريخ خاص وطراز خاص، فهذه تسمي "الباسفور" مبطنة بالخشب المطعم بالابانوس، تمتلئ بالتحف والثريات النادرة والكنب العربي المكسو بالجلد الطوبي، أدواتها من الفضة والكريستال والصيني، وكانت مخصصة للملك فاروق في رمضان، وكبار ضيوف مصر من العرب والأجانب.
وتلك أطلق عليها "التحفة" وهي من أقدم حجرات القهوة، وهي اسم علي مسمي حيث الصدف والخشب المزركش والعاج والارابيسك والكنب المكسو بالجلد الاخضر وهي خاصة بالفنانين.
أما أغرب الحجرات فهي حجرة "القافية"، وكانت الاحياء الشعبية في النصف الأول من القرن العشرين تتباري كل خميس من شهر رمضان في القافية، عن طريق زعيم يمثلها من سماته خفة الظل وسرعة البديهة واللماحية وطلاقة اللسان والقفشة الساخرة، فكان يبدأ ثم يرد عليه زعيم آخر يمثل حيا آخر..... وهكذا حتي يفحم أحدهما الآخر، وسط ضحكات وقهقهات الحاضرين.
ومن زعماء القافية من حي الجمالية كان الاديب الكبير نجيب محفوظ عملاق الادب العربي، وقد قلده هذه الزعامة الحاج فهمي الفيشاوي صاحب القهوة في الثلاثينيات من القرن العشرين، وكان الحاج فهمي فتوة الجمالية وعنه أخذ نجيب محفوظ شخصية الفتوة الشهم الذي يحمي الضعفاء من الظلم، وأيضا شخصية السيد أحمد عبد الجواد ( سي السيد ) في الثلاثية. وقد نصح محفوظ الفنان الراحل يحي شاهين بالاقتراب من الحاج فهمي من دون أن يشعره بذلك حتي يتقمص شخصيته في السينما، واستمر شاهين يراقب الحاج فهمي في سكناته وحركاته مدة شهر كامل حتي استلهمها تماما... أما أشهر الشخصيات الرمضانية فلها حديث آخر....
بقي ان تعرف عزيزي القارئ ان الخواجة اسكندر الذي جاء ذكره في أول المقال هو جد كاتب هذه السطور الذي دون في مذكراته وألقي علي مسامعنا أجمل حكايات مصر المحروسة.
أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس المصرية
[email protected]
التعليقات