عندما توفي باسل الاسد الذي كان يُعده والده حافظ الأسد لخلافته، كنت أسأل : ومن الخليفة بعد موت باسل ؟، كانت الإجابات كلها تقول : لا أحد؛ فالرئيس الأب كان حريصاً طوال فترة حكمه على ألا يكون هناك رجل ثان غيره، وغير ابنه باسل الذي توفي في حادث مروري ؛ وكانوا يؤكدون أن إعداد بشار الإبن الثاني للرئيس لخلافة والده في سدة الرئاسة كان يتطلبُ قدرات ومهارات وإمكانيات، لا تتوفر في بشار، علاوة على قصر المدة التي تتطلبها فترة الإعداد، وحينها كان الرئيس الأب يعاني مرض السرطان، وكان الجميع يتوقع رحيله القريب.
تسلم بشار الأسد مسؤولية الرئاسة بعد وفاة والده، رغم أنه لم يكن مهيئاً ولا يملك من الناحية الشخصية، وبالذات التجربة والكاريزما، ما يؤهله لإدارة الصراع والأوضاع السياسية المعقدة والمتشابكة في سورية على المستوى الداخلي والخارجي.
كان الملف اللبناني من أكثر الملفاتتعقيدا على طاولة الرئيس الشاب، وكان الجميع موالون ومعارضون، في سوريا ولبنان في انتظار كيف سيدير الرئيس الجديد اللعبة، وكيفَ سيتعامل مع الحرس القديم، الذي كان أفراده لا يكنون له أي إحترام، وينظرون إليه بعين الإحتقار.
وتحت ضغوط إثبات (الذات) والكفاءة، للقريبين قبل البعيدين، وللأصدقاء قبل الاعداء، راح الرئيس الجديد يُحاولُ أن يتقمص دور أبيه، وأن (يُمثلَ) دور القائد الأب، حتى في طريقة الحديث و الجلوس والتعامل مع الزوار والقادمين إلى سورية من الخارج. ولأن والده كان رجلاً دموياً، جاء إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري، وكانت تصفية المناوئين بطريقة الإغتيال هي أهم وسائله لترسيخ سلطاته وفرض هيبته، كان لا بد لبشار الإبن من (قربان) يُذبح ليثبت بالفعل وليس بالقول إنه (صنو أبيه) ؛ وبقدر ما يكونُ هذا القربان كبيراَ وضخماً بقدر ما يختصر الطريق نحو (إعجاب) الحرس القديم، وفي الوقت ذاته (إخافة) المناوئين،، وإثبات أن حافظ الأسد لم يمت بعد، لأن (الشبلَ من ذاك الأسد).
كان الرئيس الحريري يشكلُ للأسد الصغير التحدي الأول، فقد كان الحريري بالفعل يرى في بشار أنه صغير جداً أمام المسؤوليات الكبيرة التي شغرت بشكل واضح بعد وفاة الأب، كما كان يقول لخاصته، الأمر الذي شجعه أن يُعيد تحالفاته واتصالاته مستفيداً من علاقاته الدولية وتحالفاته الداخلية وإمكانياته المالية، وكل (طموحه) كان إخراج سورية من لبنان مستغلاً ضعف الرئيس الصغير والظروف الدولية المتاحة. من هذه الخلفية رأى بشار في الحريري أنه القربان المناسب؛ وأن تصفيته ستعيد له الإمساك بكل خيوط اللعبة، وتمكنه بالتالي من إحكام قبضته الحديدية على الدجاجة اللبنانية التي تبيض لنظامه بيضاً من ذهب، وفي الوقت ذاته ستجعله (يخلط) أوراق لعبة القرار الأممي 1559 الذي كان الرئيس الحريري في رأي بشار هو من صنعه، ثم عمل على إصداره من الأمم المتحدة.
ولأن الرئيس بشار كان محدود الرؤية والتجربة السياسية، ولأن معاونيه الإستخباراتيين وكذلك السياسيين لم يستطيعوا على ما يظهر قراءة اللحظة السياسية الاقليمية و العالمية كما ينبغي، ظنوا أن (رأس) الرئيس الحريري سيكون بمثابة رأس (غليص)، أو (المخلص) لهم من الورطة و العزلة العالمية التي بدأت تضيق عليهم يوماً بعد آخر، وكذلك تفويت الفرصة على من يسعى للضغط عليهم للخروج من لبنان، وفقدان (دجاجة) الذهب اللبنانية. وكانوا يظنون على ما يبدو أن النظام السوري، وحلفاءه اللبنانيين في الداخل، قادرون على امتصاص ردود الأفعال و التغطية على الجريمة، كما فعل (أبوه) في مرات عديدة قبله.
غازي كنعان وزير الداخلية السوري كان (على ما يبدو) هو نقطة الإتصال بالرئيس السوري الشاب الذي أدار له لعبة (الإغتيال)، و أما (رستم غزالي) مسؤول الاستخبارات السورية في لبنان آنذاك، فقد أمر بتنفيذها المسؤولين الأمنيين اللبنانيين (الأربعة) المعتقلين حالياً. وهذا ما حدث.
ديتليف ميلس رئيس لجنة التحقيق الدولية في إغتيال الحريري، يبدو أنه إلتقط بطريقته خيوط المؤامرة، وبدأت تتكشفُ له شيئاً فشيئاً مؤامرة الإغتيال، فأقدم على اعتقال الضباط الأمنيين الأربعة اللبنانيين، ثم انتقلَ إلى سورية، واستجوبَ غازي كنعان ورستم غزالي، وآخرين كانوا مسؤولين عن الشأن الإستخباراتي في لبنان طوال فترة الوصاية السورية وحتى رحيل القوات السورية نهائياً من لبنان.
استجوابات ميلس في دمشق يبدو أنها وضعت الكثير من النقاط على الحروف، وبدأت المؤشرات تتجه إلى أعلى النظام الحاكم في سورية، الأمر الذي كان لابد معهمن تقديم ضحية (أخرى) للتورية على مقتل الرئيس الحريري، والإفلات من مسؤولية الجريمة، وقطع الطريق على ديتلف ميلس الذي كان يحث خطاه للإتجاه نحو القصر الجمهوري في دمشق.ولم يكن ذلك ممكناً في رايهم إلا بتقديم (قربان) آخر، ولكنه هذه المرة سوري وبعثي، ومن عِِلية القوم في دمشق.
والسؤال الذي يبحث عن إجابة : هل تصفية أو انتحار غازي كنعان ستلغي أي خيط (حسي) لإثبات علاقة القمة السورية باغتيال الحريري، وتفوت بالتالي على ميلس ومن هم وراء ميلس القدرة على إثبات (من يكون) مصدر الأمر بالإغتيال إلى الأبد، أم ستفتحُ فصلاً جديداً في هذه القضية التي طالت وتعقدت وتشابكت خيوطها، حتى أصبح تقدير نتائجها وما سوف تؤول إليه أقرب ما يكون إلى التنجيم وضرب الودع ؟.. وهل ـ مثلاً ـ أخطأ الأسد الصغير مرة ثانية في إصدار أمر إغتيال أحد رفاقه الأمنيين مثلما أخطأ في إصدار أمر إغتيال الحريري في المرة الأولى؟، وهل ستتوالى الإنتحارات فينتحر رستم غزالي، وجامع جامع، وآخرين غيرهم (لإنقاذ) الآمر الحقيقي بتنفيذ إغتيال الحريري؟
المستقبل وحده كفيلٌ بالإجابة.