حاول الفلاسفة في الغرب منذ القرن السابع عشر أن يبدلوا مدنية تستند على فكرة "الواجب" : الواجبات نحو الله، والواجبات حيال الملك ؛ بمدنية تقوم على فكرة "الحق" : حقوق الضمير الفردى، حقوق النقد، حقوق العقل، حقوق الإنسان والمواطن.
وإذا أردنا إجلاء الشخصية الأساسية للحضارة الغربية، أو الحداثة الغربية من خلال الفلسفة – كما يقول جورج زيناتي - سنجد أن هذه الفلسفة سواء كانت مثالية أم واقعية، نقدية أم تجريبية، وضعية أم برجماتية، روحية أم مادية، تخضع لدينامية داخلية خاصة بها، هى : الصراع المستمر من أجل انتزاع الحريات المجسدة للفرد من كل السلطات التى كانت تتحكم فى مصيره وتحاول أن ترسم له مسبقاً خط سيره، فقد ناضلت الفلسفة ضد السلطة العليا الترنسندنتالية، والسلطة المدنية المتمثلة بالملك، والسلطة الأبوية. ويبدو هذا النضال من أجل الحريات المجسدة للفرد فى موقف هذه الفلسفة تجاه الطبيعة والعلم والفرد.
ومفهوم التسامح كما نفهمه اليوم هو محور مفاهيم الحداثة الغربية، وهو دارج فى بنية "الحقوق والواجبات" للدولة الحديثة، وكان اجتراحه وتأسيسه حاجة وجودية وفلسفية ملحة للخروج بالمجتمعات الغربية من أتون حروب التعصب الدينى التى دامت نحو قرن ونصف القرن، من القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر، ونشرت الموت والخراب والمجاعات والأوبئة.
ولم يكن من مخرج من جنون هذه الحروب الدموية إلا باجتراح -"معادلة عقلانية" - يحتكم إلى منطقها فى فصل المقال فيما بين الدين والسياسة من اتصال. ولعل رسالة "الفيلسوف" الانجليزى جون لوك فى "التسامح" التى نشرها دون توقيع ؛ والذى دعا فيها للقضاء على بنية التفكير الأحادى المطلق وروح التعصب الدينى المغلق، وإقامة الدين على العقل، وبناء منظومة حقوق تؤسس لمفهوم التسامح تعتمد مبدأ فصل المهام بين دور الكنيسة ودور الدولة ؛ قد ساهمت بالنصيب الأكبر فى تأصيل التسامح الدينى وتقنينه على مدى قرون عصر الحداثة.
وإذا كان التسامح يعرف بضده وهو "التعصب" Fanaticism، فإن التعصب فى تاريخ الاجتماع البشرى هو عصب الفكرة الشمولية الأحادية سواء كانت دينية أم وضعية، كما كان الحال فى أنظمة التعصب الكنسى فى العصور الوسطى، ثم أنظمة التعصب الايديولوجى فى العصر الحديث (الفاشية والشيوعية والنازية والصهيونية)، واليوم الحركات الأصولية فى الشرق والغرب : اسلامية ويهودية ومسيحية وهندوسية وسنهالية وتاميلية وصربية ونازية جديدة.. والبقية تأتي .
والتعصب فى اللغة هو عدم قبول "الحق" عند ظهور الدليل بناء على ميل إلى جهة أو طرف أو جماعة أو مذهب أو فكر سياسى أو طائفة. وهو من "العصبية" وهى ارتباط الشخص بفكر أو جماعة والجد فى نصرتها والانغلاق على مبادئها. والشخص المتعصب Fanatical هو الذى يرفض الحق الثابت والموجود ويصادر الفكر الآخر أو الدين الآخر، أولا يعترف بوجود كل ما هو آخر أصلاً، سواء فى الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق أو الحزب، وإن ارتبط التعصب فى أذهان الناس بـ "الدين" أساساً ربما لخطورته، لذا انصب "هم" الفلاسفة على تقويض التعصب أساسا حتى يفسحوا المجال للتسامح. وبدأ الاشتباك الفلسفى اللاهوتى (السياسى) منذ "اسبينوزا" فى أواخر القرن السابع عشر، ولم يفض تماماً إلا بانعقاد المجمع الكنسى المشهور باسم "الفاتيكان الثانى" بين عامى 62-1965، ثم بإعلان الأمم المتحدة سنة 1995 سنة عالمية للتسامح، وأصدرت فى 16 نوفمبر فى ختام المؤتمر الدولى للتسامح إعلان مبادئ كونياً، أكد على الالتزام بمواد الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والمعاهدات والاتفاقيات المتصل به. ودعا الدول إلى تأصيل سياسة التسامح فى قوانين وثقافة المجتمع لمكافحة مظاهر التعصب الدينى والقومى والعرقى وكراهية الأجانب، والإقصاء والإبعاد والتهميش والتمييز ضد الأقليات الوطنية والدينية والعمال الأجانب والمهاجرين واللاجئين، وأفعال العنف ضد حرية الأفراد فى إبداء الرأى والتعبير الحر وكل ما يهدد الديمقراطية والسلام.
كان اسبينوزا من أوائل الفلاسفة الذين حاولوا "تفكيك" الأصولية الدينية التى تقدم نفسها باعتبارها الحقيقة الإلهية المقدسة المطلقة، بالكشف عن طابعها البشرى أو الأرضى من خلال الحفر عن الأصول التاريخية للعقائد الدينية، ليخلص إلى القول بتاريخية كل العقائد والمذاهب ونسبيتها فى كتابه العمدة "البحث اللاهوتى السياسى" الذى وجه أول ضربة قاسمة لمزاعم الأصوليين عبر كل العصور، مدشناً أفقاً جديداً للحداثة فى الغرب، وعلى هذا النحو استطاع أن يجد أهم ثغرة فى الجدار المسدود للتاريخ وللعقيدة من خلال الفلسفة. وتضمن كتابه محاولة مفصلة لعرض الكتب المقدسة _ في اليهودية على الأخص – من حيث هى تعبير عن ظاهرة تاريخية واجتماعية، ولربط تعاليمها بطبيعة العصر التى ظهرت فيه، وانكار وجود أية دلالة مطلقة لها، تسرى على كل عصر.
وأدى هذا الربط بين الظاهرة الدينية وبين الظروف الاجتماعية والتاريخية، إلى نوع من سعة الأفق فى النظر إلى هذه الظاهرة، بحيث استطاع اسبينوزا أن يتأمل فى تسامح كل العقائد ويفهم مغزى كل منها فى ضوء ظروفه الخاصة.
وعبر عن ذلك فى مراسلاته مع "ألبرت بيرج" Albert Burgh، الذى كان يمثل وجهة النظر الدينية المتعصبة. ففى الرسالة رقم (76) يرد اسبينوزا على أسئلة "بيرج" وعلى انتقاداته قائلاً : "أما أنت، يا من تظن أن عقيدتك خير عقيدة، فكيف عرفت ذلك ؟ هل اطلعت على كل العقائد، الشرقية منها والغربية، ما ظهر وما سيظهر ؟ أليس لكل صاحب عقيدة أخرى نفس الحق فى أن ينظر إلى عقيدته على أنها أفضل العقائد ؟
هكذا كان اسبينوزا يضيق بالتعصب لأى نص دينى بعينه، أو أية تعاليم على وجه الخصوص، وهو ما جعله من أنصار حرية الفكر على مر العصور، بل أن التسامح والحرية عنده وجهان لعملة واحدة. فالتعصب والعنف والقهر والاستبداد، توائم متشابهة ومتوالية، وأخطرها جميعا الاستبداد السياسي، فهو أشبة بالكتاليست في المفاعل النووي، أو المولد الاساسي لكل المساوئ والجرائم والخطايا.
" فأن للمرء الحق فى مخالفة الحاكم فى تفكيره كما يشاء. ففى مجال التفكير، وفى مجال العقل – مادام صادراً عن العقل لا الانفعال – ينبغى أن تسود الحرية التامة، على ألا تتنافى مع القانون. أما كبت حرية الفكر فلن تؤدى إلا إلى الرياء والنفاق والخوف، وهو صاحب أشهر حكمة في التاريخ الحديث : "ما لا يمكن منعه يجب السماح به". يقول : "هب أن الحرية قد سحقت، وأن الناس قد أذلوا حتى لم يعودوا يجرأون على الهمس إلا بأمر حكامهم. رغم ذلك كله فمن المحال المضى فى هذا إلى حد جعل تفكيرهم مطابقاً لتفكير السلطة السائدة، فتكون النتيجة الضرورية لذلك هى أن يفكر الناس كل يوم فى شئ ويقولوا شيئاً آخر، فتفسد بذلك ضمائرهم. ويكون فى ذلك تشجيع لهم على النفاق والغش والجريمة.
أما إذا كانت الوسيلة إلى كبت الحريات هى ملء السجون بالأحرار، فانه يعلق علي ذلك بقوله : "أيستطيع المرء تصور نكبة تحل بالدولة أعظم من أن ينفى الأشراف وكأنهم مجرمون، لا لشئ إلا لأنهم يؤمنون بآراء مخالفة لا يستطيعون إنكارها".
وبمثل هذا الدفاع المجيد عن حرية الفكر يختتم اسبينوزا كتابه "البحث اللاهوتى السياسى" الذى بدأه بالحملة على التعصب الدينى.
- آخر تحديث :
التعليقات