تغيب فلسفة "إيمانويل ليفيناس" ( 1906-1995 ) عن المكتبة العربية، والتطوير الذي قدمه هذا الفيلسوف الفرنسي الجنسية والليتواني الأصل لمفهوم "الآخر" في الفكر المعاصر، وهو أكثر الفلاسفة اليهود دفاعا عن الأخلاق في القرن العشرين، الذين دعوا الي تبنّي المسؤلية تجاه الآخر، أيا كان هذا "الآخر". وعقب مذبحة صبرا وشتيلا، أطلق صرخته الشهيرة في وجه اسرائيل: الأنسان أكثر قداسة من كل الأرض المقدسة.
وعلي الرغم من جرائم القتل والإبادة الجماعية التي راح ضحيتها حوالي ستة ملايين انسان، فيما بين الحربين العالميتين، من بينهم عائلة ليفيناس نفسه، فإن ذلك لم يؤثّر سلبيا على الأهمية التي منحها للآخر، إذ وظف مجمل نتاجه الفلسفي في البحث عن الآخر والاعتراف به، وهي القضية المحورية في العلوم الانسانية اليوم.
ويبدو ان المهمة الجديدة التي دشنها ليفيناس، تتمثل في ضرورة تغيير نظرتنا إلى "الآخر"، وفي مراجعة فهمنا لذواتنا وإعادة طرحنا لمفهوم الهوية طرحا تاريخيا، أي ضرورة أن نقطع مع كل مفهوم مفارق وميتافيزيقي وثابت للهوية، إذ لا توجود هوية عمياء تقوم في غياب " الآخر "، كما انه لم يعد من المقبول أو المعقول في عالم اليوم، أقصاء الآخر أوتهميشة أودمجه وأبتلاعه في دائرة "الأنا".
وأكتشاف "الآخر" هو أهم ما عرفه الأنسان. انه تعرّف على حقيقة لا تحوزها "الأنا" أو "الذات" بلغة الفلسفة، وأدراك لكائن مماثل يحتل مساحة وجود لا يمكن للأنا أن تتمدد في فضائها. الآخر هو"اللا - أنا" الذي يحدّها ويعرفها، انه مدى الحياة المتنوعة وصور الوجود المتعددة، وحقل امكانات خصبة ومحطة توليد خيارات لا متناهية.
بهذا يكون الآخر مصدر تحرر الأنا من "أنا نهائية" وحتمية، وساحة أكتشاف وتعرف على ميدان أنتشار وتحقق جديد لها، أي يكون الآخر وسيط خروج من الذات وطريقاً للعودة إليها، ومجالاً لاكتشاف النقص فيها وطريق أمتلائها في آن واحد، هو أكتشاف لخارطة وجود الأنا التي لا ترسمها الذات، بل يرسمها وضع الذات ضمن نسيج الآخرين. انه، أي "الآخر"، مشروع "الأنا" نفسها في عالم الوجود والتحقق
وسبق للمنظر الروسي «ميخائيل باختين» أن حدد مبدأ «الآخرية» بقوله: «إننا نخفق في النظر إلى أنفسنا ككليات ، ولذا فإن الآخر ضروري، لاستكمال فهمنا لذواتنا، إذ أن الذات تختبئ في الآخر، وترغب أن تكون ذاتًا أخرى للآخرين، أن تخترق عالمهم كآخر، وأن تطرح عنها ثقل الذات المتفردة».
إلا ان معرفة الآخر، لاتحدث أو تتم، بالنظر إليه من بعيد أو من خارجه، وإنما بالولوج إلى أعماقه وبتحسس حقيقته المحتجبة وراء التصوّر. وهنا يكمن مأزق الفلسفة، منذ أكثر من قرنين، والذي كشف عنه كانط في كتابه العمدة "نقد العقل الخالص"، حين دعا الى تواضع الفلسفة، لانها تقف عند حدود الشيء في ذاته فلا تدرك إلا ظاهره، وتعجز عن ازاحة حجبه. وعندئذ فقط بدأ البحث عن مخرج جديد للمعرفة من سجن ظاهريتها.
كما أن أكتشاف الآخر لا ينفك عن الاعتراف به، ولا ينفصل عن ترتيب الأثر الوجودي على حقيقته ومعناه فالانطولوجي(الوجودي) متضمن في الابستمولوجي (المعرفي). وحسب الفيلسوف الأمريكي «تشارلز تايلور» في مقاله (سياسات الاعتراف): « فإن الاعتراف ليس مجاملات يتبادلها أحدنا مع الآخر، لكنه «حاجة إنسانية حيوية» تقوم على أساس أن الحياة «ذات طابع حواري»، وأننا نعاين أنفسنا عن طريق الاتصال بالآخرين. و«الاعتراف الخاطئ» يتضمن ما هو أكثر من عدم الاحترام، فهو يمكن أن يحدث جراحًا خطيرة، ويثقل ضحاياه بكراهية معوقة للذات.
ونحن مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضي، بتأصيل معطيات جديدة فى التعامل مع الآخرين، أهمها أن نصغى إليهم، بدافع التعلم منهم لا أحترامهم فحسب، خاصة خصومنا وأندادنا. ان تعلم فن الإصغاء إلى الآخرين يعنى ببساطة أننا راغبون فى الدنو من الحقيقة وأكتشاف أفضل أسلوب للتعامل بيننا . "فقد أكون أنا على خطأ وقد تكون أنت على صواب ونحن عبر تفاهمنا حول الأمور بشكل عقلانى قد نصل سوياً إلى تصحيح أخطائنا، وربما نصل معاً إلى مكان أقرب إلى الحقيقة أو إلى العمل بطريقة صائبة".
إن مقولة سقراط : "إننى أعرف أننى أكاد لا أعرف شيئاً، وحتى هذا أكاد لا أعرفه".. ما تزال حية وفاعلة حتى يومنا هذا، ومنها أشتقت وأستنسخت معظم النتائج الاخلاقية عند إرازموس ومونتينى وفولتير وليسنج وكانط وهيجل وليفيناس وغيرهم، فالتواضع الذهنى والأمانة العقلية تقتضى الاعتراف بقابلية الإنسان للخطأ، أو ما يسميه "كارل بوبر" و"بول ريكور" بـ"اللاعصمة من الخطأ"، هكذا تتداخل الابستمولوجيا والأخلاق بالمعنى الفلسفى.
إن البحث عن الحقيقة، أو الاقتراب منها، واللاعصمة من الخطأ، كلها تقود إلى موقف نقد ذاتى. فالمبدأ القائل: علينا أن نتعلم من الأخطاء، إذا كان لنا أن نتعلم تجنب الوقوع فى الأخطاء، يعنى أن إخفاء الأخطاء إذن هو الخطيئة الفكرية الكبرى.
ولما كان علينا أن نتعلم من أخطائنا، فلا بد أن نتعلم أيضاً أن نقبل – شاكرين – أن يوجه الآخرون أنتباهنا إلى أخطائنا، وعندما نقوم نحن بدورنا بتوجيه أنتباه الآخرين إلى أخطائهم، فعلينا دائماً أن نتذكر أننا قد وقعنا نحن أنفسنا فى أخطاء.
إننا نحتاج إلى الآخرين لاكتشاف أخطائنا وتصحيحها، وهم يحتاجون إلينا أيضاً... أن النقد الذاتى هو أفضل النقد، لكن النقد من الآخرين ضرورى، بل يكاد أن يكون له نفس أهمية النقد الذاتى.
أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس
التعليقات