الكويت وحروب الإرهاب؟

حينما قال الكويتيون كلمتهم التاريخية والمأثورة: quot;لن ننحني أو نخضع للإرهابquot;، فهم إنما كانوا يرسمون رؤية ستراتيجية شاملة لسياسة مستقبلية سيقدر لها أن تكون محورا حيويا من محاور السياسة الدولية، وليس سرا أن الكويتيين كانوا في طليعة الذين عانوا من الإرهاب السياسي ببعديه الديني أو الطائفي وقبله الإرهاب المرتبط بقضية الصراع العربي / الإسرائيلي وتصفية الحسابات بين التنظيمات الفلسطينية المتخالفة؟، فمن أرض الكويت بالذات رسمت متغيرات تاريخية حددت معالم السياسة العربية طيلة النصف الثاني من القرن المنصرم، ومن الكويت تحددت محاور ومنطلقات ستراتيجية مهمة فرضت رؤاها في عالم متحول كان لا بد أن يفرز وضعا ومستحقات مستقبلية هامة.
وحكاية الإرهاب مع الكويت حكاية طويلة تمتد لبدايات عصر التحرر الوطني حينما تعرضت الدولة الوليدة للتهديدات المعروفة بالضم والإلحاق، وهي لم تكن مجرد تهيؤات بل حقائق تفجرت كل معطياتها الكامنة في صبيحة يوم الغدر الأسود في الثاني من آب/ أغسطس 1990 وهو الحدث الذي أزال غشاوة وتصورات عقود طويلة من الشعارات الوهمية التي بنيت عليها سياسات دولية وإقليمية لفترات طويلة، والإرهاب كان حاضرا على الدوام في ظل أحوال التعاطي مع العالم وملفاته المتداخلة، وكانت السياسة الكويتية منتبهة وواعية تماما لما يدور حولها من صراعات إقليمية شرسة ولكن هنالك ثمة ثوابت وتصورات تدفع العديد من الأطراف لمعالجة قرارات قد يكون مختلفا عليها.
لقد كان واضحا للجميع أنه مع سقوط عرش الطاووس الإيراني وقيام الجمهورية الإسلامية في إيران عام 1979 قد حدث زلزال ستراتيجي عنيف في الخليج العربي، لأن لسقوط الشاه متبنيات وجذور و تهيؤات لحركات وتنظيمات سياسية و طائفية معينة قد وجدت فرصتها التاريخية في ظل حرب صراع الإرادات وتزاحم الملفات، فسقوط نظام قوي من الناحية العسكرية والسياسية كنظام الشاه الإيراني قد غير كثيرا من قواعد اللعبة الإقليمية وحتى الداخلية، وكانت الثورة الإيرانية بشعاراتها الجديدة والحماسية والمتميزة قد تمكنت من إحداث ردود فعل مرتدة عنيفة بما طرحته من تصورات دينية ومن عودة قوية لرجال الدين ومن إثارة واسعة لتيار الإسلام السياسي والذي لم يستطع أن يقدم بديلا حقيقيا لأزمة السلطة والمجتمع في العالم الإسلامي، فتجربة الحزب الإسلامي الرائد وهو (الإخوان المسلمين) قد أختتم بتصادم دموي مريع أدى في المحصلة إلى ولادة تنظيمات دينية وسلفية تكفيرية ومتطرفة كجماعات الجهاد، والتكفير والهجرة، والناجون من النار!! وغيرها من المسميات! مما كلف العالم الإسلامي ومنه العربي بطبيعة الحال تجارب دموية مروعة، وجاءت تجربة الثورة الإيرانية لتضيف لدروس الماضي القريب وتجاربه ظروفا وشعارات جديدة كان لها بريقها لدى الأجيال الجديدة، وقد ترافق كل ذلك مع صعود الفاشية البعثية في العراق بشعاراتها الغوغائية وقوتها العسكرية وأسلوبها الدموي والقمعي ومحاولتها لبناء تجربة نازية عربية مصغرة وعلى النمط النازي القديم المتمثل في شعار (قائد أوحد لشعب واحد)!!، رغم أن تلك الفاشية البعثية العراقية لم تكن تمتلك أدوات القوة والبناء الحقيقية لأنها كانت قوة طفيلية مستهلكة معتمدة على الصراعات الدولية في بناء قوتها ولم تكن قوة مبدعة أو منتجة، وقد تصور البعثيون العراقيون أنه بسياسة القبضة الحديدية والقمع الشامل والإعلام التضليلي المخادع يستطيعون بناء النموذج القومي الذي يستطيع إجهاض أحلام من يروج للدولة الدينية أو المذهبيةّ!، وكان الجميع يعلم أن المنطقة مقبلة على حالة صدام كبيرة خصوصا وأن عوامل الشحن الديني والطائفي كانت تعتمل في الصدور والنفوس، كما أن الإجراءات الداخلية في العراق وعمليات التصفية والغربلة الدموية داخل حزب البعث الذي كان حاكما في العراق قد وصلت لآفاق متفجرة لا عودة عنها وبما يوفر بناء و قيام دولة عسكرية بعد عسكرة المجتمع العراقي وتعبئته وحشده بشعارات عسكرية... لقد كانت كل الظواهر تؤكد حتمية التصادم بين تيارات القومية البعثية والدينية الإيرانية ولم يكن ينقص السيناريو الحربي الجاهز منذ ربيع 1980 سوى بعض الخدع التمويهية والتي كان النظام العراقي البائد يوفر عناصرها ويحث الخطى نحوها، ولعل ما يسمى بــــ ( إعلان العمل القومي ) الذي أعلنه صدام حسين يوم الثامن من فبراير 1980 هو نقطة البداية في تلك الحرب التي كانت حتمية، فقد دعا صدام في ذلك الإعلان إلى ( ضرورة عدم التقاتل بين العرب!! ) وإلى مساندة العرب لبعضهم في الصراعات المستقبلية!!، وهي كلها أمور كانت توحي بأن خلف الطبخة موائد كبيرة ودسمة ستعد!! وفعلا تفجر الصراع الكبير بعد شهور الشد والجذب والتعبئة وتصفية الخصوم وإعداد الساحة المحلية والإقليمية والدولية عن غزو عسكري عراقي واسع المدى والأهداف الستراتيجية لإيران في الثاني والعشرين من سبتمبر/ أيلول 1980 وهو الصراع الذي قدر له أن يغير شكل المنطقة وتوجهاتها و عكس مؤثراته القاتلة على الأوضاع الداخلية لدول المنطقة الخليجية.
وكانت الكويت الصغيرة وسط صراع العمالقة الدائر حولها تعيش وضعا حرجا، فهي بسياستها المعتدلة تاريخيا لا تود أن تتأزم الأمور وأن تبلغ نقطة عدم العودة وأن يسحب الضوء عن قضية العرب المركزية وهي القضية الفلسطينية، كما أنها كانت تاريخيا من دعاة التهدئة وحل النزاعات سلميا سواء في منطقة الخليج العربي أو الجزيرة العربية أو الجنوب العربي في اليمن تحديدا، وكانت علاقتها بكل الأطراف الدولية علاقة متوازنة أساسها إرادة السلام والوفاق في المنطقة والعالم. ولكن الحقائق الميدانية على الأرض لا تنفي أبدا وجود ضغوط إقليمية قوية ومحاولات شد و جذب قوية تعتمل في الداخل ويتردد صداها في الخارج وذلك من طبيعة الأمور!.
و دخلت منطقة الخليج العربي مع توغل القوات العراقية في العمق الإيراني من الجنوب وحتى الشمال وعلى مدى مساحة 1150 كيلومتر في أعمق أزماتها المعاصرة بعد أن أصبحت مدافع الحرب تسمع في الكويت ويتردد صداها بعنف ليثير من مخلفات التاريخ وزوابع السياسة هموما مضاعفة تعمقت مع الفشل العراقي في إدارة سريعة للحرب التي أرادها صدام أن تكون وفق النمط الإسرائيلي أي ضربة جوية خاطفة وتدفق سريع للمدرعات لإحتلال الأرض ثم فرض واقع سياسي جديد يحقق الهدف السياسي والعسكري!! وهو أمر لم يتحقق في الحالة الإيرانية، إذ كانت السياسة والستراتيجية العسكرية العراقية تتسم بالغباء والغرور و تتغاضى عن حقائق ومسلمات وعوامل بنيوية ونفسية وقومية إيرانية لم يحسب النظام العراقي السابق حسابها، وأندفع يمني النفس بنصر قريب ويطلق الوعود حول عدم العودة لإتفاق الجزائر الحدودي لعام 1975!! وحول حقوق العراق المضافة في الأرض والمياه!! وحول عودة ( المحمرة ) للوطن الأم!! وجميعها أحلام لم تتحقق، فطالت الحرب وتجاوزت سنتها الأولى والثانية... ورتبت السلطات الإيرانية مواقفها على إطالة الحرب والتي كانت نعمة هطلت عليها من السماء!!، فبسبب تلك الحرب حسمت مجموعة الخميني الخلاف الحاد حول السلطة؟، وبسبب الحرب تمت تعبئة الجماهير الإيرانية للدفاع عن وطنها التاريخي!! خصوصا وأن الحملة الإعلامية العراقية كانت غبية وتتسم بالعنصرية الواضحة مما عبأ الصفوف الداخلية في إيران ومن خلال رفع شعارات المظلومية الشيعية في الحرب مما وضع النظام العراقي السابق في ورطة حقيقية فحالة الإستنزاف الحربي الهائلة قد دمرت الإقتصاد العراقي الذي بات معتمدا على الدعم الخارجي من خلال المساعدات والهبات والقروض، والنزف البشري بلغ أوجه، وخطط التنمية أضحت في خبر كان، وأرتهن مصير العراق بتلك الحرب المجنونة والمنسية.
المعارضة العراقية بلغت في الوقت نفسه قمة ضعفها داخليا بعد أن تمكن النظام بأساليبه القمعية من عزل وطرد وإحتواء قوى المعارضة اليسارية والقومية وحاول جاهدا إستئصال المعارضة الدينية التي وجدت في دول الجوار العراقي ملاذا أخيرا يتواصلون من خلاله مع الداخل العراقي، وهي النقطة التي كانت تقض مضاجع النظام العراقي البائد، فكانت دولة الكويت لقربها الجغرافي الشديد من العراق ولعلاقات التواصل الحميمية بين الشعبين العراقي والكويتي، وشهدت الكويت تدفقا عراقيا شعبيا واسع النطاق عليها وحفلت بالكفاءات العراقية الهاربة من أطباء ومهندسين وفنيين وطلبة مما أقض مضاجع النظام العراقي الذي عمل على الإنفراد بالساحة ومطاردة المعارضة لآخر الدنيا سيما وأن السفارة العراقية في تلك الفترة كانت ناشطة للغاية وتمارس كل عمليات البلطجة السياسية وإرهاب الدولة المنظم وتحت قيادة سفير منتدب من المخابرات العامة وهو المدعو ( عبد الجبار عمر غني الدوري) عامل السكك السابق الذي تحول للدبلوماسية بتوصية مخابراتية!! وكان له دور فظيع في عملية غزو الكويت عام 1990 والهارب حاليا في دمشق!، فكانت جهود النظام العراقي حثيثة لإقتلاع الوجود الشعبي العراقي من الكويت ووجدت في الإرهاب ضالتها الكبرى، فإستغلت الصراعات العنيفة بين صفوف الحركة الإسلامية الشيعية في إيران والتي كانت منقسمة إنقساما آيديولوجيا حادا بين الولاء للقيادة الدينية الإيرانية وبين نزعة وروح الإستقلال السياسي التام عن مؤثرات دولة ( الولي الفقيه )!! وبسبب تداخلات الحرب العراقية / الإيرانية وجدت الأحزاب الدينية العراقية التي تدين بالولاء لإيران ضالتها في الكويت أيضا لتضرب عصفورين بحجر واحد، ضرب ما كانوا يقولون أنهم حلفاء النظام العراقي في المنطقة، وضرب المجموعة الشيعية المنافسة أيضا!! وإظهار قوتها أمام سلطات الولي الإيراني الفقيه!! والمخابرات العراقية لم تكن غائبة عن تشكيلات المشهد ولا عن تفاصيله العامة!، وفي يوم الإثنين الموافق 12/12/ 1983 حمل صباح ذلك اليوم أحداث رهيبة كانت مقدمة لمتغيرات عاصفة ستضرب المنطقة بعد عقد من السنين، فقد تم هجوم إنتحاري بشاحنة على السفارة الأميركية السابقة في ( بنيد القار) ورافق ذلك سلسلة من الهجمات والتفجيرات في أماكن حساسة أخرى في الكويت، وسرعان ما تبين من أن الإنتحاري الذي فجر السفارة الأميركية كان شاب عراقي ومن مدينة البصرة يدعى (رعد مفتن عجيل) والذي كان طالب في جامعة حلب السورية ويحمل إقامة كويتية نافذة!، والعملية كانت فريدة في توقيتها وأسلوبها الذي كان يتشابه وأسلوب المقاومة اللبنانية الذي كان فاعلا في تلك الفترة وكان ممولا بالكامل من أجهزة المخابرات الإيرانية ومخابرات الحرس الثوري في الأهواز بالذات! وما هي إلا ساعات حتى شنت أجهزة الأمن الكويتية حملتها الأمنية في البحث عن الجناة ونجحت في القبض على بعضهم فيما هرب البعض منهم قبل تنفيذ العملية نحو إيران! وكانت محنة قاسية للوجود العراقي الشعبي في الكويت، كما كان ما حصل إعلان حرب تلك الجماعات الدينية والطائفية ضد الكويت التي دخلت بعد تلك الأحداث حالة الحرب الحقيقية ضد الإرهاب من خلال ما حدث من محاولة لإغتيال أمير دولة الكويت في مايو 1985!! ثم عمليات خطف الطائرات وقضية خطف طائرة (الجابرية) عام 1988 معروفة للجميع، وهي حرب لم تكن حتمية ولا ضرورية ولكنها حدثت للأسف ليتسيد النظام العراقي سدة الموقف وهذا النظام بالذات لم تكن مخابراته نظيفة الأيادي مما حصل، فقد كان عناصر المخابرات العراقية يجوبون شوارع الكويت قبل وقوع الإنفجارات بيومين لتأكيد عناوين المعارضين العراقيين وأماكن سكناهم!! وكنت أتمنى لو أنه أتيحت للجماهير فرصة الإطلاع على ملفات المخابرات العراقية لتلك الأيام لتأكيد الظنون! ولكن للأسف إختفت كل الملفات وقيل أنها قد بيعت لأطراف خارجية وقد لا يتاح لنا معرفة الحقيقة أبدا؟ فما يجري في العراق حاليا لم يكن هو طموحنا أبدا... ولكنها تصاريف القدر؟. المهم.. أن المسؤولين عن تلك التفجيرات حكموا بأحكام مختلفة بينها الإعدام الذي لم ينفذ إلى أن جاء الغزو العراقي عام 1990 ليهرب السجناء من السجن المركزي نحو إيران وقد يكونوا اليوم في العراق قادة للأجهزة السرية..!! والله أعلم.
لقد كان يوم 12 / 12 / 1983 يوما مفصليا لا يفارق ذاكرتي على الدوام... لأنه قد أسس لمتغيرات عنيفة هبت على الكويت والمنطقة الخليجية بشكل عام. وما زال في التاريخ القريب ذكريات تروى! لتستفيد من حكمتها وعبرتها الأجيال الجديدة. ولكن ثمة حقيقة ينبغي أن تقال في الظروف الحالية وهي.. أنه ليس كل ما يعرف يقال؟.

[email protected]