ان المتغيرات الدراماتيكية التي طرأت على الساحة العراقية بكافة مستوياتها منذ سقوط تمثال الديكتاتور في التاسع من نيسان عام 2003 ولحد هذه اللحظة، لايمكن ان تؤتى ثمارها بشكلها التام او المرجو الان او حتى على مدى عدة سنوات قريبة قادمة!
لماذا ؟.. لان معطيات الذي حدث بنظري لاتقتصر على ازالة حاكم ديكتاتوري وقمعي عن عرشه القائم على الجماجم والدماء فقط، وانما هي شملت ازالة منظومة تفكير متكاملة ومتأسسة على التفرد والتسلط والعنجهية وعلى المغامرة الفكرية الساذجة، مما انتج كل ذلك حركة تاريخية جديدة في العراق وفي المنطقة عموما حركت الراكد والساكن من القيم والمفاهيم الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. أي ان هذه المتغيرات المستمرة حتى الان، هي متغيرات تأريخية كبرى، وليست آنية كما يعتقد البعض. بغض النظر عن ان كانت الجهة التي احدثت هذا التغيير تنوي احداث هذه الخلخلة في المفاهيم السائدة ام لا. فلكل عملية تغيير او لكل حركة ثورية جديدة تحدث على ارض الواقع، مجموعة من المعطيات الجانبية والعرضية المهمة جدا، تنتج تلقائيا. بل قد تكون هذه المعطيات اوفر حظا للتحقق من غايات الجهة التي احدثت التغيير.
لذا فأن هذه الحركة بمستوياتها الجوانية والبرانية مستمرة في ابراز السئ والجيد، الجميل والقبيح من دون انقطاع، وان كان المستوى الظاهري او البراني لهذه الحركة التغييرية الكبرى يوحي ويشي للناظر القريب والبعيد عن ساحتها وحاضنتها بالتشاؤم والقرف وبالخيبة والخذلان احيانا كثيرة.
ولكن اذا تمعنا جيدا في اسباب بروز السئ من النتائج في بداية كل تغيير تاريخي كبير، فسنكتشف بأن مشاعر التشاؤم والخيبة التي تتملكنا جميعا كلما نظرنا الى ممايجري من اشياء تثير القرف في الواقع العراقي الحالي، تعد مشاعر طبيعية.
برأيي، السبب يكمن في ان كل متغير جديد وخاصة اذا كان بحجم المتغير التأريخي الذي حصل للعراق يبرز المساوئ اكثر مما يبرز المحاسن، ويفسح المجال للمتزلفين والنباحين للهيمنة على الساحة بكافة اشكالها السياسية، او الثقافية او الاجتماعية او او... الخ، بشكل اوسع من غيرهم، لذا ومن هذا المنطلق اشرت انفا، بأنه من الصعب الان اطلاق الاحكام على نتائج عاصفة التغيير التي هبت على العراق خلال السنوات الثلاث الماضية.
ولكن ايماننا بالبديهية القائلة بأن كل متغير يبرز مساوئه اولا ومحاسنه لاحقا، لايعني الخمول والتكاسل والتفرج على مايحصل او مايحدث من مساوئ وقبح وتشويه للحياة استنادا الى هذه الحجة. بمعنى اخر علينا ان لانتبنى وجهة نظر هيجل عن حركة التاريخ كلها. من الممكن ان نتبنى الجزء الذي يخص اعتقاده بأن الجدل التاريخي او الصراع التاريخي من المحتم ان ينجب او ينتج شيئا جديدا مغايرا ومخالفا لما كان سائدا قبل التغيير وهو ماحصل فعلا في العراق بعد ازالة الديكتاتورية المقبورة. غير ان هيجل يعتقد ( وعلينا ان لانعتقد مثله هنا لكي لانقع بفخ التفاؤل المفرط حول ما سيحصل للعراق مستقبلا ) بأن هذا الشئ الجديد النابع من الصراع التاريخي، سيكون جديدا ايجابيا حتميا. لذا علينا ان نلجأ الى وجهة نظر ماركس المتعلقة بنتائج الجدل التاريخي لفهم ماسيحصل لمستقبل العراق والمنطقة عموما.
وفحوى الفهم الماركسي بأختزال حول هذه الموضوعة، هو ان كل صراع تأريخي او بتعبير اخر، ان كل جدل تأريخي بين طرفين متناقضين ينتج شيئا جديدا حتميا، غير ان هذا الجديد لايمتلك لونا او شكلا واحدا حتميا. فالجديد مفتوح الافاق والابواب، فهو قد يكون سلبيا وقد يكون ايجابيا وقد يكون خليطا بين هذا وذاك، مع ان هناك اعتقادا بأن الحالة الجديدة للواقع غالبا ماتكون افضل من الحال السابق بجوانب شتى.
من هذا المنطلق، توقع الكثير من المثقفين العراقيين بأن الثقافة العراقية ستفرز على السطح مزيجا من المساوئ والايجابيات بعد هبوب عاصفة التغيير على العراق. وتوقعوا بأن اول شئ سيحدث هو طرد المؤسسة السياسية من الساحة الثقافية، على اعتبار ان من اكثر الاشياء التي عانته الثقافة العراقية سابقا هو تحكم السياسي بالحياة الثقافية بالشكل الذي يخدمه، ولكن ذلك لم يحدث حتى الان للاسف ! كما انهم اعتقدوا بفعل حماسهم الكبير للتغيير ( وانا احدهم )، بأن يظهر مفهوم جديد للثقافة وللمثقف. أي ان نتجاوز تأطير الثقافة في اطار الادب والفنون فقط كما كان كالسابق.
فالذي نتمناه الان، هو توسيع اطار الثقافة ليصبح بحجم الاطار المفترض به. فمن المهم جدا لاستمرارية التغيير في العراق ومن اجل ان يسير هذا التغيير في الدرب الامثل الذي يؤدي بنا الى النتائج المثلى، هو افساح المجال بقوة للمنظر والمفكر والباحث والاكاديمي للدخول الى عمق الساحة الثقافية العراقية الان لكي يؤدي دوره المطلوب، الا وهو دور التنظير والدراسة والبحث حول كل الاشكاليات التي عانى منها ومازال يعاني منها المجتمع العراقي عموما.
بالاضافة الى كل هذا تمنى الكثير منا، ان يتجه الاعلام الرسمي وغير الرسمي نحو تبني الاطروحات الفكرية والنظرية للمفكرين والباحثين العراقيين بكل امانة. فنحن بأمس الحاجة الى ثورة فكرية وثقافية الان. فيجب ان نخلق تقليدا دائما لدى السياسي او لدى المؤسسة السياسية الجديدة، الا وهو ان على هذه الاخيرة ان تستند في رسم سياساتها الداخلية والخارجية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية على مايطرحه الباحث والمفكر من اطروحات وبحوث ودراسات.
بمعنى ادق، على المؤسسة السياسية ان تطبق ما تنتجه المؤسسة الثقافية. فكل الثورات السياسية التي حصلت عبر التاريخ استندت على مجموعة من الاطروحات الفكرية التي انتجها المفكرون والباحثون قبل نشوب الثورات تلك. والتغيير الذي حصل في العراق هو بمثابة الثورة الكبرى بغض النظر عن الايدي التي ساهمت في نشوبها.
ولكن، هل الواقع الثقافي الحالي يتجه او يسير في هذا الدرب المعرفي ام لا ؟ اظن ان هناك بوادر لنشوء مثل هذا التقليد في الثقافة العراقية ظهرت بعد التغيير، وتجسدت هذه البوادر باصدار بعض المجلات الثقافية المهتمة بشؤون الفكر والبحث والدراسة العلمية من قبل بعض المثقفين الحريصين بصدق على خلق شرارة الثورة الثقافية في العراق.
فلو دققنا النظر بماتكتبه الكثير من الاقلام العراقية المثقفة في وسائل الاعلام المتعددة، لاستبشرنا خيرا بمستقبل البلاد، غير ان هذه الجهود تبقى فقيرة ولاتلبي الطموح، لان الشئ الاكثر اهمية، هو انشاء مراكز بحوث ودراسات فكرية ومعرفية فعالة تفرض رؤاها على المؤسسة السياسية والاعلامية والتعليمية ايضا. فالمسألة اكبر من ان يخلقها فرد او مجموعة افراد على الرغم من امكانياتهم الهائلة. فنحن بحاجة ماسة الى مراكز بحوث ودراسات والى مؤسسات تختص وتعنى بالترجمة ايضا، تساعد على ابراز رؤى المثقف بشكل حر وكبير. وهنا تظهر مهمة السياسي والاعلامي والتربوي.
فعلى السياسي والاعلامي وعلى واضع المناهج التعليمية في المدارس والجامعات والمعاهد اتباع الرؤى والمفاهيم التي تنتجها المؤسسة الثقافية، على اعتبار ان ماتصدره هذه المؤسسة من افكار ورؤى وتصورات تستند اساسا على العلم وعلى المنهجية المعرفية المتعارف عليها.
ولكن الذي يواجه هذه الامنية، هو ان العديد من الوجوه التي تتسيد المؤسسات الحكومية بشكل عام والمؤسسة الثقافية بشكل خاص الان، انتماءاتها طائفية وقومية اكثر مما هي وطنية، هذا اولا. وثانيا ان هذه الوجوه تحاول نشر وفرض رؤاها الرجعية والمتخلفة على المجتمع من خلال استغلالها لمناصبها في المؤسسات الثقافية وبالاخص الاعلامية. وهذا الامر يجب الانتباه له كثيرا.
لذا على جميع المثقفين العراقيين سواء الذين يعيشون في الداخل او الذين يعيشون في الخارج، بذل قصارى جهودهم من اجل التصدي لهذه التحديات الكبيرة. والمطلوب ايضا هو استمرار التواصل وتقوية الجسور واقامة الفعاليات الثقافية بين الطرفين، من اجل تحقيق هذه الغاية النبيلة، بعيدا عن العمل الاناني الذي ينصب في المصلحة الذاتية فقط مثلما حدث مؤخرا في الدنمارك، حينما اختزل احد الشعراء العراقيين المقيمين في كوبنهاغن الثقافة العراقية بشخصه فقط، وذلك عبر فعل ايهامي ذاتوي قام به هذا الشاعر اوهم فيه الطرفين الدنماركي والعراقي ( الذي اتى من الداخل ) بأن غاية المهرجان الذي اقامه تنصب في مصلحة الثقافة العراقية.
وبعيدا عن كل هذا وذاك، يبرز السؤال الاكثر الحاحا علينا وخصوصا على مثقفي الخارج، وهو هل ان ماتكتبه هذه النخبة المثقفة مؤثر وفعال في الثقافة العراقية في الداخل ام لا ؟ وهل ان الساحة الثقافية العراقية في الداخل تقرأ ماينتجه المثقف العراقي في الخارج ام لا ؟ وبالعكس ايضا، فهل ان النخبة التي في الخارج، تقرأ وتطلع على ماتنتجه النخبة في الداخل ؟
اظن أن عودة العديد من مثقفي الخارج الى العراق بعد سقوط الصنم جعلتنا نتأكد اكثر من السابق بأن هذه النخبة مازالت امتدادا للثقافة العراقية في الداخل، بل ان الكثير منهم لم يشعر بالاغتراب الثقافي الذي كان يخشى حدوثه ابدا. فالاغتراب كان اجتماعيا وليس ثقافيا والاسباب معروفة طبعا.
بأختصار، ان اجواء ثقافة الداخل لايمكن ان تعوض، لانها مازالت مشحونة بالاصرار على مواجهة الموت المستمر هناك بالجمال والابداع. كما انها اجواء استفزازية وتفجيرية لكل منابع الالهام والايحاء في الكتابة. لذا كانت هذه الاجواء بالنسبة للنخبة العائدة الى الوطن كمسافرة وعاشقة، حميمية ودافئة الى ابعد الحدود الى الحد الذي جعلها تنصهر بها بمجرد دخولها الى قاعة حوار اومقهى الجماهير اومقهى حسن عجمي اوالشاهبندر اوشارع المتنبي، لذلك فأن حنين العودة الى هذه الاجواء مازالت تراود الكثير من مثقفي الخارج.
لذا لااظن بان طرفي المعادلة انقطعوا عن قراءة العديد من المنجز الثقافي سواء الذي في الداخل ام ذلك الذي في الخارج، وخصوصا بعد سقوط الصنم.
والملاحظة الاخرى المتعلقة بالموضوع، هو ظهور بعض من الاختلافات في المنجز الثقافي الداخلي قبل التغيير وبعده. واظن ان اكثر الاختلافات اثارة للانتباه، هو ان المثقف العراقي سابقا كان بأمكانه ان يوجه النقد الى الحالات والظواهر الاجتماعية الشاذة بجرأة عالية تقريبا ولكنه كان لايفكر مجرد التفكير بنقد الفعل السياسي الديكتاتوري، وذلك خوفا من العواقب الوخيمة التي ستقع عليه من قبل الاجهزة الامنية التابعة للديكتاتور. اما الان فقد حدث العكس. فالمثقف العراقي صار ينتقد السياسي الحالي بجرأة بينما هو يخشى ان يتعرض للعديد من الظواهر الاجتماعية السائدة الان، وذلك بفعل ان هذه الظواهر مغلفة بالايدولوجية السياسية الدينية او انها مسنودة من قبل اصحاب هذه الايدولوجية. لذا ان ازالة ديكتاتورية صدام حسين انجبت ديكتاتورية السياسي المؤدلج دينيا. وهنا برزت معضلة جديدة امام الثقافة العراقية اضيفت الى المعضلات التي خلفها النظام السابق والتي انتجتها ظروف تواجد قوات التحالف الان ايضا. وتكاد تكون هذه المعضلة والتي اعني بها بهيمنة رجل الدين السياسي ( ولااقصد رجل الدين التقليدي ) على الشارع العراقي وعلى الكثير من المؤسسات الحكومية، هي احدى الدوافع المهمة التي تدفعنا للايمان بحاجتنا الماسة لثورة ثقافية حقيقية، تعصف بكل ماهو سائد وساكن بحرية وجرأة عاليتين، من خلال الجرأة بطرح السؤال عن كل مايدور وما يحصل امام اعيننا على ارض الواقع.
انها مهمة عسيرة على الثقافة العراقية بلاشك، ولكن هذا هو قدر المثقف العراقي كما يبدو، واتمنى ان يكون هذا المثقف بمستوى تحدياته الكبيرة، وبحجم الاحداث الدراماتيكية التي حصلت والتي ستحصل للعراق مستقبلا.
الدنمارك
[email protected]
التعليقات