ما الفائدة من عراق مركزي وموحد، غارق في حرب دائمة مع أقاليمه
غير المعلنة، مثل كردستان في الشمال، والعرب الشيعة في الجنوب؟

يحتفل العراقيون هذه الأيام، بنجاح أول تجربة ديمقراطية لهم، لإنتخاب ممثلين عنهم في البرلمان الجديد. وقبل أسابيع صوّت الشعب لقبول أول دستور دائم للبلاد منذ عقود. ومما لا شك فيه، أن تلك الوثيقة التشريعية الخطيرة، لم تأتِ متجاوبة بالكامل، مع طموحات كافة مكونات المجتمع. فاللبراليون والعلمانيون، يقرأون في الدستور غبناً واضحاً لحقوق الإنسان، وللحريات المدنية التي نصّت عليها المواثيق الدولية. والأثنيات الدينية غير الإسلامية، تقرأ في بنود الدستور، تطاولاً واضحاً على كرامتها، وتضييقاً لحريتها. وبالرغم من إحتواء هذه الوثيقة التشريعية، على مواد وبنود ضبابية، فيما يتعلق بالحقوق المدنية والدينية والطائفية والقومية، الأمر الذي قد يهدد بإعادة عجلة التقدم إلى وراء لعقود، فمن الإنصاف أن نعترف بتميّز الدستور، لكونه قد كُتب بأياد منتخبة ديمقراطياً، وجاء متضمناً قواعد متحضرة جديدة، مما يؤهله أن يكون بشارة خير لشعوب المنطقة، ومؤشراً نحو غد ديمقراطي تعددي، يضمن عدالة التعامل مع كافة المكونات العراقية.

وعلى العموم، وافق الشعب العراقي على هذا الدستور، بجوانبه الإيجابية، والسلبية معاً، بنسبة 80%. ويمكن القول أن أروع ما تضمنه من مبادئ جديدة وجريئة، هو مبدأ الفدرالية الإدارية في الحكم. أي إتاحة الفرصة لمواطني المحافظات الثماني عشر، أن تتّحِدَ في أقاليم جغرافية إدارية، متنوعةِ الثقافات والتقاليد والتوجهات. كما ثَبَّتَ حقوقَ الأقاليم في تقاسم السلطة، مع الحكومة الإتحادية المركزية، مُنهياً بشكل لا رجعة فيه، زمنَ الإنقلابات العسكرية، وهيمنةَ الحكام الدكتاتوريين، الذين يحكمون البلاد بأكملها من المركز. عليه أعلنَتْ معظم المكونات الرئيسية للمجتمع العراقي، من اللبراليين واليساريين والعلمانيين، والإسلاميين المعتدلين، والقوميين غير المتعصبين، عن مباركتها لصدورالدستور، المتضمن مبدأ الفدرالية، وبدايات إحترام حقوق الإنسان، والنابذ لكافة أشكال التعصب الفكري، والديني، والطائفي، والقومي، والكابح لحالة التفرد الحزبي والعائلي بالسلطة المركزية. من ناحية أخرى، تعالت أصواتٌ أطلقتها بعض المكونات المتناثرة، المنتمية إلى شرائح متضررة من إسقاط النظام الصدامي الشمولي. لم يَرقْ لهؤلاء أسلوب التعددية، والإنفتاح والشفافية، فرفضوا الدستور، جملة وتفصيلاًً، بإعتباره المحرك الأساسي للعملية السياسية، التي تقود التغيير الحاصل في العراق، بحجة واهية لا تستند على أساس موضوعي، ألا وهي quot;تقسيم العراق إلى دويلات كردية وشيعية وسنيةquot;، وغير ذلك من المبررات الساذجة، التي لا يحسن قولها سوى المراهقين في السياسة.
وفي قراءة سريعة للتصريحات والتحليلات الإعلامية، التي كُرست لمناقشة وتقييم الدستور، يصر جميع الرافضين له على إختزاله في عبارة واحدة، بل كلمة واحدة، هي الفدرالية!! ومن نافل القول أن نعيد إلى الأذهان، أن quot;الفدراليةquot; كلمة أوربية، معناها بالعربية quot;الإتحادquot;، وليس quot;التجزئةquot;! ولو ألقينا نظرة متفحصة على هؤلاء المتحفظين على الفدرالية، وبالتالي المصوتين بالرفض لمجمل الوثيقة التشريعية، لوجدناهم ينتمون إلى المكون السني العربي، إضافة إلى جزء ضئيل غير متجانس من عناصر منسلخة عن باقي المكونات، ويشمل العناصر التي افقدها سقوط النظام، مواقعها السابقة المتميزة، في السلطة أو التجارة، أو من المتراجعين عن العملية السياسية لأسباب نفسية، أو شخصية، أو ممن أخطأوا في حساباتهم السياسية، لضعف في الرؤية الإستراتيجية للأحداث الجارية والمتوقعة التي تشهدها المنطقة.

يمكن تفهم، ولا نقول تبرير، مخاوف نُخَب وقادة المكون السني العربي من الفدرالية، لأنهم يرفضون تقليدياً إسقاط النظام الصدامي، الذي يصرون، دونما حرج أو تردد، على إنتمائه الطائفي. ترفض هذه النخب والقيادات مبدأ الفدرالية، لكيلا تتحرر الأقاليم المضطهدة، من سيطرة القبضة الحديدية للمركز، الأمر الذي يجعل إستهتار السلطة المركزية، بمصائر ومصالح الملايين من سكان المحافظات الشمالية والجنوبية، أمراً في حكم المنتهي، مما يعني ضربة موجعة للمصالح غير الشرعية لتلك النخب والقيادات. في الوقت الذي يتعين فيه التحاور الإيجابي مع الناس البسطاء من المكون السني، وغالبيتهم من الكادحين والوطنيين واللبراليين، لبيان الخطأ الذي يرتكبونه لدى معارضتهم الدستور، ورفضهم الأسلوب الفدرالي في الحكم. ولا يصلح الرد على الرافضين للفدرالية من خارج هذا المكون، الذين يضمرون نوايا غير سليمة. عليه لا ينبغي إضاعة الوقت في الرد على فئات سياسية متشظية من مكوناتها الأصلية لدوافع إنتهازية، أو زمر حاقدة على التغيير السياسي التقدمي لشتى الأسباب الذاتية الأنانية.
ويرى منظرو المكون السني العربي، أن أسلوب الحكم الإتحادي الجديد، يساعد على ترسيخ اللامركزية ويشجع على التسيب، وبالتالي يقود إلى التشرذم الشعوبي، مما يُبعد العراق عن حاضنته القومية التقليدية، ويعرضه إلى أطماع الدول المجاورة. في الوقت نفسه يدّعي هؤلاء برفضهم للفدرالية، إرتباطاً وطنياً يزايدون به على الآخرين، ويطالبون بمغادرة فورية للمحتلين. بعبارة أخرى يراهنون جهاراً على الحرب الأهلية، لما قد يحصلون عليه في حالة وقوعها، من دعم لوجستي عربي كبير، كما حصل خلال الثمانينيات، أثناء الحرب مع إيران، وبالتالي يحلمون بعودة النظام الصدامي، الذي رفضه الشعب العراقي بنسبة 85%!

يعلم المثقفون العراقيون من جيل الخمسينيات، كيف أن الناشطين السياسيين، كانوا يطالبون آنذاك، بالديمقراطية للعراق والفدرالية لكردستان. ومن المؤسف أن الحرب الفعلية للسلطة القمعية في بغداد، ضد المناطق الكردية quot;العاصيةquot;، لم تتوقف يوماً واحداً منذ الثلاثينيات. وتحولت تلك الحرب إلى حملات إبادة وحشية ضد الأكراد، وغيرهم من العراقيين، خلال الحكم القومي العارفي، والبعثي الصدامي. ومما يثلج القلوب أن أشقاءنا الأكراد يتمتعون، منذ عام 1991، بالإستقلال الحقيقي في إقليم كردستان العراق.
يبقى سؤال المليون دولار، كما يقولون، من يا ترى، من المكونات الثلاثة الرئيسية(*)، ينبغي أن يخشى من؟. إطلعنا، مؤخراً، على كتاب quot;أوكار الهزيمةquot;، لمؤلفه الكاتب هاني الفكيكي، وهو سجل فريد لتجربة مثيرة خاضها الكاتب ضمن صفوف حزب البعث، أيام كان عضواً فيه. وصل هاني الفكيكي أعلى مراتب القيادة في الحزب، قبل أن يتم طرده منه عام 1964. من اللافت أن قيادة البعث كانت في وقتها محصورة بنسبة 90%، في المكون العربي السني للمجتمع العراقي. وسار الرئيس العراقي الأسبق عبدالسلام عارف في خلال الستينيات، وهو قومي من محافظة الأنبار، على نفس النهج السياسي المتحيز لطائفته وقوميته ومحافظته. لقد كان إنتماؤه جهراً ودون خجل أو تردد، ومارس أحياناً التصفية الجسدية، للمكونات الأخرى من المجتمع العراقي. ولسنا هنا بصدد مناقشة أسباب هذه الظاهرة السياسية الخطيرة، وإنما التوقف ملياً عند مسألة الفدرالية، ومدى منطقية أو مشروعية، مواقف المكونات منها. في خلال الأعوام الخمسة للحكم القاسمي من عام 1958 ولغاية 1963، تصاعد إحتمال إلحاق العراق بمصر عبد الناصر، بعد إبتلاعها سوريا.

نقرأ في الكتاب على الصفحة 88 مايأتي: quot; بعد أيام على 14 تموز دعانا مسؤلنا الحزبي (فلان) إلى إجتماع لبحث التطورات، فطرح المجتمعون كلهم مسألة الموقف من الجمهورية العربية المتحدة وإمكان الإتحاد الفوري لحماية الثورةquot;. وذكر لهم المسؤول quot;أن الوحدة باتت أمراً مفروغاً منهquot;. ويستمر الكاتب بسرد مذكراته معترفاً بوجود مشكلة الأكراد، فيكتب في الصفحة 90 quot;المسألة الكردية والشعارات التي تطالب بالحكم الذاتي لكردستان، علماً أن كلمة كردستان نفسها كانت مبعث إستفزاز للبعثيين وعروبتهمquot; الصفحة 90. و يفضح الكاتب مساعي مصر في إلحاق العراق بها، فيكتب: quot;أن السفارة المصرية في بغداد، أرسلت برقية بالشفرة إلى القاهرة، تقول أن عبد السلام عارف سيعمل لإلحاق العراق بالعربية المتحدةquot;. وquot;أن زغلول عبد الرحمن مسؤول المخابرات في سفارة الجمهورية العربية المتحدة في بغداد آنذاك، سلم صورة عن البرقية إلى عزيز شريف الذي أوصلها بدوره إلى قاسم. وبعد سنوات إختطفت أجهزة الأمن المصرية، زغلول عبد الرحمن من إحدى العواصم الأوربية، ونقلته إلى القاهرة، حيث حوكم، وأعدم لأسباب لم يُكشف عنها تماماًquot;، الصفحة 91. وحول الموقف العراقي السني من هذه المؤامرة، نقرأ على الصفحة 93: quot;كذلك هناك من يتحدث عن دور لمخابرات العربية المتحدة، التي شجعت ووعدت عبد الوهاب الشواف بالطيران والإذاعة والإسنادquot;. ويشير الكاتب على الصفحة 94 إلى مصير المكونات العراقية من خارج العرب السنة، وموقفها من الوحدة، فيكتب: quot;ومن ناحية أخرى كان لبعض سنة المدينة (الموصل)، المتعصبين، والمحسوبين على التيار القومي، ممارسات إنتقامية ضد المسيحيين، الذين غادر بعضهم الموصل، حينما تأكدوا من حدود قدرة الدولة على حمايتهم. ولو حللنا موقف البعثيين من الشعب الكردي، لوجدناه أسيراً للنظرة الشوفينية التقليدية، كما نقرأ على الصفحة 295 : quot;وكان عفلق في حديثه واضحاً وصريحاً إذ إعتبر الأكراد وغيرهم أفراداً من الشعب العربيquot;، quot;وأنكر وجود أقليات وطوائف مضطهدة وإنما هناك أكثرية شعب مضطهد هو الشعب العربيquot;.

وكما نعلم فإن العراق قد حُكِمَ، حصرياً، على مدى الثمانين عاماً المنصرمة، من قبل العسكريين المنتمين للمكون المجتمعي الرافض حالياً للدستور. إن الفدرالية هي الآلية الوحيدة، القادرة حصراً على ضمان وحدة العراق، بعربه وكرده، التي تجعل القيادة السياسية بيد الشعب، عبر الإنتخابات التشريعية، وإنتقاء الحاكم من بين مجلس النواب، بدلاً من دكتاتور يقفز إلى السلطة من على ظهر دبابة، مستنداً إلى عصابة من محترفي السياسة الميكافيلية. وهكذا تدل الوقائع التأريخية على أن المتخوف الأول، من الإبتلاع القومي، هو الشعب الكردي، كما حصل لأكراد سوريا بعد إلحاقها قسراً بمصر العربية. وما ينطبق على الأكراد ينطبق على العرب الشيعة، حينما تنصهر هويتهم وثقافتهم في دولة quot;وحدويةquot; عربية سنية، تقوم على القمع العرقي والقومي والطائفي.

أخيراً ما الفائدة من عراق مركزي متماسك وموحد، يجد نفسه في حرب دائمة مع أقاليمه غير المعلنة، مثل كردستان في الشمال، والعرب الشيعة في الجنوب؟ ولا توجد بتصورنا أية إمكانية أو إحتمالية، لضم العراق إلى إيران، أو ذوبان الجنوب الشيعي في بلاد فارس، بحجة الوحدة الإسلامية، كي يتخوف المكون السني العربي من الضياع. ولا هناك منطق قويم يسند إنفصال إقليم كردستان عن العراق، أو إبتلاع العرب في quot;كردستان الكبرىquot;!. في الحقيقة أن إعتماد أسلوب الفدرالية الإدارية هو الحصانة، والضمان، والدرع الواقي لكل المكونات العراقية، من التهميش القومي أوالطائفي، ومن ضياع الهوية الثقافية الخاصة لكل أثنية. ولا شك أنه بعد خمس أو عشر سنوات من الآن، وريثما يشتد ساعد العراق الإتحادي الموحد، ستشعر كل المكونات الإجتماعية بالأمان والثقة بعضها ببعض، وستتنافس بروح رياضية، على شرف الإنتماء إلى الهوية الوطنية العراقية، كما هي الحال مع المكونات المجتمعية، في الولايات المتحدة، وسويسرا، وكندا، والعشرات غيرها من البلدان الفدرالية المتحضرة.

(*) لم نذكر هنا مكونات بين النهرين أو التركمان أو الصابئة أو الأيزيديين أو الأرمن، لما لهؤلاء الأشقاء من خصوصيات أشد تعقيداً!