بعد تحرر العراق من ربقة العبودية البعثفاشية في التاسع من نيسان خطى خطوات واسعة من اجل بنائه الجديد وخلالها كانت عثرات ليست قليلة ولست صغيرة في نفس الوقت، كما كانت انجازات لا يمكن الاستهانة بها وفي مقدمتها الممارسة الديمقراطية في الانتخابات الاولى رغم زخم الارهاب والاستفتاء على الدستور وكذلك الانتخابات الاخيرة. وليس غريبا إذا قيل العراق والشعب العراقي لم يصلا بعد إلى مستوى الديمقراطيات الغربية في تعامله مع مفرداتها ومن ضمنها الانتخابات. وكذلك لا يجب الخجل الاقرار بان الوعي باهمية الصوت الانتخابي في وطن خرج للتو من حكم نظام شمولي قاسي لم تأت بمقام مهم كما هو الحال في البلدان التي تمارس الديمقراطية منذ عقود، على اعتبار ان الصوت الانتخابي يجب ان يخرج عن قناعة كاملة لدي الناخب بالقائمه التي سيضع ثقته على اساس ما ستحققه لبلده وشعبه وله بالذات لما يصبو إليه من تغير الحال الذي يعيش به إلى الافضل. وأستغل الدين في الانتخابات الاخيرة كما كانت التي سبقتها بشكل واسع ورجاله كانوا اداة لتوجيه الناخب لاغراض اغلبها ليست وطنية سامية. وفي الوقت الذي حشد رجال الدين كل قواهم وما يملكونه من تاثير على عقول البسطاء من الناس في دعوتهم للمشاركة في الانتخابات لم يستغلوا ذلك في دعوتهم التظاهر ضد الاعمال الارهابية التي يذهب نتيجتها ضحايا بالدرجة الاولى من اتباعهم ومقلديهم. وفي هذا مفارقة غريبة ويضع اكثر من علامة استفتاء. ان تفجيرات عمان الارهابية التي راح ضحيتها حوالي 60 شخصيا وعدة عشرات من الجرحى خرج الشارع الاردني في اكبر مظاهرة وطنية ضد التطرف والارهاب دعت إليها الاحزاب السياسية ورجال الدين الاردني. اما في العراق فان كل عمل اجرامي مثل الذي وقع في المسيب او بلد او بغداد لم تخرج فتاوي رجال الدين العراقيين من كل طوائفهم داعية لتحدي الارهابيين في مظاهرات عارمة ضد العنف والارهاب ومن يقف وراءهما، ولكنها حشدت كل قواها من اجل المشاركة في الانتخابات، وعلى الرغم من اهميتها، لكنها لا تقل عن اهمية الوقوف ضد الارهاب والارهابيين ان لم تكون تفوقها قيمة ومنزلة للدفاع عن امن الانسان وحياته وعيشه. ان النجاح وكذلك الاخفاقات التي خرجت بها المجموعات السياسية في الانتخابات الأخيرة لايعكس باي حال من الاحوال بشكل صحيح عن تمثيل حقيقي لرأي الشارع العراقي الذي لم ينضج بعد لاختيار ممثليه على اسس المصلحة الوطنية البحته. وهذا ليس خلل في الناخب العراقي بحد ذاته، وانما للضروف التي خلفها النظام المقبور واستغلال ذلك من قبل البعض كتعويض عن الحرمان الذي عانت منه اغلبية الشعب العراقي على يد النظام البعثفاشي خلال اربعة عقود من الزمان في تهميشها وعدم مشاركتها في صنع القرار السياسي العراقي وثانيا عدم اتاحة الفرصه الكافية لتأهيل الناخب العراقي سياسيا ليختار ممثليه بعيدا عن المشاعر العاطفية التي اغلبها اما دينية او قومية( عربية كانت او كردية او تركمانية وغيرها ). ان ناخب الامم المتقدمة على الاغلب يفكر في عقله لا حسب مشاعره الدينية او تعصبه القومي، وذلك بقدر ما سيحقه الفائز إلى ما يصبو إليه الناخب نفسه. ان بلدا مثل مصر مثلا، حيث ولدت جماعة الاخوان المسلمين وتيارها الطاغي على الشارع المصري منذ ست عقود، وفي ضروف اليوم العادية،لم يستطع حزبهم ان يحقق اكثر من 18% من الاصوات، في الوقت الذي لا يقل فيه الشارع العراقي عنه تمسكا بالدين عندما ان شحذ رجال الدين العراقيين اتباعهم في المشاركة في الانتخابات وليست الوقوف ضد الاعمال الارهابية وصلت إلى المساهمة إلى اربعة ملايين ناخب اكثر عن عدد الذين ساهموا في الانتخابات المصرية (ساهم في انتخابات مصر 7 ملايين من مجموع 32 مليون من يحق لهم التصويت وفي العراق ساهم 11 مليون شخص من مجموع 15 مليون شخص يحق لهم التصويت ). ان كانت الضروف العادية والتوعية الثقافية والسياسيه للناخب في العراق كما هو الحال في مصر لكانت النتيجة مقاربة للتيارات الدينية وان لم تكن كذلك في العراق وحتى وان تضاعفت اي في حدود 36% لكان الحال العراقي بعد الانتخابات افضل مما خرجت به النتائج الاخيرة حيث وصلت حصة الاحزاب الدينية( الشيعية والسنية) ما يعادل 65% من مجموع المقاعد في البرلمان القادم.ان بناء اي وطن على اسس الحداثة وله خاصية كما لدي العراق من تعدد القوميات والديانات يحتاج اولا واخيرا إلى نظام بعيد عن تسلط الدين المتيسيس مهما كان نوعه. ان نجاح اوربا منذ القرون الوسطى في فصل الدين عن ممارسة السلطة السياسية حقق لها ما يشهده العالم من نجاحات تمثل صورة الحضارة الإنسانية في الوقت الحاضر. ان التجربه التي مر بها العراق خلال المرحلة الاخيرة والتي قبلها عندما كانت السلطة في يد التيار الديني تمتاز بمرض الطائفية والمحاصصة الحزبية والتبعية التي خلفت آثارا عميقة وسيئة في المجتمع العراقي وخيبه امل كبيرة للذين قارعوا النظام البعثفاشي، داخل العراق وخارجه. ان اتجاه الاحزاب الدينية نحو الامتيازات الخاصة والمنفعة الشخصية والطائفية والمحاصصة دفعت الكثيرين من العراقيين ان يشككوا في مستقبل العراق وفي الامل في بناء نظامه ديمقراطيا حقيقيا بعيدا عن السيطرة الخارجية ونقل التجربة الإيرانية في الحكم والتصرف وبناء مؤسسات الدولة العراقية على نمطها. جاءت الكثير من التقارير المحايدة التي نشرت وتنشر من قبل منظمات المجتمع المدني التي راقبت الانتخابات الأخيرة عن عمليات التزوير الذي صاحبتها في مصلحة احدى القوائم وكذلك رفض اكثر من 30 كيانا سياسيا لمجمل عملية الانتخابات الاخيرة والتشكيك في نزاتها مما خلق وضعا سياسيا حرجا، خاصة وان جميع الفعاليات السياسية لم تحرز الاغلبية المطلقة لتشكيل حكومة وهي غير قادرة على تشكيل حكومة إتلاف بين قائمتين كما كانت عليه في البرلمان السابق. فالقائمة الكردية، كما يظهر، لا تود المشاركة في حكم العراق مع قائمة الحكيم لوحدهما وذلك حسب التصريحات التي خرجت على لسان الطالباني والبرزاني. كما وان القائمة الوطنية لاياد علاوي بعيدة في برنامجها عن قائمة الحكيم ndash; الجعفري من اجل الاتفاق على تشكيل قاعدة إتلاف يضمن الاكثرية. كما وان الخلافات بين القائمة الفائزة نفسها حول مرشحها لرئاسة الوزارة بدأت تطفو على السطح في تجديد اختيار الجعفري (حزب الدعوة) او عادل عبد المهدي ( المجلس الاعلى) ودخول مقتدى الصدر في التأثير في عملية الاختيار لمصلحة الجعفري ( المنافسة بين بيت الحكيم وبيت الصدر، من جهة ومن جهة اخرى التنافس بين جماعة الصدر والمجلس الاعلى والتقاتل الدموي بين مليشياتهما، بدر وجيش المهدي ). فقد اصبحت الصورة اكثر قاتمة في الوقت الحاضر على الرغم من الجهود المضنية التي يبذلها الرئيس جلال الطالباني ومعه السفير الامريكي في العراق خليل زاده في نزع فتيل الخلافات وتشكيل حكومة وحدة وطنية وكما سربت الانباء تريدها واشنطن ان تكون : حكومة قوية تحكم من المركز، أن تحترم مصالح وحقوق كل طوائف الشعب العراقي، تحافظ على وحدة البلاد، شاملة لكل الطوائف العراقية، تحظى بثقة العالم في تطبيقها للديمقراطية،أن يكون وزراؤها من الأكفاء والقادرين على ممارسة مسؤولياتهم باقتدار في ظروف صعبة، وتحديات يواجهها العراق واخيرا أن تحارب الفساد المستشري في مفاصل الدولة العراقية بجدية حقيقية. فهل يمكن لحكومة امامها هذا البرنامج الواسع والوطني ان تتشكل دون المحاصصة الحزبية وتوزيع الوزرات وهياكلها بين الاحزاب السياسية كما هو الحال اليوم ؟ حيث وصلت المحاصصة الحزبية إلى اجهزة الدولة الامنية والجيش والسلك الدبلوماسي وحتى فراشي الوزارات وسائقي سيارتها ان يكونوا من حملة ولاء وعضوية الاحزاب الحاكمة. ففي البلدان الديمقراطية تقسم مناصب الوزارات حسب نوعية الأتلافات ، ولكن تبقى اجهزة اي وزارة واطرها الفنية والادارية كاملة لا يطرأ عليها تغير سوى سكرتارية الوزير والطاقم البرتكولي المحيط به. اما في العراق فان الوزارات اصبحت محميات ومقرات حزبية وخلايا تنظيمية واصبحت الوزارة مغلقة بجميع منتسبيها والعاملين لها لحزب الوزير ولا يعين موظف عراقي إلا بتزكية حزبية. كان النظام البعثصدامي السابق مبني على اساس الولاء لحزب واحد، متجانس في ادائه لمصلحة النظام ورئيسه. فان الواقع العراقي الحالي فمتعدد الولاءات وغير متجانس العمل بين مؤسسات الدولة ووزاراتها لانها مبنية اساسيا على منظمات حزبية صرفة وولاءات متعددة تفتقد إلى الولاء الوطني العراقي. ان من يحب العراق هو من يقول الحقيقة. ومن يحب ذاته وحزبه ومصلحته فانه يغطي ما على يجري الان ويغلفه باكثر من برقع مزيف.

ان العمل الحزبي او اي عمل سياسي شريف في هدفه السامي هو خدمة المجتمع الذي ينتمي إليه وكذلك الذين ينتظمون تحت لوائه حيث ياتي في الدرجة الاولى لديهم خدمة الوطن والشعب والامة التي ينتمون إليها. وفي حالة التخلي عن ذلك فان ذلك الحزب والتنظيم السياسي وكذلك قادته ليس هدفهم نبيل ومن اجل المصلحة العامة بقدر ما هو من اجل المصلحه الذاتية والحزبية. وفي الحالة العراقية هناك طريق، لربما هو حل اسلم، من اجل الخروج من النفق الذي وضع فيه العراق إلى عالم رحب يعيد الثقة والامل لدي العراقيين بمستقبلهم وفي بناء عراق جديد حقيقي مبني على كينونة تحويل الاحزاب التي فازت في الانتخابات عبر البرلمان القادم كسلطة مراقبة وتوجيه اداء حكومة دون ان تشارك فيها وانما تشكل من وطنيين عراقيين مستقلين، من عناصر كفوءة لقيادة العراق، ليس على اسس المحاصصة الحزبية ولا القومية ولا الطائفية، انما على اساس الولاء للعراق ووضع برنامج لتحقيق طموح العراق والعراقيين وتهيئة الاجواء لاستقرار الوطن والمباشرة في إعادة اعماره بشكل جدي. مع الالتزام بالثوابت : حكومة قوية تحكم من المركز، أن تحترم مصالح وحقوق كل طوائف الشعب العراقي، تحافظ على وحدة البلاد، شاملة لكل الطوائف العراقية، تحظى بثقة العالم في تطبيقها للديمقراطية،أن يكون وزراؤها من الأكفاء والقادرين على ممارسة مسؤولياتهم باقتدار في ظروف صعبة، وتحديات يواجهها العراق وأن تحارب الفساد المستشري في مفاصل الدولة العراقية بجدية حقيقية. وكل مخلص وطني عراقي يعتبر ذلك البرنامج الحقيقي ولادة حقيقية لعراق جديد بحكومة وطنية عراقية تستطيع ان تخدم العراق خلال الفترة القادمة دون تبعية او تاثير خارجي ولا محابات لجهة على حساب اخرى. ولعمري ان اختار سياسونا الجدد هذا الدرب لكانوا مثال الوطنية والاخلاص، لا لدي العراقيين وانما لدي شعوب العالم ولاصبح العراق فعلا كما اريد له ان يكون منارا لشعوب الشرق الاوسط التي تعيش تحت حكم الدكتاتورية القومية او الدينية او معهما معا كما هو الحال في سوريا وايران.