يقف العرب اليوم على أعتاب التحولات الكبرى التي يشهدها العالم ، وهم يعانون من نوبة الصدمة، تلك الأخيرة التي بقيت تحضر من دون أن تفارقهم على مدى زمن طويل من تاريخهم.فهم أي العرب مصدومون منذ سقطت دولة الخلافة العربية الإسلامية في بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي، وراحت تستمر حاضرة فاعلة في المزيد من التفاصيل الفرعية اللاحقة من عمر الزمن العربي، حتى لم يتوان الكثير من المنظرين من الإشارة إلى خروج العرب من التاريخ، هذا بحساب البحث في قياس فاعلية الذات وحضورها وـاثيرها، حتى اقتصرت فعالية التفكير في توزيع السؤال أفقيا ليكون الانشطار والتمزق والتشظي، فيما غاب المبحث العمودي في توزيع العلاقة بين الماضي والحاضر.سؤال الراهن العربي ظل يداور حول الحاضر المنهك، الذي يعيش المحنة تارة، والجدل العقيم تارة أخرى، والبكاء على الأطلال في الكثير من أحيان وربما التغني بالأمجاد السالفة، حتى كانت اللوثة من التداخلات التي راحت تشكل عائقا وحاجزا كثيفا على المجمل من محاولات التطلع نحو تعيين الوجود.

الذات المفكرة
الشاكي والباكي، والمتأمل الصوفي، و السابح في ملكوت الحلم وأطياف الخيال، والرومانسي المنشد لأقوال وحكايا الجدات ، والغاضب الناقم المتلفت حوله بعيون ينطلق منها الشرار ، فيما يكون العجز الحاضر الأهم وسط هذا المختلف من الأحوال والأوضاع، لتكون المدركات عرضة لأوضاع لتفسير وطريقة تعيين الوجود.فيما تتعرض القدرة على التغيير لأسوأ أوضاعها، حيث الباب الموصد برتاج من حديد، لتبدأ حمى المواجهة بين واقع تقره الأوضاع والعلاقات والقدرات والإمكانات، ورهان تصنعه التأملات والتنهدات وأطياف م التهويمات والحماسات التي لم تعد تجدي نفعا، مع هذا السيل الجارف من التغير والتحول والتنوع الذي يعيشه العالم.
بين النهضة واليقظة، تلك التي تأملت كثيرا في مواضعات الواقع العربي، حيث الوعد بالتقدم والخروج من مأزق التخلف والجهل والفقر والأمية والسكونية المريرة. اجترح المنورون العرب المزيد من الموضوعات، حتى أنتجت تلك المرحلة حزمة من المفاهيم التي تم تداولها بوصفها كلمات. لتكون القطيعة ، بين مثقف يسعى نحو التغيير، وعامة عسر عليها هضم تلك الرطانة من المفردات التي لم تثر سوى العجب والإعجاب وفغر الأفواه من فرط الدهشة ، حيث الرصف الإنشائي لهذا الموصوف مثقفا، وقدرته على مليء الوقت بالحديث الطلي والجميل، فيما يكون المستعمون حاضرين للتهليل والتصفيق، أو في أحسن الأحول مرددين للشعارات التي يحرص على توظيبها الهتافون، في لعبة من الشد والجذب ومحاولة للتأثير وتحديد مسار توزيع القوة. ولكن أي قوة؟!

العقل والتغيير
في بواكير القرن العشرين وتحديدا في العام 1908 حدث الانقلاب العثماني بزعامة جمعية الاتحاد والترقي، وتحت شعار الحرية والأخاء والمساواة، برز التوجه نحو إحياء الحياة الدستورية في الدولة العثمانية.الأمر هنا لا يتوقف عن المعطى السياسي، بل أن التسلل القيمي في المجال الاجتماعي ، كان قد برز وبشكل واضح، حتى أن عالم الاجتماع علي الوردي، يرصد طبيعة تمثل مفهوم الدستورية ، والتي أطلق عليها المشروطية في ذلك العهد، على صعيد طريقة استقبال هذا المفهوم في الفضاء الاجتماعي العراقي والبغدادي تحديدا، ليشير إلى أن الكثير من الناس راح يفسر المشروطية بوصفها، الفرصة التي تتيح للمرء أن يقوم بما يحلو له من أعمال، حتى وإن تقاطعت مع الأعراف الاجتماعية والمثل السائدة.حتى كان التقاطع الفج بين المحافظين والمجددين.المحافظون الذين راحوا يشهدون طريقة التمثل المجزوء لهذا البعض الذي راح يقدم العبث تحت دعوى التجديد. والمتلفعون برؤى الجديد من دون وعي أو إدراك، لتتبدى هنا معطيات من نوع؛(( المواجهة، تقرير المصير، إدراك المعطيات.)).

تقرير المصير
ماهو الفاصل الذي يمكن من خلاله التمييز، بين الجهات المتصادمة، هذا بحساب بروز حالة التصاعد بين الأطراف المتنازعة، والتي تصل العلاقات فيها إلى المواجهة.وعن أية مواجهة يمكن الحديث هذا إذا ما أخذ بنظر الاعتبار حالات التنوع والتعدد في المواقف والرهانات والتصورات، هل يقف الأمر عند معطى التفسير للمفاهيم الكبرى، والتي يمكن من خلالها التوجيه وبالتالي خلق رأي واسع يتم تداوله في الوسيط الاجتماعي، بوصفه معطى يقود نحو التغيير، أم أن المواجهة تبقى رهنا بمستوى الوعي بالقضية، تلك التي تكزن بمثابة الوسيلة والأداة الأصيلة التي يتم من خلالها تحديد تقويم المواجهة.
بين سوء الإدراك وحسن الطوية والنية وسلامتها، يكون الفقد الذي لازم قضية العقل، تلك التي تعيش في المجال العربي، وهي تعاني من التقطع والتبعثر في توزيع العلاقات التي توجهها. ليكون الوضع قد تمثل في التوقف الحائر، عند معضلة طرح السؤال والقدرة على صياغته بما يتناسب والطابع الحدثي للمفاهيم، هذا بحساب أن المفاهيم هنا تأخذ شكل الحدث الذي يحفز من دون أن يفعّل، ويحرض من دون أن يوّجه، ويعقد من دون أن يسّهل، ويؤدلج من أن يعرّف!!!!!!!!! وتلك هي الطامة التي فرضت بثقلها الحدثي على المتداول المفهومي ، حتى باتت مساحة العقل في نأي عن موضعها الطبيعي والملائم.
لقد أفرزت المشروطية مالمواجهة بين المحافظين والمجددين، من دون أن تكون هناك فسحة لإدراك المعطيات الموضوعية للمفهوم، وعلى هذا كان تقرير المصير الذي جاء مناكفا مناكدا، يعاني من التغييب لفكرة التغيير، لتكون النتيجة عجزا وانعداما فاضحا للفعالية المأمولة والمرتجاة، الفاعلية الغائبة التي تعاني من الذواء والانحسار، والتي لا تجد صداها في المجال العربي سوى في خطابات النعي والرثاء والبكاء الطويل.
[email protected]