يزداد الاهتمام بالمبادرة لعقد اجتماع بين رؤساء المجموعات السياسية العراقية ومسألة تشكيل حكومة وحدة وطنية. هذه المبادرة تعزز دور القيادات الكردية في المنعطف السياسي الراهن وخصوصا بعد الاحتقان الحاصل بسبب الخلافات حول نتائج الانتخابات، والتجاذب المتشنج لطرفي الصراع. [ الأطراف السياسية الشيعية والكتل الناطقة باسم سنة العراق] . إنني، إذ أحيي المبادرة، فالمطلوب أن نعرف الأسس والمعايير التي ستطرح لتشكيل الحكومة المعنية وكذلك نتائج التحقيق في الشكاوى الأهم حول وقائع التزوير الانتخابي، وأينما حدث التزوير ومن أية جهة سياسية كان التزوير، وأعتقد أنه إذا كانت تسوية الخلافات الحادة الراهنة على طريقة تبويس اللحى البدوية فكل تسوية هكذا معرضة للتفكك عاجلا أو آجلا.
يجرني الحديث عن المبادرة الكردية للتوقف عند دور الأحزاب الكردية في الساحة السياسية العراقية. ما يدفعني هنا هو عدة رسائل وصلتني من أصدقاء تنتقد ما تعبرها quot;مجاملةquot; مني للقيادات الكردية.
معروف أن القيادات السياسية العراقية تمثل تيارات سياسية وفكرية مختلفة فضلا عن الواقع القومي المتعدد الألوان. وقد مرت الأحزاب والقوى السياسية العراقية بالعشرات من الأوضاع المتغيرة، ناهيكم عن ظروف وتاريخ نشأة كل منها. وخلال عقود ضمرت تنظيمات وبرزت أخرى، وتصاعد نفوذ البعض وانحسر نفوذ آخرين، وتغيرت التحالفات السياسية وموازين القوى بينها وفي الساحة العراقية. إن علاقات القوى السياسية مع بعض لم تكن على حالها اليوم، ومنها من دخلت خصومات حادة مع غيرها، وثمة المواقف المتباينة من الحكومات المتعاقبة منذ ثورة 14 تموز. ما يهمنا هنا هو الوضع الراهن وهو معقد ومتشابك جدا وفي ظروف إقليمية ودولية جديدة. أجل هناك مشاكل كثيرة اليوم بين القيادات السياسية لها ظروفها وأسبابها المتعددة. لكن هناك أيضا نقاط لقاء كثيرة بين غالبيتها وإن اختلفت في الأهداف البعيدة والإيديولوجية والتحليل السياسي.
خلال فترة المعارضة في التسعينات واصلت القيادات الكردية دفاعها عن مصالح وحقوق الشعب الكردي، وتم إعلان الفيدرالية بعد أن سحب نظام صدام إدارته وقواته العسكرية، وحظيت الفيدرالية بإجماع البرلمان الكردي المنتخب. كما أن أطرافا سياسية عراقية عديدة لم تعارض فيدرالية كردستان بل وجدتها اعترافا بالقومية الكردية وتطويرا للحكم الذاتي ماد دامت الفيدرالية ثبتت الوحدة العراقية وأكدت على وجود كردستان ضمن العراق. لقد انتقدت في مقالاتي مرارا ما اعتبره أخطاء التقدير في المواقف السياسية الكردية. صحيح أنني في نقدي لها شديد الاعتدال، نظرا لطبيعة تلك الأخطاء التي أفترضها ودورها المحدود مقارنة بأخطاء التنظيمات السياسية الدينية ذات الدور الرئيسي في السلطة. وثمة أيضا سبب ذاتي مرده كون علاقاتي بالقيادات الكردية خلال فترات عملي السياسي مرت بأطوار من التوتر الذي كنت أتحمل مسؤوليته الكبرى، برغم إيماني الثابت بالحقوق الكردية. كما أقدر الوضع الحرج للقيادات الكردية جراء التجاذب السياسي المحتدم خارج كردستان. سمعت من بعض الأصدقاء وقائع عن حالات فساد مفترضة في كردستان، ووجود شكاوى. إنني لا أمتلك المعلومات الوافية لكي أبدي رأيا عن الموضوع، ولو توفرت لي لما ترددت عن إبداء الرأي كأي مواطن. وهنا أقول إن جميع القيادات والأطراف السياسية العراقية لم تبد تقبلا كاملا للنقد، خصوصا وإن معظمها نادرا ما انتقدت أخطاءها السابقة التي كان بعضها فادحا. ومع كوني لا أعلم أسباب وحيثيات الحكم على الكاتب الكردي كمال سيد قادر، فأرى أن من الأفضل إعادة النظر بمرونة وتسامح في القضية. إن ضمان حل الإشكال الانتخابي يتمثل حسب رأيي في امتناع مختلف الأطراف عن اتخاذ مواقف سلبية تزيد في التوتر. إن أية دعوة منفعلة تشجع على العنف أو الإحراج يجب إدانتها. كما يجب انتقاد النبرة والروح quot;الانتصاريتينquot; عند الائتلافيين والإصرار على اعتبار النتائج صحيحة وبلا تحقيق محايد، والتشبث مجددا باسم المرجعة الشيعية لتبرير هذا الموقف. quot;هذا المقال تطوير لأجوبتي على أسئلة من موقع البرلمان الحر، وفي المقال مقاطع كثيرة من تلك الأجوبة ولكن المقال ليس نسخة طبق الأصل.quot;
وهنا أشير لدعوات الانفصال التي تصاعدت منذ أواخر العام المنصرم [ 2004 ] والتي كان للمثقفين الأكراد دور كبير فيها. تلك الدعوات كانت محقة حين تؤكد على مبدأ حق تقرير المصير، وكانت منطلقة من مشاعر قومية نبيلة، ولكن فكرة الانفصال وكما قال الرئيس جلال طالباني في حينه، quot;تصلح شعارا جذابا لكن بالتأكيد ستقود إلى العبث.quot;وأكد الرئيسان الكرديان على أن quot;الانفصال غير واقعي وغير مفيد وغير مثمر.quot; هذا الموقف الحكيم هو من بين أهم مواقف القيادات الكردية لصالح وحدة العراق ووحدة قواه الوطنية.
فيما يخص الفيدرالية وقفت بعض القوى السياسية مواقف عدم التفهم في حين أثارت ثائرة كل من إيران وسوريا والحساسيات التركية.غير أنه تم الاعتراف فيما بعد بالفيدرالية في غالبية مؤتمرات المعارضة واجتماعاتها. واليوم أيضا لا توجد قوة سياسية عراقية تنكر حق كردستان في الفيدرالية كإقليم جغرافي متميز قوميا وتاريخيا، وبتكوين متنوع من تركمان وكلدو ـ آشوريين مع أكثرية كردية. لم تثر في أي من اجتماعات ومؤتمرات المعارضة قبل سقوط صدام أية دعوة إلى نظام فيدرالي على نطاق العراق كله، ناهيكم عن أن الفيدرالية كانت بمفهوم ديمقراطي ومدني خلافا لشعارات ومطالب البعض بفيدراليات مذهبية.
إن النزاع المؤلم الذي وقع في منتصف التسعينيات بين الحزبين الكردستانيين الكبيرين قد ألحق ضررا كبيرا بالدور الكردي في الحركتين الوطنيتين الكردية والعراقية على السواء. ومن حسن حظ الشعب الكردي وكل العراقيين أن تلك الخلافات الحادة سويت تدريجيا وهذا ما أعاد للقيادات الكردية دورها الإيجابي
في الحركة السياسية العراقية. ومع ذلك فإن بقاء الإدارتين ثغرة كبيرة لغير صالح الشعب الكردي والعراق. كما لابد من اتخاذ مواقف أكثر مرونة من موضوع كركوك التي كانت مدينة التعايش بين القوميات، والمطلوب إحصاء دقيق لسكانها قبل التشاور لحل المشكلة نهائيا.
لقد أظهر مؤتمر لندن قبيل سقوط النظام الفاشي مدى نضوج وفاعلية الدور السياسي الكردي في تجميع القوى الوطنية وتقليص شقة الخلافات بينها، ومدى مرونتها السياسية باعتراف الجميع. وقد استغل المجلس الإسلامي الأعلى تلك المرونة والانفتاح ليفرض على مؤتمر لندن الأخذ بمبدأ المحاصصة كشرط لانخراطه في الجهد الوطني المشترك. وقد تبينت أضرار هذه القاعدة فيما بعد منذ قيام مجلس الحكم، وحيث روعيت المعايير الحزبية والدينية المذهبية لاختيار مجلس الحكم والوزراء. صحيح أن ذلك كان بحكم الأمر الواقع في الميدان ونتيجة سياسة التمييز الطائفي الدموي للنظام السابق. ولكن صحيح أيضا أنه من جهة أخرى قوى الأفكار والنوازع الطائفية ، فضلا عن أن اختيار المسؤولين في الحكومة تجاهل غالبا مبدأ الكفاءة والخبرة المطلوبتين لكل منصب. وبدلا من العمل الصبور والمثابر لتوعية الجماهير بروح المواطنة ومخاطر الطائفية، فإن أطرافا نافذة من المذهبين كانت تغذي وتقوي تلك الظواهر السلبية الخطيرة.
بالطبع إن الهجمة الإرهابية الشرسة والدور السلبي لأنظمة الجوار وعلى الأخص سوريا وإيران، قد زادت كثيرا من صعوبات الوضع العراقي وتعقيداته وحيث صار أمن المواطنات والمواطنين والمؤسسات هو الهم الأكبر المحتاج لتعبئة الجهود والقدرات بمساعدة القوات متعددة الجنسيات، التي قامت بتحرير العراق من النظام الأكثر شراسة في تاريخ العراق والمنطقة.
خلال عملية تأسيس مجلس الحكم لعبت الأطراف الكردية دور التوفيق وتسوية الخلافات والتهدئة بين الأطراف السياسية المختلفة. وكان عماد السياسة الكردية هو التركيز أولا على quot;التحالف quot;الاستراتيجيquot; مع المجلس الأعلى بسبب نفوذه بين الطائفة الشيعية ذات الأكثرية السكانية. وقد احتفظ التحالف الكردستاني بتلك الاستراتيجية ولكن دون إهمال التعاون مع بقية القوى والأطراف السياسية داخل الحكومة وخارجها. ومن رأيي، وهذا ما قلته مرارا في مقالاتي، أن القيادات الكردية قد بالغت كثيرا في التركيز على quot;تحالفها الاستراتيجيquot; مع أطراف ائتلاف، كجهد رئيسي له الأولوية الاستثنائية في وقت كانت القوى العلمانية شبه محاصرة ومطوقة. ما أريد التعبير عنه هنا هو أنه كانت لتلك الاستراتيجية ظروف وعوامل فرضتها قبيل سقوط صدام ولحين إجراء الانتخابات العامة الأولى، فقد كان الأولى الانتباه الجدي لمخاطر زج الدين ومراجعه في أدق تفاصيل العملية السياسية، والقيادات الكردية الرئيسة لم تدن الانتهاكات الخطيرة للحريات وحقوق المواطن في البصرة وجنوب العراق. كما أنها، لأسباب سياسية واعتبارات خاصة معروفة، لم تنتقد التدخل الإيراني واسع النطاق، باستثناء تصريح عابر للسيد وزير الخارجية عن الدورين الإيراني والسوري. إنني إذ أقدر الدور المهم والمتميز للقيادات الكردية، فإنني ألاحظ من موقع الإخلاص صمتها عن الانتهاكاتالجارية في الجنوب منذ سقوط صدام، حتى انكشاف أمر السجون السرية لوزارة الداخلية، وحيث أوكل التحقيق لمسؤول كردي كبير تقدم بتقرير صريح دقيق يشكر عليه ويثمن.
فيالوضع الراهن، فإن القيادتين الكرديتين المتمثلتين في السيدين رئيس الجمهورية جلال طالباني ورئيس إقليم كردستان مسعود برزاني، تقومان وكما مر آنفا بجهود مشرفة لإطفاء موقد الاحتقان.وما أتمناه قيام الحلول على أسس قوية، وبلا مجاملات لكي لا تبقى مشاعر المرارة والشكوك والشعور بالغبن هنا أو هناك. إن المطالبة بإعادة الانتخابات عى نطاق العراق ليس لها مبرر ولا شرعية، أما إعادتها في مناطق ثبت وجوب عمليات تزوير ورشاوى وتدخل خارجي فيها فيدب إعادة النظر فيها. ولاأدري سبب عدم اقتناع زعماء في الائتلاف بتحقيق تقوم به لجنة دولية محايدة بدلا من إيكال المهمة للمفوضية التي أثيرت حولها اتهامات قد تكون مهولة ولكن لا شك في أن عددا كبيرا من موظفات وموظفي الانتخابات ينتمون لأطراف ائتلافية أو محسوبين عليها.
كما أنه في أية حكومة قادمة لا يجب أن يشغل مناصب الداخلية والأمن والدفاع والمستشارية الأمنية منتسبون لأي طرف سياسي، بل اختيار عناصر وطنية آهلة ومستقلة، وبالتشاور بين الجميع. أعرف أن هذا أكثر من صعب ولكن لابد من التعبير عن وجهة نظري هذه، إذ بذلك يمكن تجنب هيمنة هذا الطرف أو ذاك واستحواذه على أهم مفاصل الدولة؛ وهذه تجربة ثبتت مخاطرها خلال العام الموشك على الانقضاء.
فهل سيمثل الجميع للدواعي الوطنية العليا بعيدا عن نزعات الهيمنة أو تعمد الإحراج والتصعيد مما يزيد في الاحتقان الطائفي والسياسي المحتدم حاليا ؟؟
التعليقات