في كل المقاييس التي عرفتها المنطقة منذ رسم خريطة الشرق الأوسط الحديث في بداية العشرينات من القرن الماضي، لم تكن السنة 2005 سنة عادية على الصعيد الفلسطيني، ذلك أن تلك السنة ستظل محفورة في تاريخ القضية الفلسطينية بصفة كونها السنة التي توجب فيها على الفلسطينيين العيش من دون ياسر عرفات. كان ياسر عرفات الرجل الذي جسّد القضية الفلسطينية وتحول رمزا لها وللقرار الفلسطيني المستقل. أختصر ياسر عرفات، رحمه الله، القضية في شخصه وحقق ما لم يحققه أي زعيم فلسطيني في التاريخ الحديث. أستطاع ياسر عرفات أن يعيد أرضاً للفلسطينيين وذلك بعد نجاح في وضع القضية على الخريطة السياسية للشرق الأوسط. أعاد لهم أرضاً في فلسطين وليس في الأردن ولا في لبنان. وكان مفترضاً في القيادات الفلسطينية أن تعي تماما اهمية ما تحقق وان تعمل على متابعة المسيرة عبر الشخص الأقرب الى تفكير ياسر عرفات ولكن الأبعد عن ذهنيته وأسلوبه في ممارسة السلطة. لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث.

استطاع السيد محمود عبّاس(أبو مازن)أن يملأ جزءا من الفراغ الذي تركه ياسرعرفات. واذا كان لا بدّ من تسمية الأشياء بأسمائها، امكن القول أنه توجّب على quot;أبو مازنquot;، الرجل الواضح كل الوضوح، التعاطي مع تركة ثقيلة تبدأ بالغموض الذي كان يمتهنه ياسر عرفات وتنتهي بالقدرات التي أمتلكها الرجل لجهة تحوله الى نظام متكامل في حدّ ذاته لايمكن لأي مؤسسة فلسطينية العيش من دون أن تكون مرتبطة به أرتباطاً مباشراً.

وفي حال كنّا نريد أن نكون اكثر صراحة، توجّب القول أن على الفلسطينيين ان يفكّروا في أن مرحلة ياسر عرفات لا يمكن أن تتكرر بغض النظر عن حسنات الرجل وسيئاته. أكثر من ذلك، كان عليهم أن يفكروا في أن الخطوة العظيمة التي أقدموا عليها عندما أنتخبوا quot;ابو مازنquot; رئيساً للسلطة الوطنية على أساس برنامج سياسي واضح يرفض عسكرة الأنتفاضة، كان يجب أن تتبعها خطوات أخرى تتسم بالشجاعة والواقعية. خطوات تساعد محمود عباس في مواجهة العراقيل الأسرائيلية بدل العمل على زيادة هذه العراقيل التي لا تخدم سوى المشروع الأستعماري الذي يعمل أرييل شارون على تنفيذه عبر بناءquot;الجدار الأمنيquot;.

كانت السنة 2005 سنة كل أنواع الفشل الفلسطيني. كان هناك اوّلا فشل على مستوى quot;فتحquot; التي لم تحافظ على وحدتها وتبقى العمود الفقري للنضال الوطني الفلسطيني المنفتح والحضاري في مواجهة العنصرية الأسرائيلية. وكان مؤسفاً حصول ذلك الشرخ بين الحرس القديم وجيل الشباب في quot;فتحquot; في غياب ياسر عرفات الذي لم يكن أحد غيره قادراً على سدّ كل الفجوات بكل الوسائل المتاحة بدءاً بأستخدام القوة وأنتهاء بأستخدام المال.وحبذا لو أن الأعلان عن لائحة موحّدة لquot;فتحquot; تخوض بها الأنتخابات الفلسطينية في الخامس والعشرين من كانون الثاني 2006 يعيد الى الحركة نوعاً من وحدتها بدل أدخالها في غياهب المجهول في حال تحقيق quot;حماسquot; أنتصاراً كاسحاً في ألأنتخابات.
في غياب quot;أبو عمّارquot;، لم تعد quot;فتحquot; تلك الحركة التي عرفناها. صارت مجموعة حركات لا يجمع شيء بينها سوى فوضى السلاح التي أعادت القضية سنوات الى خلف. وكان أكثر من طبيعي أن تعمد قوى أخرى الى سد الفراغ الذي خلّفه غياب ياسر عرفات من جهة وحال التشرذم داخل quot;فتحquot; من جهة أخرى. وكان أكثر من طبيعي أن تعمل قوى أقليمية على أستغلال الوضع الفلسطيني كورقة في لعبة التجاذبات التي لا علاقة للمصلحة الفلسطينية بها. وكان أكثر من طبيعي أن تعمل quot;حماسquot; بما تملكه من أمكانات مالية كبيرة على أن تكون بديلاً من quot;فتحquot; ومن كل ما مثلته تاريخياً فتكرس بذلك تراجع القضية الفلسطينية على الصعيدين الأقليمي والدولي في آن.

لا داعي للقول أن السنة 2005 كانت من أصعب السنوات التي مرّت بها القضية الفلسطينية على الرغم من الجهود الجبّارة التي بذلهاquot; أبو مازنquot; من أجل أنقاذ ما يمكن انقاذه في وقت يعاد فيه رسم خريطة الشرق الأوسط أنطلاقاً مما حصل ويحصل في العراق. لقد سقط الفلسطينيون في فخ الأنسحاب الأسرائيلي من غزة ولم يحسنوا التعاطي مع مرحلة ما بعد الأنسحاب التي كان يمكن أن تستغل لأبلاغ العالم أنهم قادرون على أدارة دولة بدل أستخدام غزّة لأطلاق صواريخ لا يفرح لها أحد أكثر من أرييل شارون الذي يستطيع الأستمرار في ممارسة أرهابه من دون أن يجد مسؤولا أميركياً أو أوروبياً يبدي ملاحظة على ما يقوم به.

يخشى أن تكون السنة 2005 سنة التراجع الفلسطيني والاّ تعود فلسطين القضية المركزية للعرب، خصوصاً بعدما صارت الأنظار كلها منصبّة على العراق وعلى الفتنة المذهبية السنية- الشيعية التي أطلت برأسها بوقاحة ليس بعدها وقاحة. ويخشى أيضاً، في غياب معجزة تعيد المبادرة الىquot;فتحquot;، من أن تؤدي الأنتخابات الفلسطينية الشهر الجاري الى تكريس واقع أليم يؤدي الى جعل الشعب الفلسطيني يخسر مرة أخرى فرصة أيجاد موقع له على الخريطة الجغرافية للشرق الأوسط، علما بأنه موجود على الخريطة السياسية للمنطقة! في النهاية، هل ستكون quot;فتحquot; في مستوى التحدي الذي يواجه القضية الفلسطينية أم لا؟ ذلك هو السؤال الذي يختصر كل الأسئلة. أذا أستطاعت quot;فتحquot; أن تكون في مستوى التحدي، يبقى أمل في أن الفلسطينيين سيكونون قادرين على تحدي المشروع الشاروني حضارياً. في حال لم يحصل ذلك، يمكن القول من الآن أن القضية الفلسطينية عادت سنوات الى خلف. الى حيث يريد لها شارون أن تعود خدمة لمشروعه الهادف الى رسم الخريطة النهائية لدولة أسرائيل من جانب واحد. يريد شارون، الذي نفّذ الأنسحاب الأحادي الجانب من غزة، عبر حزبه الجديد الذي يخوض به الأنتخابات فرض أمر واقع جديد يتمثّل في ضم القدس نهائيا الى أسرائيل مع أجزاء من الضفة الغربية. وحدهاquot;فتحquot; مسلحة ببرنامج سياسي واضح وواقعي يمكن أن تحبط هذا المشروع. والمؤسف أن الحركة التي خسرت وحدتها قد لا تكون في مستوى التحديات التي تفرضها المرحلة، اللهم الآّ أذا قرر الشعب الفلسطيني أن ينفض عنه غبار التخلف رافضاً الوقوع في فخ أسمه quot;حماسquot;. ربما علينا التعلق بحبال الهواء من أجل تفادي كارثة أخرى على الصعيد الفلسطيني. في غياب أنتفاضة فلسطينية لى الواقع القائم، قد تكون السنة الجديدة، السنة 2006 سنة تمكين أسرائيل من فرض أمر واقع جديد على الأرض فيما العالم يتفرّج على التحولات التي يشهدها الشرق الأوسط غير مبال بالمأساة التي يتعرض لها شعب بكامله مرشح لأن يذهب مرة أخرى ضحية المتاجرين بقضيته!