تحمل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للشرق الاوسط في طياتها العديد من الدلائل الهامة بالنسية للمنطقة ككل ولروسيا ذاتها. واذا كانت روسيا قد دخلت المنطقة قبل زهاء ستين عاما بصفقة الاسلحة التشيكية لمصر بعد ان رفض الغرب مدها بالسلاح، فان بوتين يسعى اليوم تكثيف حضور روسيا في المنطقة بمساعدة نهجه السياسي القاضي بالوقوف في الوسط بين الاطراف المتنازعة وارساء علاقات طيبة مع الاطراف المتنازعة، وتامين ان تكون كافة الاطراف بحاجة لك. وهذا الوضع جعل اسرائيل والجانب العربي على حد سواء الركض لكسب موسكو لجانبها.وبقدر ماتحمل الزيارة من وضوح اهدافها، فانها مليئة بالمتناقضات الناجمة عن تناقضات الوضع في المنطقة.
ويضع الكرملين الرهانات على ان نهج الوسيط والطرف المحايد سوف يساعده على استعادة شئ كبير من المواقع التي خسرها. ولكن هذا الطريق محفوف بخطورة ارتكاب موسكو هفوة للميلان اكثر من اللازم، لتلوح من خلاله انها تميل اكثر الاخر، حتى تتهشم جسورها مع الطرف الذي بشعر بالغبن، اضافة الى ان المحايد يخسر ورقة اللعب على حساب قضية الاخر.وسوف يسمع العرب والاسرائيليون من بوتين الخطاب الذي يعجبهم.
وفي المرحلة الحالية من تطور العملية السياسية في روسيا التي بدات مع انهيار الاتحاد السوفياتي، فان روسيا تتجنب اثارة الخلافات الحادة على الجبهات الخارجية. وتقوم استراتيجية الكرملين على تركيز الجهود لحل المشاكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وترتيب البيت الروسي. لذلك فان روسيا تسعى في خطابها وفعلها السياسي في المنطقة الحصول على مواقع اقتصادية عبر التعاطف مع قضايا كافة الاطراف، وعدم المساس بمشاعر الاخر او اثارة شكوكه.
وتتطلع روسيا في الدول العربية الى اسواق الاسلحة واستثمار الاموال العربية من اجل ان توظف تكنلوجياتها المتطورة لتنفيذ مشاريع في دول ثالثة. وتنظر الى العرب لكي يساعدوها على وقف تصدير الارهاب والارهابين لها، ووقف تمويل الحركة الانفصالية في الشيشان. الى ذلك فهي معنية بالموقف العربي على الساحة الدولية لكي تعزز سياستها الداعية الى الاحتكام للقانون الدولي في تسوية القضايا الدولية وتكريس دور فعال للامم المتحدة والتحول الى طرف دولي معترف به.
وتشكل اسرائيل بالنسبة لبوتين ظاهرة فريدة من نوعها في التاريخ الروسي، فهناك اكثر من مليون من مواطنيها ناطقين بالروسية، ولهم احزاب واجواء ثقافية وتاثير على الحياة العامة. ويسعى العديد من الساسة في الدولة العبرية خطب ود الكرملين خاصة في مراحل الانتخابات ليساعدهم على كسب عطف الناطقين بالروسية، وتغدو موسكو عاملا مؤثرا في الحياة السياسية في اسرائيل. وتطرح ال ابيب على موسكو الكثير من المشاريع الواعدة بما في ذلك في مجال النفط والغاز والتقنية الراقية، بما في تطوير صنوف الاسلحة الروسية.
في غضون ذلك ترصد موسكو وجود عقبات كثيرة تحول بينها وبين القيام باختراق جديد للمنطقة كما فعلت بصفقة الاسلحة التشيكية. وتشعر ان هناك قوى دولية تعمل على تهميش دورها في الشرق الاوسط، ومنحها ادوارا صغيرة. وهي تعرف ان اسرائيل منطقة نفوذ اميركية ويمكن المضي معها بقدر التماشي مع السياسة الاميركية، وان تل ابيب وفي سبيل فتح الافاق" المغرية " امامها تطرح مطالب تعجيزية بما في ذلك تقليص حجم تعاون روسيا مع دول ( سوريا وايران في المرحلة الراهنة) من اجل منحها الفرصة للعودة بثقل للمنطقة، والقبول بتلك المطالب سيسئ لمكانة موسكو في المنطقة ويفقدها المصداقية بعيون الدول العربية والاسلامية. وتحدد اسرائيل لموسكو الدول العربية التي يمكنها التعاومل معها، وتلك التي عليها ان تضع بينها مسافات.
ورغم ان روسيا تتحدث عن قضية تسوية النزاع في المنطقة ومشكلة دافور والوضع في العراق بخطاب قريب من الخطاب العربي، الا ان تاثيرها على امسار التطورات محدود، وتظل عاجزة عن تجسيد رؤيتها على ارض الواقع ، ودعواتها غالبا ما تظل غير مسموعة. فمثلا وحتى بعد ان نجحت باضفاء طابع القانون القرار الدولي بمصادقة مجلس الامن عليه، الا ان الجانب الفلسطيني كالعادة وحدة يلتزم بهذا باتنفيذ القرار ولم يلتئم المؤتمر الدولي بشان العراق رغم حصولها على اجماع دولي بشانه. ان هذ الوضع بالتاكيد يخلق انطباعا لدى الدول العربية بتها موسكو "بلا حول ولاقوة" في الساحة الدولية. وانها مازالت طرفا مهمشا في الشؤون الدولية. فالدول الصغيرة في عالم طاحن مثل عالمنا اليوم بحاجة لقوى حقيقية وفعالة للاعتماد عليها واللجوء لها عند الشدائد. وروسيا لم تعط لحد مثلا واحدا على مساعدتها حلفاءها بشكل عملي.
ان بوتين حتما سيسمع من العرب مظالمهم مثل عدم التزام اسرائيل بالقرارات الدولية والاتفاقات الثنائية، وتاكيدهم ان السلام اسراتيجية العرب، ويعدون ايضا بفتح افاق جديدة للتعاون على مختلف الاصعدة. وفي اسرائيل سيُطلب منه الاجابة على اسئلة عملية تدرجها تل ابيب في اولوياتها الامنية. والعرب سيقبلون بالتصريحات الدافئة من بوتين، وستصورها صحفهم على انها طفرة نوعية في العلاقات بين الطرفين، فيما سيقبل الاسرائليون فقط بخطوات عملية ملموسة منه، والا فان اجواء الزيارة ستكون باردة. وستتعامل اسرائيل مع روسيا على قدم المساواة. ولست من أي منبرسيتحدث الجانب العربي وها سيطالبه ان يدعو بصوت مسموع ايضا لانهاء الاحتلال وهدم الجدار الفاصل وتنفيذ خارطة الطريق والقرارات الدولية الاخرى وادانه قتل المدنيين الفلسطينيين( ارهاب الدولة) .
ان الرئيس بوتين سيجمع في زيارته كافة المتناقضات التي تعصف في المنطقة، سيتحدث عن السلاح ويفسر بيع موسكو اسلحة للحرب، ويشارك الشعب الفلسطيني امله في تاسيس دولته المستقلة، لكنه سيدين مع اسرائيل الارهاب وهو مايعني لتل ابيب المقاومة الفلسطينية للاحتلال، وسيضع اكليل من الزهور على قبر اول رئيس لفلسطين ياسر عرفات، وحتما سيجره الاسرائيليون لوضع اكاليل من الزهور على قبور موتاهم.
في هذا التناقض السافر، يكمن سبب ان الزيارة لن تحقق الكثير على صعيد النتائج العملية التي ستترك اثرها على الوضع في المنطقة او تعزيز اكثر لمواقع روسيا. ان سنة الحياة توحي بان الموقف المحايد لاسيما اذا كان حيادا سلبيا، موقفا غير مؤثر وغير مثمر وفي غالب الاحيان خاسر.