هل قدر العراق أن يتطهّر من نجاسة الدّكتاتوريّة بحمام دم؟ هل قدر العراقيين أن يسلكوا إلى الحريّة طريقا مرصوفة بالأشلاء والجماجم؟
كلّ هذا الدّم الزكيّ الذي يسفح، كلّ هذه الأرواح البريئة التي تزهق، كلّ هذه المسارب المحفوفة بالآلام.. هو قدر العراق العظيم الذي تآمر عليه الزّمن وغدر به الأشقّاء.
إنّ نهر الديمقراطيّة في العراق قد انبجس هادرًا نحو المصب، وبالرّغم من كلّ العوائق العربيّة التي وضعت في طريقه، فلن يرجع إلى منبعه وسيجرف كلّ النفايات العبثية والبعثيّة إلى مزبلة التّاريخ.
ولكن لماذا كلّ هذا الموت؟ لماذا كلّ هذا الدّمار؟ من يموّل هؤلاء القتلة الذين يقتلون لمجرّد القتل؟ من يفتى لهؤلاء بأنّ قتل العراقي عبادة خالصة لوجه اللّه؟ هل هم فقط فقهاء الإرهاب؟ هل هم فقط فلول حزب البعث؟ هل هم جماعة الزرقاوي الذين يعتبرون أن 60 % من الشعب العراقي كفار وروافض وجب قتالهم وقتلهم؟
الحقيقة أنّنا كلّنا نحن العرب مساهمون في هذه الجريمة ضدّ العراق. وإلاّ فلم تنادينا لتحرير العراق بقتل العراقيين؟ ثمّ منذ متى كنّا نهتمّ بالعراق وشعبه إلى هذا الحدّ؟
فالعراقيون لا يلومون القوميّين العرب فحسب. القوميّون الذين لازالوا يمنّون أنفسهم بعطايا صدّام وهباته ولا يرون في يوم 9 أبريل 2003 سوى أضغاث أحلام سيستفيقون منها على حفل المربد البهيج، في أسرّة فندق المأمون الوثيرة، ثمّ سيعودون إلى أوطانهم وجيوبهم منتفخة بكبونات النّفط المسروق من أقوات الشّعب البائس، ليمارسوا التّضليل ويواصلوا تزييف وعي الشّباب العربي حتّى يدفعوا به إلى الانتحار في معارك خاسرة، بينما يبعثون أبنائهم بفضل أموال العراق إلى جامعات الغرب، ضامنين بذلك سيادة عائلات الإقطاع على شعوبهم.
والعراقيون لا يلقون باللاّئمة على الإسلامويين المشهورين بالعنف فحسب. الإسلاميّون الذين يبرّرون قتل العراقيين بإحدى الكليشيهات الفقهيّة الغابرة، إمّا لأنّ العدوّ الكافر يتمترس خلفهم أو لأنّ العراقيّين أنفسهم يتعاونون مع الغازي الكافر أو لأنّهم من الكفّار الرّافضة. وما دامت إمارة الطالبان قد قوّضت، فإنّ هؤلاء الإسلامويّين يعتقدون أن مشروعهم القروسطي يمكن أن يتحقّق في العراق فإن لم يكن على كامل الوطن فعلى الأقلّ في الرّمادي أو الفلوجة.
إنّ العراقيّين يجدون أمامهم ترسانة عربيّة ضخمة من وسائل الإعلام ومن الألسنة والأقلام المكرّسة لثقافة الجهاد والقتل والانتحار، ويجدون أمامهم بؤسا عربيّا شاملا هو الذي يصنع مأساة العراق الدّامية.
ألا يريد العرب أن ي حكموا العقل والمنطق مرّة واحدة في هذا الزّمن الرّديء؟ هل من مجيب على الأسئلة التّالية :
-هل العراق كان وطنًا لمواطنين يتمتّعون بالحياة الكريمة قبل الاحتلال، واليوم حاق بهم الذّل ولحقتهم المهانة فتنادينا لنصرتهم؟
-ألم نسمع يومًا بالمقابر الجماعيّة وبتقتيل دولة صدّام لمواطينها بالأسلحة الكيمياويّة وبانتهاكها لأبسط حقوق الإنسان على كامل التّراب العراقي؟
-ألم نر إخوتنا العراقيين، وعلى مدى عقود، يتضورون جوعًا ويعانون الفاقة وهم أبناء ذلك البلد الغنيّ، ويهربون إلى كلّ أصقاع الأرض بحثًا عن الأمان وعن لقمة العيش، في الوقت الذي كان صدّام يكتب رواياته في قصوره المهيبة، ويعقد لنقادنا وأدبائنا النّداوات لشرح عبقريّة القائد الملهم والأديب الأريب؟
-ألا يستحي المثقّفون العرب من معاصمهم التي حملت ساعات صدّام الذّهبيّة والتي كانوا يتقبّلونها شاكرين، في الوقت الذي كان فيه شعب العراق يبيع ما تبقى من مقتنياته ليقتات منها، ويبيع شباب العراق كلاهم لمرضانا حتّى يسددوا المبالغ المطلوبة ليؤذن له بالهجرة من الجحيم؟
-هل تناسى أنصار صدّام حروب صدّام مع دول الجوار وتكاليفها البشريّة الباهضة من قتلى ومعاقين ومشرّدين، حتّى ينبروا للدّفاع عن فارسهم الزرقاوي ليزيد من حجم المقابر ويضخّم أعداد المقعدين؟
إنّ الإرهاب الذي يحصد أرواح عشرات العراقييّن كلّ يوم نقرّه نحن العرب، إن لم يكن ذلك بعين الرّضا والمباركة فبتواطؤ الصّامتين.
عندما كان صدام حسين يُعْمِلُ التّقتيل في الشّعب العراقي أغمضنا عيوننا حتّى لا نرى، وعندما أتى الزرقاوي ليكمل المذبحة فعلنا نفس الشيء، فلم تخرج مظاهرة واحدة في هذه الغابة المحروقة من الخليج إلى المحيط تدين هذه المذابح ولم يعقد مؤتمر لأيّ اتّحاد عربي حزبيّ أو نقابيّ يصدر بيانًا يندد
بالجريمة.
بل العكس كان الصّحيح، فقد تنادت نقابات المحامين العرب وتبرع للدّفاع عن صدّام عشرات الآلاف منهم، وانبرت الأقلام والألسنة تنكر ما نسب إليه من الجرائم، كلّ ذلك وإخواننا العراقيين الذي سامهم سوء العذاب ينظرون في وجوهنا مشدوهين لهذا الحقد الدّفين. إنّ العراقيين ما عادوا يستطيعون أن يتعرفوا علينا، نحن الذين نبعث لهم بالقتلة من أبنائنا ليحيلوا أجساد العراقيين المنهكة إلى أشلاء على أرصفة بغداد، نحن الذين نقيم سرادقات التّعازي لإرهابيينا الذين تلطّخت أيديهم بدماء العراقيين ونصرّح للقنوات الفضائيّة بافتخار إنّنا ذووا شهداء.

كيف يمكن لنا أن نتصالح مع عراق الغد؟
كيف يمكن لأطفالنا أن يتآخوا مع أطفال العراق الذين نفتخر بتيتيمهم؟
أيّ قوّة تستطيع أن تطمس من ذاكرة العراقي ما ألحقناه به من فواجع؟
قد نسمع جوقة عربيّة تقول إنّه الاحتلال ولا بدّ أن نهبّ كعرب لمقاومته في أراضي العراق، وقد يكون هذا التّبرير أكثر إيلامًا للعراقييّن من المذابح نفسها.. ألا يستطيع العراقيون أن يدحروا الاحتلال إذا أرادوا ذلك ووجدوا الوقت المناسب، هذا الشعب الذي يبلغ تعداد أكثر من 20 مليون نسمة ألا يستطيع أن يخوض معركة يحرّر بها أرضه إذا أراد؟
هل هذا الشعب محتاج إلى فلول أفغانستان المنهزمة لكي يتحرّر؟ أليست هذه إهانة لهذا الشعب العظيم؟
ستكون خسارة العرب بهذه المغامرة العراقيّة مزدوجة، الخسارة الأولى هي أنّنا تواطأنا مع القتلة وخسرنا العراق. والخسارة الثانية هي أنّ هذه الشراذم من القتلة ستخسر الحرب وستنقلب راجعة إلى مواطنها الأصليّة وسنكتوي بنيران حقدهم وجحيم إحباطهم وتنشأ ظاهرة إسلاميي العراق كما حصل مع ظاهرة العرب الأفغان.
أمّا العراق فسوف ينتصر على الإرهاب وسوف يحقّق أهدافه في الاستقلال والديمقراطيّة والعيش الكريم.
ويبقى سؤال كبير: كيف يمكن أن يتصالح العرب مع العراق؟ أم أنّنا نعيش مأتم القوميّة العربيّة؟