فكرة التماسك العائلي أو الأسري تعد من أبرز الوصايا التي تسود جسد الثقافة العائلية العربية والإسلامية بشكل عام، وذلك على صعيد الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية والدينية ا لتي تتغذى عليها مجتمعاتنا، ونادرا ما تخلو وصية أب لأولاده بالتماسك والتعاضد والتعاون والتكافل بعد موته، واضعا إياهم بين يدي مسؤولية أخروية قاسية، وفي الأدب الشعبي العربي الإسلامي نصادف مئات القصص والروايات عن هذه الفكرة الشعبية الدينية التقليدية ا لمهمة. والدين الإسلامي يوصي بضرورة التراحم والتزاور والتكافل بين أبناء البيت الواحد، كذلك التراث المسيحي واليهودي، حتى يكاد أن يكون ذلك مأثورا روحيا في كل الأديان.
فكرة التماسك العائلي مفخرة في المجتمع العربي الإسلامي كما هو معروف، وهي فكرة إيجابية بطبيعة الحال، تنطوي على الكثير من نقاط القوة والنشاط والحيوية...
ولكن هذه الفكرة في كثير من الأحيان بل غالبا، اتخذت مسارات مهينة بالكرامة البشرية، وأُدخِلتْ في سياقات مخزية، يندى لها الجبين، فتماسك العائلة الإقطاعية يعني تصاف كامل بين أبناء هذه العائلة على ممارسة العبودية، تعبيد الفلاح، وتسخير كل قواه لصالح عائلة أو عائلين من طغاة الأرض، والاستمرار بممارسة الاستحواذ على الطين الذي يُعْجَنْ ويُزْرَع بسواعد الفلاحين المقهورين، وتماسك العائلة البرجوازية كثيراً ما ينم عن تعاون وثيق باتجاه الاحتكار والاستغلال، والتفاهم على كيفية المزيد من استحلاب مستضعفي السوق والمال والقوة، وتماسك العائلة العسكرية كثيرا من يساق في تعاهد موروث على توطين موقع العائلة في صلب الجيش وقواه المسلحة بكل ما يصاحب ذلك من نفوذ واستكبار وزهو وتبختر ، وتماسك العائلة الدينية يُترْجَم بهذا التوارث الروحي للباس المعهود، والقدسية المألوفة في الوسط الديني، أبا عن جد، حتى يتخذ مسارات مكانية وحقوقية ثابتة لا تتغير، وتماسك العائلة السياسية يسري من خلال الاحتكار السياسي، ملوكيا أو جمهوريا أو حزبيا أو وزاريا، وكأنها قدر لازب لا مفر منه.
إن هذا التماسك ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، هو تماسك لا يدل على قيمة أي قيمة آخلاقية بطبيعة الحال، تماسك (عصبوي) إذا صح التعبير، يتكون ويتأسس تاريخيا، وعبر مصالح دنيا، تحتل فيه المصلحة موقع السبب والنتيجة، بل تحتل موقع العلة المحركة على وجه اللزوم المستمر. وتبرز العائلة الفقيرة المستهلكة في سياق هذه الصياغات ليختلط الأمر، ذلك أنها لا تملك شيئا يتحول إلى محور يستدعي نوعا من التماسك، حتى لو كان الدفاع عن حقها بالحياة، ولذا تتشرد هنا وهناك، تتوزعها الانتماءات السياسية والدينية، تتشرذم بين سعي لسد لقمة عيش حقيرة، وبين هروب من لعنة مجتمع تافه يحتقر الجيب الخالي، و المعدة الخاوية، وبين ضياع في غياهب السجون أو المخدرات والخمور والقمار ــ ومقامرة الفقير غير مقامرة الغني البرجوازي ــ.
لا نتكلم هنا بلغة المطلق، بل هي لغة على نحو الترجيح بطبيعة الحال، والمطلق آفة البحث والرأي والتصور في كثير من الأحيان، بل في أغلب الأحيان.
أن مشروع التماسك العائلي بالصيغ الماضية يقترن في كثير من الأحيان بالظلم، والاضطهاد، والتعصب، والأنانية، والتغلب بالقوة، والاعتداء، والتعسف، والكذب، والاحتيال، حيث تتحول العائلة إلى فخ اقتصادي قووي، مصلحي، ضيق تافه، محسوب بالأرقام المادية، محكوم بما يأتي ويروح من عائد من مال أو قوة أو جاه، ومثل هذا التماسك لا يرضي الله، ولا الدين الشفاف، ولا الفلسفة الإنسانية.
إن هذه الصيغ من التماسك العائلي تكشف عن صورة نفسية قبيحة سمجة، تكرَّس الشيطان في أخاديدها ونسماتها الخفية... تضاد الأخلاق بالمعنى الوجداني الشفاف.
فهل هناك فكرة أخرى ؟
هل هناك فلسفة أخرى ؟
أي تماسك عائلي نحتاجه اليوم ؟
نعم !
إننا ندعو إلى محور أخر في تصميم وتشييد فكرة التماسك العائلي، محور الخير، الخير العام، خير الإنسان والحياة والكون و القيم، نحتاج إلى عائلة متماسكة ليس من خلال وضع برنامج الإثراء الحرام، بل حتى الإثراء الحلال الذي يلتزم فقط بحدود القيم المحايدة، بل من خلال التجاذب مع الحق، الوقوف بوجه الظلم، الدفاع عن المستضعف....
إننا ندعو إلى محور جديد في تظهير فكرة التماسك العائلي، ليس من خلال التوافق بين الأبناء والآباء على تسريع وتيرة الإنتاج الاقتصادي على حساب كرامة عامل مستضعف أو فلاح مستهجن، بل من خلال التوافق على شحن وجدان هذا العامل بضرورة وعي الحق، المطالبة بحقه، بقوة وشجاعة وشرف، على تحفيز إرادة الفلاح بضرورة الثأر لكرامته فيما إذا بغى وغد أقطاعي صميم شرفه.
إننا ندعو إلى محور ثوري في تحقيق مشروع التماسك العائلي، ليس من خلال حلم مشترك بالبزة العسكرية والسيوف الذهبي، بل من خلال الإيمان بأن القوة يجب أن تنصر الحق، وتخلق العدل...
إننا ندعو إلى محور انقلابي في طرح هذا المفهوم الجميل، ليس من خلال وراثة الألقاب الدينية العالية المقدسة، بل من خلال تسخير الدين لخدمة الناس، كل الناس، بلا تمييز، بلا تفريق...
قال رسول الله محمد (أنصر أخاك ظالما أو مظلوما...)، ولكن لما سئل عن تفسير الشق الثاني باعتبار الانتصار للمظلوم أمر واضح جلي، بين رسول الرحمة أن ذلك يكون بكف يديه عن الأذى، وليس من شك أن الظلم هنا لا ينصرف للظلم البدني كما يحلو للبعض تصوره، بل للظلم بكل معانيه، البدني والروحي، السياسي و الاقتصادي...
هنا نكتشف معنى التماسك العائلي في حس رسول الله، في ضميره الحي، في روحه الشفافة، في أخلاقه الرائعة، تماسك روحي، وليس تماسك مادي، تماسك قائم على الحب، على المثل، على المبادئ، على الفكر، على الحق، على القيم التي بشرت به الشرائع السماوية الكريمة، و الفلسفات الإنسانية ا للطيفة.
يقول تعالى في القران الكريم (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان...)، فإننا نستطيع أن نشتق من هذه الآية الكريمة مفهوم نير للتماسك العائلي، باعتبار أن النداء موجه للمجتمع كله، والأسرة نوا ة المجتمع، حيث يترشح توجيه قرآني رائع مفاده أ ن على العائلة أن تتماسك عبر مثل، عبر قيم، مثل تتصل بالروح الشفافة، وقيم تتصل بالحياة الخلاقة.
أن الدعوة إلى التماسك العائلي دعوة سائرة في أدبياتنا، في فكرنا ، في شعرنا، وفي نثرنا، في بيوتنا وفي مساجدنا، وفيما قمنا بعملية تفكيك دقيق لهذه الدعوات، لرأينا أكثرها ينطلق من تقديرات مادية سالفة، ومن منطلقات تملك أو سيطرة أو مواجهة أو حصانة وليس من قيم بعيدة الغور في بناء مجتمع حر، قوي، مستقل، يحترم الكرامة ويدافع عن الحقيقة.
اليائس غالب حسن الشابندر
التعليقات