كشفت الأجهزة الأمنية في الأشهر القليلة الماضية عن عوالم سفلية تسكن قاع المدن السعودية كلها، بل تجاوزتها إلى القرى والبوادي. ولم يكن أحد يتصور أن هذا المجتمع الذي يبدو ساكنا في ظاهره محافظا في سلوكه ملتزما إلى أقصى حدود الالتزام بالمظاهر الإسلامية يخفي هذه العوالم التي بلغت حدودا قصوى من الإجرام والرذيلة.
ومن اللافت أن هذه العوالم الخفية تسكنها أعداد ضخمة من العمالة غير الماهرة التي جلبها بعضنا لحاجة، وجلبها آخرون للتكسب من ورائها. وكان الانطباع العام أن هذه العمالة ربما تسيئ إلى الوطن من خلال الفساد المادي؛ لكن لم يكن أحد يتصور أن تبلغ هذه الإساءة تلك المستويات الخلقية المتدنية.
والأكثر غرابة أن يحدث مثل هذا الاستشراء لهذه الأوجه من الفساد في بلد يفاخر بوجود جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو خلاف ما نتوقع من أن تكون المملكة من أقل البلدان عرضة لمثل هذه الفواحش.
ومما يشير إلى غفلة الأجهزة الأمنية وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن هذه المجاهل أنه مضى زمن طويل على وجودها حتى تنبه إليها بعض الصحفيين النابهين الذين غامروا بحياتهم ليدخلوا تلك العوالم ويتقصوا ما يدور فيها ويكشفوها للمواطنين وللأجهزة الحكومية. وهذا ما نبه هذه الأجهزة التي أخذت على عاتقها كشف هذه العوالم السفلية وتنظيف المدن والقرى والبوادي من مظاهر الرذيلة والخروج على الأنظمة.
وتقع المسؤولية عن هذه الظاهرة على عدد من الجهات الحكومية؛ ومنها الجهات الموكلة بالاستقدام، ووزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة العمل، والأجهزة الأمنية، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن غير أن أقلل من مسؤولية أية جهة حكومية فسوف أقصر حديثي هنا على مسؤولية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ذلك أن هذه المظاهر الخطرة لم تكن لتوجد لو قامت هذه الهيئة بواجبها في مراقبة هذه المظاهر التي تعد من أوضح وظائفها؛ إذ إن أكثر المشكلات التي كشفت الأجهزة عنها تتعلق بقضايا أخلاقية، وهو ما نذرت هذه الهيئة نفسها لمراقبته إلى أدق تفاصيله.
ويبدو واضحا أن سبب تقصير الهيئة يعود في جزء كبير منه إلى أنها، ومنذ عقود، حصرت اهتمامها في عدد من القضايا البسيطة التي اختلف فيها المسلمون منذ قرون بعيدة؛ ومنها، مثلا، غطاء المرأة وجهها والنداء إلى الصلاة وإلزام الناس بإغلاق المحال التجارية أوقات الصلوات، ومنها، وهي خصوصية سعودية بامتياز، إلزام المرأة بوضع عباءتها على الرأس بدلا من الكتفين، ومراقبة فصل الرجال عن النساء في بعض الأماكن العامة، ومطاردة الشباب ومنعهم عن الدخول إلى الأماكن التي خصصتها الهيئة للأسر، وما شابه ذلك.
وقل أن تجد مواطنا سعوديا لم يتعرض لبعض المشكلات مع الهيئة بخصوص مثل هذه الصغائر التي رُفعت إلى مصاف الكبائر في عُرفها. ومن الشواهد الأخيرة على استغراق الهيئة في هذه الأمور التي ربما لا ينظر الناس جميعا إليها على أنها أساسية ما كتبتْه الأستاذة نورة المسلم في جريدة الجزيرة (12/5/1426هـ) عن المعاملة القاسية التي تتعرض لها النساء من بعض العاملين في الهيئة في الحرم المكي الشريف.
ومن أطرف ما ذكرتْه الأستاذة نورة أن الهيئة كانت تعامل السعوديات في الحرم المكي الشريف بشكل يختلف عن معاملتها لغير السعوديات! وربما كان هذا هو السبب الرئيس في استغراق الهيئة، في ذلك المكان وفي غيره، في محاولة إلزام السعوديات بأنواع من اللباس الذي لا تتطلبه في غيرهن. وهي نظرة تقوم على نظرة أخرى أعمق مؤداها أن للسعوديين خصوصية تميزهم عن غيرهم من المسلمين، ولهذه الظاهرة شواهد كثيرة جدا في الخطاب الديني لدينا. وكذلك ما كتبتْه الأستاذة سحر الرملاوي عن معاملة الهيئة للنساء في المسجد النبوي الشريف (جريدة الرياض، 14 / 5/1426هـ).
وكثيرا ما يعتذر عن تقصير الهيئة بحجج غير مقنعة. وهي حجج دأب المسؤولون عنها على ترديدها منذ زمن طويل. ومنها ما ورد في مقابلة مع الرئيس العام الأسبق للهيئة الشيخ عبد العزيز السعيد (الحياة، 27/ 4/1426هـ).
يقول الشيخ السعيد: ". . . عندما تسلمت العمل وجدت أكثر العاملين في الهيئة على المراتب 31 و 32 و 33 وكانوا بلا تأهيل علمي وشرعي جيد وكان بعض المسؤولين يفضلون تعيين من لا يملك علما لأجل ألا يناقش ولا يفكر بل ينفذ المطلوب فقط. . .". ويعني هذا أن بعض منسوبي هذا الجهاز المهم ليسوا مؤهلين علميا ولا شرعيا. وربما كان هذا هو السبب في ما يشتكي منه كثير من المواطنين منذ سنين من غير أن يأبه أحد بشكواهم.
ويستمر الشيخ السعيد في وصف الحال التي كانت عليها الهيئة حينذاك قائلا إنه فشل ". . . في إقناع البعض بأن معظم التجاوزات التي يتهم بها أفراد الهيئات ليست من قبلهم بل من قبل بعض المتطوعين المتحمسين الذين ليست للهيئة سلطة عليهم. وكانت أيديهم مطلقة. وهذا ليس معناه أن أفراد الهيئة معصومون".
ويصف معاناته أثناء عمله قائلا: ". . . وجدت بعض التجاوزات التي لا تستند إلى نص شرعي فعملت على تلافيها ووجدت ممانعة من بعض الناس لأنهم منذ زمن وهم على ذلك ولم يلاحظ عليهم شيء، وأسوأ شيء أنه قد تتم تجاوزات باسم الدين والدين منها براء! وحاولت إقناع بعض رجال الهيئة بأن يكون ديدنهم السماحة واللطف وعدم الغلظة. ولكن حماسة بعضهم وعدم تهيئته العلمية الصحيحة يؤديان دورا بارزا في بعض التجاوزات من جانبهم".
وتبلغ تصريحات الشيخ السعيد حدا عاليا من الشجاعة لا يجرؤ على مثله أكثر المواطنين. ذلك أن نقد الهيئة صار في مصاف الذنوب الكبيرة؛ بل وصل الأمر بأحد المتطرفين إلى القول في أحد المواقع الإنترنتية المتطرفة بأن "من تكلم في الهيئة فاتهمه على الإسلام". أي أن من ينتقدها لا بد أن يكون مدخولا في دينه.
ولنا أن نسأل، بعد مرور ما يقرب من عشرين سنة على وضع الهيئة الذي وصفه الشيخ السعيد عند توليه رئاسة هذا الجهاز: هل تغير وضعها الآن، خاصة بعد الإصلاحات التي أشار الشيخ السعيد إلى أنه أجراها؟
ويكمن جواب هذا السؤال في الخبر الذي أوردته جريدة الحياة على صفحتها الأولى في 5 /5/ 1426هـ بعنوان "مداخلات ساخنة في الشورى حول عمل هيئة الأمر بالمعروف".
يقول الخبر: "انتقد تقرير للجنة الشؤون الإسلامية وحقوق الإنسان في مجلس الشورى السعودي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعدم وجود خطة تشغيلية . . . تسير عليها وتعمل على تحقيقها. . . وهو الأمر الذي يتعذر معه إعداد تقاريرها السنوية. . . . ولاحظ. . . ضعفَ الإمكانات البشرية ونقص التشكيل الوظيفي المؤهل، إضافة إلى تدني في مستوى مراتب وظائف الهيئة الميدانية . . . وهذه المراتب المتدنية لا يلتحق بها إلا ذوو المؤهلات الدنيا الكفاءة والثانوية، إضافة إلى صغر أعمارهم ما يؤدي إلى تدني مستوى الأداء"، وأشار التقرير إلى عدد من المآخذ الإدارية التي لا تساعد الهيئة على ". . . تولي الإشراف على إجراء البحوث والدراسات للقضايا الخطيرة التي يكثر وقوعها لمعرفة أخطارها على المجتمع وكيفية التغلب عليها".
ويعني هذا أن الهيئة على حالها الآن لا تزال في وضع قريب من الوضع الذي وصفه الشيخ السعيد: فكثير من المنتسبين إليها ليسوا مؤهلين تأهيلا كافيا يجعلهم قادرين على التعامل مع كثير من الأمور التي تدخل في اختصاصها.
ومن هنا فالأسباب التي أدت إلى عدم تعامل الهيئة مع الجرائم التي كشفت عنها أجهزة الأمن في الأشهر الماضية تتلخص في أنها تصرف جل اهتمامها إلى صغائر الأمور، وتعود إلى المستوى العلمي والشرعي غير الكافي عند كثير من المنتسبين إليها، وإلى ضعف إمكاناتها التي لم تستطع، على الرغم من مضي عشرات السنين على تأسيسها، أن تتجاوزها، وإلى فتحها الباب لانضمام بعض المتحمسين من المتطوعين غير المؤهلين إليها، وهم الذين يتسببون في تشويه سمعتها، كما يقول المسؤولون عنها.
وتتضافر هذه الأسباب جميعا لينتج عنها الحدُّ من قدرة الهيئة على القيام بالواجبات التي يجب أن تقوم بها، وهو ما يجعلها تركز جل نشاطاتها على التعاطي مع الأمور البسيطة التي حددتها لها الاختيارات الفقهية المحلية المتشددة.
ومما يبشر بخير إنشاءُ معهد لتدريب من يريدون الالتحاق بهذا الجهاز المهم. ومما يجعل هذا المعهد واعدا أنه سيكون في المدينة المنورة، وربما يكون ذلك سببا رئيسا في إكساب هؤلاء المتدربين شيئا من دماثة أخلاق أهل المدينة التي اشتهروا بها في ذلك الجوار الكريم.
التعليقات