الرسالة الأولى

كنت مشغولا في تبويب وتصنيف ملحمة نصية من عشرة فصول بعنوان ( ملحمة الجسد البشري ) بنية إرسالها إلى زوجتي العزيزة ( إيلاف ) ألتي طالما تخيلتها عارية في سرير الفضائح السري، ولكن هزني ذلك الحدث الجلل، تفجيرات لندن، لندن التي أحبها وأعشقها كما أحب الحب وأعشق العشق، فتصلب القلم، وجمدت دماء في أعلى نقطة من دماغي المتعب أصلا، فتعطل الخير، خير الجسد، ونامت كلماتي تفتش عن تابوت اليأس، لتعلن توبة مهزومة.
عزمت أن أكتب عن تفجيرات لندن، وهالني ما سمعته من بعض الناس، وهم يقولون لي، ولكن العراق أهم، و العراق أولى، ولكن لست ممن يؤمن بأولويات في مثل هذه القضايا، فهي عندي كالكائن البشري، كل متكامل، وأي أولية لقيمة على أخرى في سلم القيم، سوف يقود إلى تشضية هذا الإنسان، وتمزيقه، وتحريفه، وتحريقه، وبعثرة وجوده....
هل ما وقع في لندن منفصل عما يقع في العراق؟
هل ما وقع في العراق ويقع منفصل عما يقع في السعودية؟
هل ما يجري في السعودية منفصل عما يجري في لبنان؟
تلك هي من مشاكلنا الكبيرة، أن نختصر العالم في ما يجري هنا وهناك، فيما هو عالم تواصلت أجزاؤه، وترافدت مشاكله، وتعانقت مخاطره...
بالنسبة لي شخصيا لا أؤمن بتجزئة العالم على هذا الصعيد، ولا يمكن النظر لما جرى في عاصمة الوله الجسدي المثير بمعزل عن حصيلة الكون كله، حصيلة التاريخ، والجغرافية، و الفكر، والاقتصاد، والسياسة، والفن، والرياضيات، والفلسفة، والشعر، والعهر، والظلم...
من هنا، ومن هنا بالذات أعتقد أن هذه الموجة من الإرهاب الرهيب سوف تستمر، إذا لم يعمل مفكرو العالم، وفلاسفته، ورجال دينه، وعلماء اقتصاده، ومنظرو سياسته، ومبدعو فنه، ومثيرو جسده، ومحفزو غضبه... كلهم... كلهم....
نعم!
سوف يبق الإرهاب مخيفا، جاثما على صدورنا، يلاحق أنفاسنا إذا لم نعمل كلنا على مواجهته، على ردمه، على علاجه، على مقاومته...
لا أريد أن أدخل في مساومات، ولست من الذين يستغلون الفرص للتهيج ضد دين أو مذهب أو فلسفة أو دولة أو حزب، وكان السيد رئيس الوزراء البريطاني دقيقا، حاذقا لما أعطى نظرة شبه شمولية أو قريبة من الواقعية في تعليل أو تفسير هذه الظاهرة المدمر ة.
يتنادى المصلحون اليوم من المسلمين والمسحيين إلى عقد مؤتمرات تعالج الإرهاب، وتعمل على مواجهته، وهي مؤتمرات تتسم بالخطابية في تصوري، وحتى إذا طرحت حلول جميلة فأن مملكة التطبيق تبقى فقيرة جدبة تندب حظها من القحط كما هو أكثر الأحيان..
ويتنادى السياسيون اليوم في أوربا إلى شد الوثاق على دعاة الإرهاب، وحملة فكره، ومروجي نغمته، ولكن لم نحصد ما يُطمئِن القلب، ولم نلمس ما يواسي مشاعرنا القلقة، وهل تكفي الإجراءات البوليسية، والعدسات المنصوبة على ميترو لندن الملهمة قلعَ ثقافةٍ غُرِست في الدماء، ومن وراءها ألف غارس، من الطب إلى الانثروبولجيا، من التاريخ إلى السيياسة، من حرب الأفيون إلى حروب الشرق الأوسط اليوم؟
يتنادى فلاسفة المنطق التواصلي اليوم إلى مناهضة الإرهاب بإنشاء منطق فكري جديد، يقوم على أحلال العقل التواصلي محل العقل الآداتي الذي دمر الكون، وسجل أبشع جريمة بحق النسيج البشري، ولكن هل تكفي صراخات ذلك الفيلسوف المحبوب، الفيلسوف الطيب ( هابر ماس ) ليحل منطق التواصل عالم اليوم؟
يتنادى اليوم كتاب الكلمة الحرة أن يجندوا كل طاقاتهم لفضح الإرهاب، تشريح جسد الإرهاب، تشخيص الأسباب، توضيح العوامل المساعدة، بيان العلاج، ولكن هل هناك من يسمع؟ وهل الكلمة لا تحتاج إلى فضاء، فضاء يحسن الاستماع؟
يتنادى اليوم حملة الفكر السياسي بضرورة القضاء على هذه الظاهرة المخيفة بنشر الديمقراطية ونشر الحرية في العالم، توسيع هامش الكلمة الحرة، توسيع ساحة المشاركة السياسية، خلق علاقة جديدة بين الحاكم و المحكوم، نشر ثقافة الحقوق... ولكن هل هناك ديمقراطية بلا عدالة؟ وهل الديمقراطية المجردة تكفي يا ناس؟ وهل الحرية ليست مشروطة بمستوى عيش كريم؟
يتنادى اليوم فنانون كبار، يحفرون في الصخر، في الخشب، في النار، في روح الخلق، يتنادون بلوحاتهم الملهمة، بلوحاتهم التكعيبية، المجردة، المحلِّقة... يتنادون بكلمة سرية، تختفي وراء تلك الكثافة اللونية، وراء تلك الهلامية اللونية، وراء تلك الموازنات بين الفراغ والطين، بين الخفي والظاهر، بين اليد والمادة، بين الضمير والحس، بين الله والخلق... كلمة واحدة لا غير... احترموا الناس... احترموا الإنسان... ولكن هل ينفذ مثل هذا النداء إلى قلب صخري، إلى ضمير مشبع بوهم خلاصي، طهوري، ممهور عليه بوهم غيبي لا يمت للوعي أبدا... غيب مرفوض عند رب الغيب سبحانه وتعالى.
يتنادى اليوم فنانون، كتاب رواية من الطراز الرفيع، يتنادون عبر سطورهم الروائية المتغلغلة في أعماق طفل مشرد على نهر السين، وشاب أسود مختبئ في زاوية من زوايا نيويورك المدهشة، وشابة تتعاطى فخذيها على أرصفة بغداد من لعنة الجوع، وصبي يحمل سرا تحت أبطيه حقيقة الحشيش في تكايا طنجة... يتنادون بحنجرة مبحوحة... هل من نهاية لهذا الإرهاب الرهيب؟
يتنادى علماء الأناسة الجدد، يتنادون، هناك حضارات وليس حضارة واحدة، هناك ثقافات وليس ثقافة واحدة، شتر اوس يصرخ، يصيح، يحفر داخل روحه، ليثبت أن الحياة أوسع وأغنى من عقل واحد، وأن التاريخ تواريخ وليس تاريخا واحدا...
وتلك هي أجساد الروائع، أجساد سينما القرن الواحد والعشرين، أجساد مطلية بشهقة القهوة العربية واليونانية والأمريكية... تتلظى بموجة حر شديد، فتزداد لهبا في روحي، وتشتعل في حواسي أغنية لقاء جديد، مع جسد جديد، لكي نعلن أن الأجساد مخلوقة للقاء، للأنفاس الدافئة، المترعة بدفق الخلود، لا للحرق، لا للتشضية، لا لزرع المسامير في الأفخاذ، في الأعناق، ولكن غدا سوف تجدونا على قارعة الطريق، والمسامير نابتة في روحي وروحها...
رباه... رباه... ربا ه...
ما هو الحل؟
أين الحل؟
سياسيون، مفكرون، علماء دين، اقتصاديون، انثروبولجيون، عسكريون، صحافيون، أطباء، مهندسون، محامون، شعراء، نحاتون...
أين هو الحل...
وأخيرا...
سيدي أنطوني بلير...
أين الحل؟
اليائس غالب حسن الشابندر