ما المقصود بجيل وطبان الحسن؟!
إن ما فعله صدام حسين بالعراق، لا يقتصر على قتل البشر الفردي والجماعي الذي فاق التصور والخيال، ولا على هذا الخراب المادي والبيئي الذي سيستهلك عقوداً وأجيالاً لإصلاحه، بل الأكثر من ذلك هو التخريب النفسي والشعوري والثقافي، الذي خلق شخصيات مهزوزة تشعر بالتهديد الدائم حتى لو لم يكن هناك من يهددها، أو أنها تحسب بأن مجرد وجود الآخر هو تهديد لوجودها. لذلك فهي شخصيات سادومازوشية على حد تعبير إرك فروم، تنتظر استقبال القمع بلذة وتنتظر بعدوانية مسبقة لحظة تصديره إلى ضحايا مشخصين أو تأتي بهم الصدف كيفما اتفق!! ولذلك تجد الكثير من المشاكل والنزاعات في الوسط السياسي والإعلامي والثقافي لا أسباب أو مبررات واقعية لها!! لكن هذا ليس كل شيء. هناك مقلب ثقافي كبير خلقه صدام حسين واستقبله أفراد الوسط المهيأ نفسياً وشعورياً وتلبستهم الحالة دون أن يحسوا بذلك!! هذا المقلب يتمثل بما درج عليه صدام حسين من جلب المزيد من الشخصيات الدونية والسختجية وتحويلهم إلى وزراء أو محافظين ليتم توريط المجتمع بهم وتوريطهم بالمجتمع!! وكان وطبان الحسن رمزاً لتلك (الشخصيات) التي دخلت تاريخ العراق على سن ورمح. شخصيات من هذا النوع لم يكن بوسعها أن تدخل الوزارات والمراتب العليا في الدولة ما لم تتقن (ثقافة أمرك سيدي) أمام الرئيس لتعممها على المرؤوسين وعلى المواطنين المغلوبين على أمرهم عموماً. هذا جانب من المقلب، أما الجانب الآخر الأكثر خطورة هو ما تتركه هذه السياسة من مضاعفات على نسبة ملحوظة من المواطنين، وخاصة تلك الفئات المتعلمة والطموحة، حيث يسقط في لا وعيها نوع من استسهال الأمور. فإذا كان بإمكان وطبان أن يكون وزيراً للداخلية فلماذا لا يكون بوسعي أن أكون ما أريد، كأن أكون تاجراً كبيراً أو شاعراً عظيماً أو مفكراً أو بطلا قومياً؟! وهكذا تكون جيل وطبان الحسن، حسب (الطموح) والتنازلات المطلوبة لتحقيقه وليس حسب المؤهلات أو الكفاءة، لأنه لم يعد لمثل هذه المواصفات والشروط أية أهمية في ثقافة صدام حسين.
هذا المقلب الخطير تحول إلى ثقافة شبه عامة. فهذه الشخصيات بقدر ما تحمل في داخلها طموحات أكبر من مؤهلاتها تحولها إلى شخصية عنجهية أو عدوانية أو مشاكسة لا تعرف الاستقرار. فهي تحمل أيضاً انكساراً داخلياً يتمثل في ثقافة العبودية التي رسخت في داخلها : ثقافة وطبان الحسن، ثقافة أمرك سيدي!! فهي لا تستطيع العيش بدون سيد تمجده وتقدسه لتمارس عبوديتها في ظلاله، إلى جانب غريزتها العدوانية في البحث عن ضحية. وهكذا تكتمل العقدة من الجانبين.
لذلك تجد أناساً لا يستطيعون الاستقرار بدون مشاكل!! حتى لو اقتضى ذلك أن يزجوا أنفسهم في قضايا لا علاقة مباشرة لهم بـها!! إلا بقدر ما يحرك عقدتي الدونية والعدوانية معاً.
كمتابع للثقافة العراقية، كنت أتوقع أن جيلي الثمانينات (وهو ما ينطبق على جيل التسعينات أيضاً) سيكون جيلاً ثقافياً وليس شعرياً، بمعنى أن المأساة القائمة والشعور بالمسؤولية والطموح المشروع لتحسين الوضع الذاتي، ستدفعه إلى المعرفة وفروعها الكثيرة، وواقعياً الحياة العراقية بحاجة إلى المعرفة في شتى الفروع، خاصة بعد التطورات الأخيرة وما سيجلبه سوق العمل من حاجات واسعة لمثل تلك الفروع.
لكن ما حدث ومنذ فترة ما بعد حرب الكويت، هو أننا وجدنا أنفسنا أمام دفعات متتالية من الشعراء، وكأن سبب الأزمة في العراق هي نقص في عدد الشعراء!! شعراء في مقتبل العمر لكنهم مزدحمون بالمشاحنات والمناكدات فيما بينهم، ورغم وجود عدد من الموهوبين والمتمتعين بشيء معقول من الثقافة، إلا أن الأوهام المتوارثة عند الشعراء العرب تاريخياً هي الطاغية على الأغلبية. والسبب الأساسي هو أن الدولة في ظل الأنظمة الشمولية تصبح رب العمل الرئيسي وبالتالي فالدولة وليست مؤهلات المواطن هي التي تقرر مصيره، وعموماً فهي تلغي رغبة التفكير والاجتهاد عند المواطنين بحكم أبويتها، فالرئيس القائد هو مصدر الفكر والإلهام، وهو الموجه لكل الاختصاصات والفروع بدء من الصحافة مروراً بالاقتصاد وليس انتهاءً بالهندسة المعمارية!! لكن السبب الأخر هو وجود عدد ملحوظ من المصابين بعقدة وطبان الحسن بينهم، وعلى طريقة : لا تربط الجرباء حول صحيحة، خوفاً على تلك الصحيحة تجرب. والأمثال تضرب ولا تقاس. وجدنا العديد من الموهوبين ينخرطون في أجواء المشاحنات والأحقاد على حساب الفرص المتاحة لتطوير أنفسهم وإمكانياتهم المعرفية، في حين أن الكثيرين منهم مؤهلون للعب دور ضروري ومطلوب لتجديد الثقافة العراقية وتغيير وجهاتها ناحية المعرفة العلمية وآفاقها الواسعة، بعيداً عن لوثة الشعر وأوهامه الكثيرة. هذا لا يعني أن يتخلى الشاعر عن الشعر، لكن ليس على الشعر وحده تحيا الثقافة العراقية. وحتى إذا أراد المرء أن يبقى في دائرة الأدب والفن، فهناك آفاق السينما والمسرح والسيناريو ، هناك علم التاريخ والاجتماع والأنتربولوجيا .. وآفاقها الواسعة، ناهيك عن العلوم الإنسانية الأخرى، وكل هذا سيوسع من أفق الشاعر ويغني خياله إذا كان شاعراً حقاً، أما إذا كان شاعراً موهوماً فهو سيجد بديلاً مقنعاً ومفيدا بدل أن يظل غارقاً بالأوهام وما تجلبه من وساوس وأحقاد لم يعد بالإمكان إخفاء رائحتها!!
إن العراق الحالي والمستقبلي هو في أمس الحاجة إلى طاقات المثقفين وخاصة الشباب، ولن يكون بوسعهم المشاركة في الإمساك بزمام المبادرة، إلا عن طريق الكفاءات المعرفية والاختصاصات العملية، وليس عن طريق شتم السياسيين أو سحق الذات بأوهام العظمة الفارغة والوساوس والعدوات التي لا طعم لها ولا فائدة من ورائها. فالحقبة الجديدة ينبغي أن تخلق توجهات ثقافية مختلفة بغض النظر عن الظروف الاستثنائية القائمة الآن. وإذا كان لا بد من سؤال آخر فهو : لناحية الأجواء التي خلقت عقدة وطبان الحسن، هل اختلف الأمر كثيراً عما كان عليه أيام النظام السابق؟ الجواب هو كلا أو بالعكس، ففي ظل الفساد الإداري والمحسوبية والحزبية، فإن العقدة تحولت إلى حالة بل جدار سميك يحول بين أصحاب الكفاءات والمواهب وبين حقهم المشروع في العمل وتحمل المسؤوليات!! والسؤال المتفرع هو : إذا كان المثقفون والمتعلمون لا يفضحون هذه الحالة ويقاومونـها، فمن سينقذ العراق من هذا الوباء المستشري إذن؟!