أنا من جيل عاش أكثر من ثلثي سنوات عمره في عهد خادم الحرمين الشريفين، ألفنا محياه البشوش، وأحاديثه العذبة، وأخبار منجزاته الكبيرة، وعشقنا كلمة كان يرددها كثيراً في أحاديثه كلما أسند مايرفل به من نعم ويتناوحه من توفيق إلى بارئه (رب العزة والجلال)، لهذا لم يكن مستغرباً أن يختار خادم الحرمين لقباً له بدلاً من صاحب الجلالة، وكانت أبهة الملك التي تلوح على سيماه، ونضارته تذكرك بقصص أولئك الملوك الكبار عبر التاريخ، وحينما ألمت به عوارض المرض، وألزمتْهُ الكرسي المتحرك كنا نرى أمامنا ملكاً عظيماً، وأباً كبيراً، وباني نهضة في وضع لم نعتده من قبل فاستحالت هيبته محبة وخشيته انكساراً لأجله، ودعواتٍ تنبع من القلب له بالصحة، ومضى بعد فترة من الابتلاء بالنفس ضمنت له حبَ الأعداء، وتمنياتهم له بالخاتمة الحسنى.
لكل الشعوب أساطير وحكايا ترويها الجدات للأحفاد، ولها أبطالها وعظماؤها الذين تتناقل الأجيال قصصهم، تلهم قرائحَهم وتشحذ هممهم وتمنحهم الزَّهو حينما ينهالون بسردها أمام أبناء شعوب ومجتمعات أخرى، وإذا كان للرومان واليونان والصينيين والهنود والفرس وللعرب والمسلمين الأوائل نصيب من هذا، فإن قصة هذا البلد (المملكة العربية السعودية)، حيث وُلد من غياهب نسيان التاريخ، بين مد وجزر وارتكاسات وانتصارات ساحقة ونفوذ يمتد وينحسر حتى أصبح اليوم مانحن عليه، هي أسطورتنا التي نحكيها لأبنائنا وترويها صبايانا اليوم لأسباطنا غداً، فما من أحد أكثر منةً علينا نحن السعوديين وأبناء نجد بعد محمد النبي العربي الأمي عليه الصلاة والسلام، كما كان لمحمد بن عبدالوهاب بفلسفته، وعبدالعزيز بن عبدالرحمن الموحد الحقيقي، لقد كان لهذين الاثنين من الأثر فينا ما كان لمارتن لوثر موحد ألمانيا، الذي كانت حركته الإصلاحية في القرن السادس عشر هي الأيديولوجيا التي استبطنتها حركةُ التوحيد، والاستقلال عن سلطة البابوات في روما، ومشابهاً لما كان للمؤسسين الأوائل للولايات المتحدة الأمريكية، كان عبدالعزيز في وقته لايقل عن زعماء عالميين كنهرو وغاندي، وما من عظيم من عظماء الأمم السالف ذكرهم، إلا وله سيئاته التي جاورت عبقرية حسناته، وصوابه الطامس تبعات أخطائه ونزواته الجامحة على فضائله، لأنهم باختصار ليسوا إلا بشراً، ولكننا نعلم أنه ليس كل البشر ولا بعض منهم مهيئين للنهوض بتلك المهام التي ينتدب لها التاريخ في لحظات نادرة وحالكة أشخاصاً ذوي مواصفات خاصة، ولأنهم استثنائيون في جوهرهم الباطن لايجود بهم التاريخ إلا نادراً، فهم استثنائيون حتى في مظهرهم: إما عملاقاً شامخاً كأكثر الرجال طولاً في جزيرة العرب كما كان عبد العزيز، أو قصاراً مفرطي القصر كنابليون، ولأنهم مؤسسون وخالقوا كيانات، وعباقرة بالسليقة فقد كان لهم من القرارات ماحير أتباعهم وجنودهم الأوفياء المخلصين، وكان لهم أيضاً أخطاؤهم ، التي نفهمها اليوم كتجسد لروح التاريخ الذي يضع لبنة هنا حيث يقوض أخرى هناك، إنهم يد الله والمختارون من المخلَصِيْن، ومع أن شعوبهم والأجيال المتعاقبة بعدهم تقرأ تاريخهم مكشوفاً بكل ماحواه، لكنها لم تسمح لأحد أن يمس حرمتهم أو أن ينال من مقامهم أو يتطاول على قامتهم، لأن حكماء البشر يؤمنون بأن حاجتنا إلى القصص: إلى أبطال ملهِمين هو أمر أشبه بحاجتنا إلى الخبز، وحينما يتطاول أقزام من الأعداء أو حمقى من الأبناء الضالين على تلك الأساطير، يحدث ذلك جرحاً عميقاً في الكرامة القومية، يحتاج إلى من يثأر له ، لهذا تعْمد بعض البلدان إلى محاكمة من يتنقصون قادتها وزعماءها التاريخيين.
وإذا كنت أؤمن إيماناً عميقاً أن الحكمة الإلهية تقتضي أحياناً أن تكون منحتها للإنسانية التائهة المعذبة رحمة متجسدة بأنبياء كعيسى، وحناناً من لدنها على شعوب مستعبدة كموسى ، أوجامعاً أشتات أمة، ومؤلفاً لقلوبها ومنتظماً أشلاءها المتحاربة المتطاحنة رافعاً لمستوى عزتها بين الأمم كمحمد صلى الله عليه السلام، وفي حديث ربعي بن عامر لرستم قائد الجيوش الفارسية ما يكشف بجلاء أي أثر نفسي واجتماعي لرسالته في نفوس العرب مسلميهم ووثنييهم ومسيحييهم ، ولربما تجسدت المنح الإلهية قادة تكون مهامهم انتشالاً لمجتمع من الضياع والفرقة والعيلة والفقر.لقد كنا فقراء نتلقى الصدقات والمنن من الجيران فأصبحنا أغنياء، أذلةً فغدونا أعزة، مهملين فغدونا محط اهتمام العالم، جهلةً فأصبح من أبنائنا علماء في مجالات عدة.
لقد كان أولئك الرجال الذين يحيطون بصقر الجزيرة يخاطبونه بفطريتهم باسمه الأول أوبكنيته المحببة إليه، ويفصحون عما يجيش في نفوسهم، بكل جرأة وأدب وحب وتقدير.علينا نحن السعوديين أن لانكون مغفلين حينما يطل علينا أولئك الذين تلطخوا بنفاق العجم وعبادتهم لملوكهم، وافتضحوا بذلتهم أمام رؤسائهم في وظائفهم فضلاً عن سياسييهم، ليعطونا دروساً في احترام الذات أو في النزاهة وهم الذين يبيعون ذممهم لأجهزة المخابرات، أو يواجهوننا بأحداث تاريخية تكشف كم كان أسلافنا بشراً ولم يكونوا آلهة، أدركوا توازنات المرحلة ووظفوا كل ماتفتقت عنه قرائحهم للسير في حقول من الألغام وإزالة حواجز اجتماعية ودينية وسياسية لكي ننعم اليوم بما نحن عليه.
أيعيب علينا أولئك أنْ كان عظماؤنا سياسيين بامتياز في مصاف قادة التاريخ؟!
يحدثني صديق مطلع على تاريخ منطقة القصيم في أوائل مرحلة التأسيس كيف أن أحد زعماء منطقة القصيم أحد رجالات الموحد، ارتحل إلى الكويت مغاضباً إثر معارضته لقرار اتخذه الملك، حيث سنحت له الفرصة ليقرأ التاريخ ويطالع الصحف، ولم يمض عليه سنة حتى عاد أدراجه إلى بريدة مبدياً للمقربين أن البلد أصبح آمناً موحداً مستقراً، ولا مجال فيه للمغامرين.
إن تلك الكلمة التي أطلقها عبدالعزيز حينما قال بوضوح : أنا ملك ولست خليفة ولا إماماً، تشرح كم كان مدركاً مآلات التشبث بأوصاف تقتضي استحقاقات تضع الكيان ومؤسسه في مهب الريح، لم يكن مغامراً ولم يكن متهوراً، كان بانياً ومؤسسا،ً لهذا قال كلمته لعبدالعزيز ابن رشيد حينما دعاه للمبارزة : (أنت ميت وأنا حي) أنت يائس وتريد المجد بالموت، والموت مجد اليائسين، وأنا حي أريد إحياء أمة.
بالأمس تلقينا نحن السعوديين بحزن نبأ وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله، كنت ابن عشر سنوات واقفاً على حافة الرصيف حينما زار الملك خالد بن عبدالعزيز ومعه إخوته الأمراء الشيخ صالح الخريصي رئيس محاكم القصيم سابقاً، وحينما مر موكبه لمحته ولمحت فهداً، وعبدالله، كانت هي المرة اليتيمة التي اقتربت فيها من ثلاثة ملوك- اثنان منهما خبأهما القدر -كل ذلك القرب.
لدى بعض الوثنيين عقيدة في أسلافهم حيث يلجؤون إليهم كلما اكتسحتهم الكوارث أو شعروا بالخطر، ويستدعون أرواحهم، نحن لدينا التاريخ ولدينا كنزنا المدفون، ولدينا روح المؤسس التي تظلل هذا الكيان، فاللهم احفظ هذا البلد وسدد خطا قادته.
[email protected]
ينشر تزامنا مع جريدة الرياض
التعليقات