تداعيات الغزو الصدامي للكويت 2 من 2
حرائق.. ودخان في كل مكان، وبضائع مبعثرة هنا وهناك من بقايا ما سقط من اللصوص، وشقق وبيوت منتهكة تركت لعبث ومزاج اللصوص الذين أصبحوا يتجولون في كل مكان بلا رادع أو ضمير. وعندما نزلت بعد أن وجدت شقتي قد قلبت عاليها سافلها لمسؤول الجيش الشعبي في مجمع المثنى حيث اسكن للشكوى من حاميها حراميها عن سرقة شقتي تطوع احدهم وكانوا من أهالي تكريت وقال لي انتم تسرقون الشقق منو غيركم !!.
ومع استمرار القصف الجوي وقرب نهاية الغزو الشنيع لاحت في الأفق بوادر حل للسجن الذي نقبع فيه بين ناري القصف الجوي وتصرفات رجال مخابرات النظام الفاشي، بينما استمر البعض في (نضاله) الدؤوب بسرقة مخازن شركات السيارات وحرقها لإخفاء معالم جرائمهم. ولم تكل تريلات النقل البري العراقية عن نقل كل ما جمعه رجال النظام الفاشي من (غنائم حرب)، شملت حتى مقاعد الدراسة في المدارس، ونوق بيض عربية، وغزلان قيل إن ساجدة زوجة الدكتاتور باعتها بعد ذلك.
وجاء الفرج فجر يوم 26 فبراير عبقا جميلا ليهرب جيش (القائد الأسطورة) تاركا أسلحته ومعداته بعد أن مهد لهروبه الشنيع قبل أسبوع واحد من ذلك اليوم الجميل، حيث سحب معظم قواته الخاصة وأسلحته المهمة وترك أولاد (الخايبة) من الجنود المكلفين والاحتياط والجيش الشعبي طعما لنيران القوات المشتركة لتحرير الكويت مابين العبدلي وصفوان، بعد أن اخذ جيش (القائد الضرورة) سيارتي التي لم يمض على شرائي هل ثمانية اشهر معهم (سلفة) غير متفق عليها بتاتا.
ورغم بشاعة الكارثة، وانقطاع الماء والكهرباء والتلفونات وحرائق آبار النفط التي أشعلها رجال (بطل العروبة) التي كانت آخر (إنجاز ثوري) للغزاة الفاشيين من دعاة (الوحدة العربية الجديدة) الذين قصفوا محطات الكهرباء والمياه والمحولات التي تغذي ضواحي الكويت، وفجروا آبار النفط، قبل أن يفروا من بلد لم يكن يوما ما عدوا لهم أبدا، فقد استشعر الجميع بفرح وسعادة غامرة بعد أن أزيح عن صدورهم كابوس الاحتلال الذي دام سبعة اشهر عجاف، ووجدت ابنتي زينب التي فاجأها الاحتلال وهي بنت خمسة اشهر حليبا تتغذى به بعد أن حرمها (الأب القائد) منه طوال سبعة اشهر من عمرها.
كان كل شئ معتما في جو قاتم مظلم عم أرجاء الكويت والمنطقة وتساقط مطر أسود جراء تغيير قسري في طبقة الجو نتيجة للحرائق المستمرة لآبار النفط الكويتية، وشمل الخراب والدمار كل شئ بدءا من نفسية الإنسان العادي حتى الحيوانات والدواب والماء والنبات، والتي لا زالت آثار التلوث البيئي مستمرة حتى الآن ولسنوات مقبلة. وكان معظم من تبقى في الكويت من العراقيين من قوى المعارضة العراقية الذين وقف معظمهم مع المقاومة الكويتية في مقاومتها للاحتلال الصدامي ومآزر تهم للكويت، ومعظم من تبقى من كوادر الحزب الشيوعي العراقي، إذ قامت السفارة الإيرانية في الكويت بتسهيل خروج كل الجماعات الدينية الشيعية العراقية والكويتيين أيضا، وبقينا (نفر بآذاننا) على رأي المثل العراقي. وسيطر خوف من مجهول قادم على الجميع فنحن شئنا أم أبينا أتباع من غزا الكويت للناظر العادي من الناس. وكان الجو مشحونا بإحن وغضب مستعر خلفه ما قام به الغزاة ببلد آمن مستقر قبل ذلك اليوم المشؤوم.وبدت كل الاحتمالات واردة لمن تبقى من العراقيين، يشاركهم في ذلك الخوف المشروع جنسيات عربية أخرى كانت برأي الكويتيين (شريكة) في الجرم لأن زعمائها وقفوا مع الطاغية وأيدوه في جريمته الشنعاء، وبدت كراهية على الوجوه التي كانت يوما ما تعتز بالكثير منا كإخوة وأهل وأنسباء وأقرباء وأصدقاء.
وتوزعت الأخبار مفزعة مخيفة عن جرائم ثأر، وقتل وتوقيف شملت الكثير من الأبرياء شيبا وشبابا وأطفالا ونساء،كان كل ذنبهم إنهم عراقيون فقط، وكانت حصة الفلسطينيين اكبر بكثير من العراقيين، واستثني من ذلك من يحمل الجنسية الأمريكية، حيث تم توقيف ممرضة فلسطينية من المتعاطفين مع القوات الصدامية في المستشفى الأميري وأطلق سراحها حالا لكونها تحمل الجنسية الأمريكية.
كنت قادما من عملي في المستشفى الأميري بعد عناء سبعة اشهر قضيناها نعمل ليل نهار وبدون انقطاع لعدم وجود كادر طبي في الكويت دون أن اعلم انه سيكون آخر يوم لي في العمل في الكويت، وكان عددنا كعراقيين لا يزيد على عشرة بضمننا بعض الممرضات إلى جانب بعض الفلسطينيين وبعض الكويتيين من أطباء وإداريين. ولم نحس بطراوة وجمال شهر آذار / مارس الذي كان في يومه الثاني لشدة الظلام الكثيف ونحن في منتصف النهار بسبب من كثافة الدخان المتصاعد من آبار النفط المحترقة. وقد تفضلت زميلتي اليمنية بإيصالي للبيت بعد أن فقدت سيارتي لرؤية العيال الذين تركتهم للقدر وسط ذلك الجو المجهول المخيف طمعا في الثواب الذي سوف اكسبه من عملي التطوعي، وقد استقر بنا السكن أخيرا في منطقة (مشرف) وفي بيت أصدقاء كويتيين تواجدوا فترة الغزو في لندن، بينما تسكن زميلتي في الجهة المقابلة لمشرف وفي ضاحية (سلوى).
وفي أول مدخل الجابرية من جهة شارع الجمعية وجدنا الشارع الذي تقع فيه عدة سفارات ومقر لمنظمة فلسطينية ملغوما بالسيطرات العسكرية. فقد كان هناك خليط غير متجانس من مجموعات غير منظمة من الصبية والشباب والكهول وبعض الجنود من القوات العربية المشتركة، كل منهم يتمنطق سلاحه، رغم علمي بان أي منهم لم يمسك سلاحا إلا في ذلك اليوم، لأن العنف يجر العنف، ودورة القتل تجر الأبرياء لها بطريقة مغناطيسية وتدفعهم رغما عنهم في وسطها بدون إرادة منهم. توقفنا للتفتيش لمرتين، كانت المرة الأولى اصعبهما فقد أوقفونا ووجهينا على الحائط، وأيدينا مرفوعة للأعلى رغم إن زميلتي فتاة، وليست رجل، وترتدي مريول المستشفى الأبيض، وتضع علامة نقابة الأطباء على واجهة سيارتها، ووضعنا عبارة مستشفى باللغتين العربية والإنكليزية أمام وخلف السيارة مع هلال وصليب أحمرين، الأول للعرب والثاني للأمريكان، واكتفت السيطرة الثانية بالنظر لهوية زميلتي فقط.
وفي مدخل محطة البنزين التالية حيث مقصدنا طلب جندي ملتح بطاقتينا، وحالما نظر لبطاقة زميلتي عكر وجهه مشمئزا وهو يتساءل بطريقة مقر فه : يمنية !!، ثم التفت نحوي متسائلا بحدة : وِنْتْ (وأنت َ)، بلهجته النجدية السعودية، وصرخ وكأنه لدغ عند رؤيته بطاقتي : يا جماعة صدت عراقي – لفظ القاف كاف معجمة –
ولم أكن قبل هذا اليوم قد عرفت نفسي بأنني صيد ثمين، فانا لست من فصيلة الطيور النادرة، ولا من الحيوانات ذات الفراء الثمين، ولا غزالا يجوب البراري، وحالما نزلت من السيارة بعد لهجته الآمرة لي بالنزول، تراكض الصبية نحوي من داخل المحطة والشرر يتطاير من أعينهم، وأيديهم تتلاعب بأسلحتهم التي لا يعرفون كيفية استعمالها، وامتدت الأيدي لتتلقفني بينما ركنت زميلتي سيارتها جانبا وهي تغالب البكاء بعد أن تأكدت بأنني سأحصل على منحة سريعة من أولئك الصبية هي عبارة عن (طلقة) في الرأس من احدهم ممن يحمل في صدره وعقله مأساة شعب قاسى من ويلات حرس صدام الجمهوري ورجال مخابراته إثناء فترة الاحتلال المقيتة، أو فقد عزيزا عليه جراء ممارسات جيش (القائد الفذ).
وأنا أسير وسطهم شعرت بذل لا حد له للإهانات التي تلحق بنا منذ دنست أقدام العفالقة أرض عراقنا الحبيب، وفعلت ما فعلت. وانتفضت صارخا بوجوههم أن يتركوني أسير معهم فهم مسلحين وأنا اعزل، لكنهم زادوا من قبضاتهم علي تلذذا كما أظن. نظر إلي رئيسهم وتسائل بعد أن اخبروه بأنني (عراقي) وقال : خير يا طير عراقي.. عراقي اتركوه.
التقط الجندي السعودي دفترا للملاحظات من حقيبتي الخاصة بعد ان عادوا لتفتيش صندوق السيارة الخلفي، وراح يقلب صفحاته توقف عند أبيات كتبتها، وسألني بلهجته النجدية وبصوت هاديء : إنْتْ (بكسر الهمزة وتسكين النون والتاء)شاعر؟، ولما أجبت أنا اكتب الشعر ولست بشاعر. أعاد الدفتر لمكانه ودفع الصبية جانبا وهو يردد : خلي الشاعر يروح..
وأمر احد الواقفين عند إحدى مضخات البنزين أن يملأ لنا خزان السيارة رغم إننا نحمل ورقة بتجهيزنا بـ 25 غالون، وأشر للسيطرة التي تقف عند بوابة الخروج قائلا : اتركوا سيارة الشاعر تمر.
وتنفست وزميلتي الصعداء، ونحن ننطلق باتجاه طريق فحيحيل السريع، وأحسست بأن الأدب بما فيه من شعر وقصة ورواية ومقالة قد انتصر على السيف واسكت صوت البندقية التي تؤجج الحقد والكراهية في النفوس إذا استعملت في غير محلها.
وهكذا أنقذني الشاعر بعد أن كنت للحظات متهما لجرائم أقترفها الدكتاتور ولم يكن لي يد في صنعها، بل كنت أنا من أوائل ضحاياه، وعرفت أن الشعر لا زال ديوان العرب.
ألخاتمه :
بقيت حالات السرقات واللصوصية مستمرة حتى خروجي من الكويت بتاريخ 15. 9. 1991، وبقيت شقتي مرتعا للصوص، وهواة الفرهود أيضا، فقد بذر الفاشيون بذورا شيطانية نبت الكثير منها بعد خروجهم.
وامتنع الإخوة العرب عن استقبال أي عراقي لأسباب لا زلنا نجهلها للآن، وتجاهل الكويتيون دورنا في الوقوف معهم في محنتهم وامتنعوا عن صرف مستحقاتنا عن فترة الأشهر السبعة للاحتلال التي كنا لا نجد أحيانا ما نأكله في المستشفى بعد عناء 24 ساعة متواصلة من العمل الدءوب، بينما تم صرفها لم كان يركن بعيدا في بلده من بقية الموظفين الذين تركوا الكويت في شدتها. كذلك لم تصرف لنا مستحقاتنا من صندوق ضمان موظفي وزارة الصحة التي دفعناها من أموالنا، ولا زالت وزارة الصحة تتجاهل رسائلنا وشكاوانا. واستقر المقام بنا في إيران بكفالة من شيوخ ورجال دين، لتجري علينا مصائب أخرى نحن في غنى عنها سيكون لها مجال آخر للحديث.
ترى هل هو جزاء سنمار ما جازى به الكويتيون من وقف معهم في محنتهم، وآزرهم في شدتهم؟!.
كاتب عراقي - فيينا
التعليقات