-1-
في مقال شاكر النابلسي ( الدستور العراقي ومسؤولية الليبراليين) (إيلاف، 31/7/2005) وردت عبارة جميلة
تقول:"من يعتقد بأن الليبراليين العرب الجدد كفار وزنادقة، وأنهم ضد الدين، حين يعلنون مطالبتهم بدول علمانية لا دينية، هو على خطأ كبير. فالليبراليون ليسوا ضد الدين، ولا هم بكفرة . فالعلمانية التي ينادي بها الليبراليون ليست هي العلمانية التي تنكر الدين، ولكنها هي التي تفصل بين الدين والسياسة، حيث لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة ."

-2-
ألا يحتاج هذا الأمر العظيم الأهمية في طورنا ومستوى نضجنا الحضاري كمجتمعات لا زالت تعيش الذهنية الغيبة واللاهوتية لا تقيم اي مسافة فاصلة بين السيادة والمشروعية طبقا لابحاث محمد اركون، إلى زرعه وتأصيله في وجدان الشخصية المتدينة، لتتبناه وتكون سعيدة وفرحة به، ببيان القراءة الفقهية الليبرالية لعزل نظريات التطرف والإستبداد من حاكمية وولاية فقيه وأنظمة الملالي؟
إنني أعتقد أن جهود ومنجزات بعض رجال الدين كانت مُسرّة في هذا المجال عندما ناهضوا ولاية الفقيه الخمينية، وذلك بتأصيل ولاية الأمة على نفسها حسب اللغة الفقهية التي قدمها الشيخ النائيني في كتابه "الديمقراطية في الإسلام"، ومحمد مهدي شمس الدين في كتابه "نظام الحكم والإدارة في الإسلام". وبيان المواقف من عملية التداول السلمي للسلطة (الديمقراطية السياسية ) أو الطروحات المحدثة عن (الديمقراطية الفكرية أو المعرفية) وحرية الضمير والمعتقد والبحث والتبني للدين أو المذهب أو اللادين التي يقوم بها عبدالكريم سروش في طروحاته . ومحمد مجتهد شبستري في طروحاته عن بشرية المعرفة الدينية والدراسات الدينية . وعبدالجبار الرفاعي وغالب حسن الشابندر، وكلهم مؤيدون لعلمنة الإسلام وتحرره.

-3-
وحديثي هنا عن التراث الشيعي. فالتراث الشيعة عموما تراث منكفيء سياسيا فلا يرى شرعية العمل السياسي في زمن غيبة المهدي . وإقحامهم في الأعمال السياسية كان حديثا ًنسبياً. وكتاب ( تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه) يشرح هذا ، وهو من تأليف عبد الرسول اللاري المشهور باسم" أحمد الكاتب " . وهو شخصية دينية شيعية مقيمة الآن في لندن وقدمت نقدا ضخما لفكرة المهدوية والسياسة لدى الشيعة . ولا يكنّ له علماء الشيعة الود ّبسبب دراسته تلك . والباحث المذكور على النقيض من شخصية مؤثرة بشكل كبير على الذهنية الشيعية ، وهي شخصية غارقة في الاسطورة وتعيش في عالم خرافي ،وهو استاذ الفلسفة والعرفان في حوزة قم الدينية واسمه كمال الحيدري . وكان أستاذي في احدى مراحل عمري التي تتلمذت فيها على يديه في الفلسفة والتصوف طبقا لمدرسة فلسفية تعرف بـ (الحكمة المتعالية ) والتي أسسها صدر الدين الشيرازي المعروف بـ (ملا صدرا) ومتن كتابه مطبوع ومشهور اسمه (الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الأربعة) والتي يحاول من خلالها مزج البرهان بالمعنى القديم الذي قدمه ابن سينا طبقا لابحاث المنطق الشكلي أو ما يُعرف بمنطق أرسطو طاليس .
وهذه المدرسة الفلسفية حاولت أن تصهر في بوتقة واحدة التراث اليوناني المشائي القائم على البرهان المنطقي القديم ضمن خط العقل بالمعنى الذي قدمه ابن سينا ومن بعده نصير الدين الطوسي وابن رشد مع التراث الأفلاطوني الروحاني الإشراقي الذي مارسه المتصوفة وعمقه شيخ الإشراق السهروردي. وإعتماد شبه كامل على ابن عربي في كتابه "فصوص الحكم". ثم مزج ذلك مع التراث النصوصي للإسلام المتمثل بالقرآن بالدرجة الأولى .
إذن، فبنيان هذه المدرسة الفلسفية يقوم على ثلاث أعمدة : البرهان العقلي الخالص والكشف والتجربة الروحية الإشراقية الخالصة ومساندة النصوص ولو تعسفا لتلك المقولات .

-4-
إن العراقيين الشيعة اليوم ، دخلوا في صلب العملية السياسية. فعلمنة الإسلام الشيعي تحتاج إلى بلورته من داخلهم ، وخصوصا وأن تراثهم يساعد على ذلك كثيرا لاسباب لاهوتية (غيبة المهدي) وفقهية(عدم القول بشرعية العمل السياسي مطلقا لدى قدماء الشيعة وحصر الأداء الديني بشكل روحي خالص). وكذلك فإ ن علمنة الإسلام السُنّي تحتاج إلى ذلك من داخل نسقهم، وتراثهم ايضا. فأ لا يعتقد الليبراليون الجد أنهم يحتاجون إلى تقديم عملية العلمنة من داخل الإسلام نفسه؟
أعتقد شخصياً بأن مطلق الدين، ظاهرة بشرية . ولا اسباب لاهوتية تدفعني لذلك. ولكن فهمي البسيط يدفعني إلى رؤية مجتمعاتنا الغارقة حتى أذنيها بالحياة الأسطورية والذهنية الغيبية. بهذا المنظار فإ العلمانية مرحلة لا يمكن تحقيقها بسهولة إلا من داخل الدين مرحليا دون النـزول إلى تحكيم الدين في الدولة ؛أي بإعادته إلى وظيفته الخاصة بتحقيق توازن ما لحريق الإنسان واسئلته عن الموت والخلود والإله؛ أي إعادته كتجربة روحية فردية خالصة. وهنا نحتاج الى ديكارت وروسو وليس الى نيتشه . فمسؤولية الليبرالي العالم والرصين تحتاج إلى نظرة واقعية وثاقبة لمستوانا ومحتوانا في مرحلة تأريخية ما ، وليس معاملة ابن الضيعة العراقية أو اللبنانية وكأنه ابن السوربون وباريس. فكيف نتحدث عن مشكلات ما بعد الحداثة في مجتمعات لا تعرف ولا تعيش اصلا في نفس السياق الحضاري والنضج الحضاري والزمن الحضاري كما يفعل الكثير من الكتاب مع الأسف كعبدالله الغذامي في بعض مقالاته ؟

-5-
التقيت يوماً كمستمع مع آخرين الفيلسوف الطيب هابرماس، وهو يتحدث عن اليوم الذي سيأتي ويكون المجتمع البشري قادرا على أن يصبح ذا هوية ،وشرعة واحدة، تسودها قيم العدالة ،وحقوق الإنسان، ودولة قانونية كونية. ولطيبته الزائدة يعتقد أن قرنا واحدا كاف لتحضير المعمورة ووصولها إلى هكذا نضج. ولكني كنت أضحك في سري فهابرماس العجوز ما زار يوما أهوار العراق وبراري المغرب وحارات الشام أو مدن الملح الخليجية. فأغلب المجتمعات البشرية - عدا أوروبا الغربية والولايات المتحدة - بشكل عام تحتاج مثلنا الى قرن ضوئي ، وليس قرنا عاديا للوصول إلى ما يتحدث عنه هذا الفيلسوف الطي .
ما أعنيه أن مجتمعاتنا لها روح هي الدين، سواء كنا مسلمين أم مسيحيين أو غيرهم. وأهلنا الطيبون الذين يجمعهم ويحشرهم بسرعة البرق رجال دين جهلة غالبا، ويعجز عالم رائع من وزن شاكر النابلسي أن يحشر نصف ربعهم طوال سنة، يتطلب من حكماء الليبرالية أن يراعوا أهمية هذه الروح وهي الدين في شعوب هذا الشرق.
فهل أنا مخطيء؟

باحث عراقي مقيم في هولندا.