عقدت الحرّية ندوة صحفية استدعت لها كافّة الصحفيين والمهتمّين لتُبشّرهم ببداية عهدها الجديد في بلاد العرب ؛ فتقدّم العدلُ، وقبْل أن يوجّه لها سؤاله، رفع صوته مُكبّراً من فرط الفرح على ما أصبحت تعرفه الأمّة العربية - ما شاء الله - من عدالة "نزيهة" تحتكم لقوة القانون بدل قانون القوّة (الجاه والمال) ؛ وشكرته الحرّية على حضوره وحماسه، وطلبت منه أن يطرح سؤاله، فقال لها: «إنّ حضوري هنا هو السؤال !».. فلم تعرف بماذا تجيب.
ثمّ تقدّم القانون، وذكّر الحاضرين بأنّه حتّى وإن كان بعيداً عنهم كالسماء حين يحتاجون إليه، فهو أقرب إليهم من حبل الوريد حين يحتاج إليهم لتشغيل عقوباته وسجونه وذعائره، بالحقّ والباطل، وطلب من الحرّية أن تُنبّه مُريديها إلى هذه النقطة الأساسية التي كثيراً ما ينسونها أو يتناسونها.. فلم تعرف بماذا تجيب.
ثمّ تقدّم رجل تعرفه الخيل والليل والبيداء، وقرع الأرض بعكّازه حتّى اهتزّت بلاد العرب من المحيط إلى الخليج، وهمّ بطرح سؤاله، لكنّ الحرّية طلبت منه أن يُعرّف بنفسه أوّلاً، فأخبرها بأنّه غنيّ عن التعريف وأشار عليها بأن تسأل عنه السيف والرمح والقرطاس والقلم، وفي الأخير سألها إن كانت هي التي تسمح لأصحاب المناصب الكبرى بولوج مكاتبهم بجيوب خاوية والخروج منها ببنوك تمشي على رجلين.. فلم تعرف بماذا تجيب.
ثمّ تقدّم الكلامُ مقوّس الظهر خافض الرأس، فطلبت منه الحرّية أن يرفع هامته، وذكّرته بأنّ عهد الاستكانة والخنوع قد ولّى إلى الأبد، ومع ذلك بقي حاني الرأس وأخبرها، بصوت خافت يكاد لا يُسمع، بأنّ السكوت قرّر تمديد إقامته، في بلاد العرب، إلى أجل غير مسمّى، وسألها: « ما العمل؟!».. فلم تعرف بماذا تجيب.
ثمّ تقدّم ممثّل الأرصاد الجوّية، وألقى عرضاً مسهباً عن الجفاف المزمن الذي سيضرب البطون والجيوب، وساءل الحرّية إن كان في إمكانها الترخيص له استقبالاً بنشر أحوال النفوس لأنّها أصبحت أخطر من أحوال الطقوس.. فلم تعرف بماذا تجيب.
ثمّ تقدّم ممثّل الجامعة العربيّة، وبشّر الجميع بما ينتظرهم من رخاء وازدهار إن هم انخرطوا في المنظمّة الجديدة المنبثقة عن الجامعة، فقالت له الحرّية بأنّه حرّ في إنشاء ما شاء من منظّمات، وسألته عن اسم المنظّمة الجديدة، فأخبرها بأنّ اسمها هو: « منظمة الدول العربيّة اللامتّحدة »، وذكّرها بأنّ العرب كلّما أرادوا تشتيت تَجمُّع ما خلقوا له اتّحاداً، لذا تقرّر إنشاء الاستراتيجيات الجديدة على أساس مبدأ اللااتّحاد للَمّ ما تفرّق من شمْل وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. فلم تعرف بماذا تجيب.
وفجأة التحق بالندوة رجل يحثّ الخطى، وبعدما ألقى التحيّة بصوت لاهث، سألته الحرّية: «من أين يا أخا العرب؟»، فأخبرها بأنه جاء للتوّ من لقاء جماهيريّ جمع ضحايا القمع والجهل والبطالة والمرض والحرمان والفقر إلخ، وأنّهم جميعاً قرّروا أن يبنوا لها ضريحاً يُذكّر الناس بأنّ دورها قد انتهى: «عن أيّ دور تتحدّث يا أخي؟»، قاطعَته الحرّية سائلة بغضب، فردّ عليها الرجل بأنّ الدور الذي يقصده هو دور فئران المختبرات ؛ وأنّها كانت مجرّد تجربة ولّى عهدها وثبت فشلها، وباتت في خبر كان.
حينئذ ثارت ثائرة الحرّية وطلبت من الصحافيين الحاضرين أن يتضامنوا معها ويوقّعوا بياناً شديد اللهجة يوصون فيه بضرب بُناة الضريح المعلوم، فمكثوا للحظات ينظرون في بعضهم البعض، ثمّ انفجروا بضحكة عارمة كادوا أن يقعوا أثناءها من كراسيهم.
وانتهت الندوة بدون أيّ جواب.
ونقلت وكالات الأخبار الأجنبية، بعد ذلك، وبغير قليل من السخرية، بأنّ البيان الموصي بالضرب هو الجواب.


روائي من المغرب
الرباط في 04/8/2005

[email protected]