يمثِّل الاعلام جزءا أساسيا من أي مجتمع ديمقراطي، نما مع نمو المجتمع الرأسمالي الليبرالي وخياراته السياسية، و عاش الأزمات نفسها التي عاشها (انتصار الرأسمالية الليبرالية) بوصفها (أيديولوجيا نهائية للانسان)، و مرّ بمراحل (الاعلام الموجّه) و (الاعلام الأيديولوجي) و (قمع الاعلام وتدجينه)، الى أن انتهى الى أن يكون (امبراطورية) تمثل (سلطة رابعة) تنتقد و تراقب وتقيِّد (اعتباريا) السلطات الثلاث. لقد أصبح، بمعنى أوضح، جزءا من التوازن العام و الحاسم بين المجتمع و الدولة، هذا التوازن الذي لا يسمح للدولة بأن تهيمن على المجتمع و يتيح للمجتمع بأن يحاسب الدولة و يسائلها.
ربما تكون هذه احدى الحقائق البسيطة التي يمكن الاتفاق عليها بقدر تعلّق الأمر بالاعلام الغربي: أنه وصل الى درجة متقدمة من المهنية و الاستقلالية، على الرغم من أن نظريات كثيرة تكشف عن ارتباط الاعلام الغربي بـ (ارادة هيمنة) تحكم كل الثقافة الغربية و بالرأسمال السياسي المتنفّذ و عن دوره في تشكيل تصورات المجتمعات الغربية و مواقفها. وثمة مَن يشير الى أن ما حدث في الاعلام الأمريكي بعد أحداث 11 / 9 يكشف عن حقيقة (أو أزمة) الاعلام الغربي، اذ انخرط الاعلام الأمريكي في قيم (الوطنية الأمريكية) الصاعدة و السياسات التي اتخذتها الحكومة الأمريكية استنادا الى عواطف هذه القيم، اذ بدا أن تقييد جزء من الحريات الاعلامية أمر مقبول و مسوّغ تحت مبدأ (الحفاظ على الأمن القومي). و مع ذلك، ثمة نظريات أخرى معارضة تقول ان الاعلام الغربي قد تحوّل الى (وحش فرانكشتايني) يمتلك حق محاسبة الناس ومعاقبتهم، بل حتى قتلهم (1).

رهانات الاعلام العراقي بعد سقوط الدكتاتورية
هذا التصوّر (الليبرالي) للاعلام بدا كأنه الوظيفة الجوهرية، الأساسية و الوحيدة ربما، للاعلام، أينما كان، في سياقه الغربي و خارج سياقه. وبعد سقوط الدكتاتورية في 9 / 4 / 2003، و حين كان يجري تفكيك ارث الدولة الشمولية، كان الاعلام (اعلام الدولة المركزي، الموجّه، الشمولي، الدعائي) جزءا من هذا الارث. ولذلك، جرى تفكيك اعلام الدولة الشمولية، الذي كان يوجََّه من خلال وزارة خاصة بالاعلام، و ذلك عبر قرار راديكالي بحلّ هذه الوزارة و الغائها. و في الوقت نفسه، كانت محاولة اعادة البناء تتمثل في بناء (اعلام ليبرالي) جزءا من محاولة (وضع العراق على طريق الليبرالية)، و هي المهمة التي تشكِّل ـ مع مهمة (تفكيك ارث الدولة الشمولية و تصفية بقاياها) ـ أهم مهمتين للمرحلة الانتقالية في العراق.
بمعنى أن محاولة اعادة بناء الاعلام في العراق كانت تتضمن بناء اعلام يكون (سلطة رابعة)، ناقدة ومراقِبة للدولة، جزءا من العقد الجديد الذي يُراد صوغه بين المجتمع و الدولة في العراق. هذا فضلا عن أن الاعلام يمكن أن يكون، الى جانب المؤسسة التربوية، الحاضنةَ الأولى لبناء قيم الديمقراطية، بعد أن سقطت العائلة كحاضنة تنشئة اجتماعية، فهي فاسدة بالأبوية و الطائفية وأخلاق الطاعة والصوت الواحد.

مشكلة النماذج الجاهزة في عراق ما بعد الدكتاتورية
قامت عملية اعادة بناء الاعلام في العراق على أساس نقل نموذج Model جاهز، و هي استراتيجية اعتمدتها سائر عملية اعادة البناء في العراق، فنقلُ نماذج أثبتت نجاحها و كفاءتها من تجارب ديمقراطية راسخة سيجعل العراق يبدأ من حيث انتهى العالم لا من نقطة الصفر. ومن باب التفصيل، جرت في العراق محاولة لنقل نموذج (هيئة الاذاعة البريطانية BBC)، وهو نموذج متقدم لـ (اعلام دولة)، اذ تموَّل BBC من الدولة البريطانية (البرلمان)، و لكن من دون أن تتدخل الدولة في تحديد السياسات الاعلامية للهيئة.
ان هذا يتضمن فصلا حاسما، جديدا على الاعلام العراقي، هو الفصل بين (اعلام الحكومة) و(اعلام الدولة). وهكذا، قامت اعادة بناء الاعلام في العراق على خطوتين رئيستين:
1 ـ بناء اعلام دولة، يموّل من البرلمان، و لا يكون صوتا دعائيا للحكومة، بمعنى العمل بالفصل السالف بين (اعلام الحكومة) و (اعلام الدولة).
2 ـ اطلاق العمل الاعلامي بحرية كاملة و من دون أي قيد.
غير أن هذه المحاولة لم تنته الى قيام اعلام حر في العراق (يكون مراقِبا للدولة و يسعى الى بناء قيم الديمقراطية)، بل لقد انتهت الى نتيجتين غريبتين:
الأولى هي أن (اعلام الدولة) انتهى الى أن يكون (اعلام حكومة)، بمعنى أن التمييز السالف لم يصمد في الممارسة الاعلامية العراقية، و تحوّلت وسائل الاعلام التابعة للدولة الى صوت دعائي للحكومة. و قد تجسّد هذا الأمر، بشكل فاضح، في الحملة الانتخابية التي سبقت الانتخابات النيابية التي جرت في 30 / 1 / 2005، اذ تحوّلت قناة (العراقية)، على سبيل المثال، و هي الفضائية الوحيدة التابعة للدولة، الى صوت دعائي للّائحة الانتخابية التي رأسها رئيس الحكومة ـ آنذاك ـ اياد علاوي، و لم تستطع أن تحافظ على حيادها أو أن تكون فضاء دعائيا لكل اللوائح الانتخابية على قدم المساواة.
لقد أصدر الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر في حزيران 2004 أمرا يقضي بتشكيل هيئة اعلامية تتولى الاشراف على وسائل الاعلام التابعة للدولة و تُموّل من البرلمان. و لنلاحظ، هنا، أن شكل الهيئة هذا شكل نظري، ذلك أن البرلمان العراقي لم يكن متشكلا لحظة صدور أمر بريمر، و هو مقتبَس من نموذج BBC، على نحو ما قدمنا. و لكن، بعد تشكيل الحكومة العراقية الموقتة برئاسة اياد علاوي في 28 / 6 / 2004، جرى الحاق هذه الهيئة بمجلس الوزراء، و قد عيّن رئيسُ الوزراء بنفسه المديرَ العام لقناة (العراقية). وصف أحد الباحثين هذه الهيئة الاعلامية، التي تهيمن عليها الحكومة، بأنها (وزارة اعلام مخفية)، بمعنى أنه قد جرت عودة منظمة الى محتوى وزارة الاعلام المنحلة، و ان بتسمية مختلفة، ليسقط، بالتالي، الفصلُ السالف بين (اعلام الحكومة) و(اعلام الدولة)، وليتحول (اعلامُ الدولة) الى اعلام دعائي للحكومة.
كان هذا الأمرُ جزءا من عملية المركزة التي قامت بها حكومة علاوي. لقد تزامنت هذه الخطوة مع اغلاق الحكومة مكتبَ قناة (الجزيرة) في بغداد. و بغض النظر عن الموقف من هذه القناة ومدى التأييد الشعبي الذي حصل عليه هذا القرار في بغداد، فانه كان مرتبطا بالمركزة السالفة، و بربط اعلام الدولة العراقية بالحكومة، لنعود الى حالة تتحكم فيها الحكومة بالاعلام وسياساته و وجهات نظره، حالة تتشكل في طاعة الاعلام للدولة و انصياعه لها.
أما النتيجة الثانية التي انتهت اليها محاولةُ بناء اعلام حر في العراق و لَبرلَته من خلال اطلاق حرياته و رفع القيود عنه، فهي أنها جعلت الحيَزَ الأكبر من وسائل الاعلام (الصحف و المجلات والاذاعات و الفضائيات و المواقع الألكترونية) التي ظهرت الى الوجود بعد سقوط الدكتاتورية يُسَيطَر عليه من الجماعات و الأحزاب الدينية و الطائفية، أو لنقل: التي لا تملك مشروعا ليبراليا أو ديمقراطيا.
ان امكانية قيام اعلام حر في العراق مرتبطة ارتباطا بنيويا بتعثرات الديمقراطية فيه، فهي تصطدم بثقافة المجتمع العراقي من جهة، و بالثقافة السياسية التي تحكم القائمين على العملية السياسية من جهة ثانية، و بالمشاريع و الغايات الخاصة التي وضعتها الجماعاتُ العراقية نصب أعينها و التي لم تكن الديمقراطية من أولوياتها. فالاعلام جزء أساسي من أية حياة ديمقراطية، و ما لم يكن ثمة مشروع ديمقراطي حقيقي سيبقى الاعلام ضعيفا و تابعا.
و على وجه الجملة، ثمة أربعة عناصر جوهرية اعترضت امكانية قيام اعلام حر في العراق، هي:
1 ـ ان العراق لا يملك تقاليد اعلام حر، بل ان الثقافة الاعلامية فيه انبنت على أساس أن الاعلام هو صوت دعائي للدولة، موال لها، و مجمِّل لأفعالها، و مسوِّغ لأخطائها، و مدافع عنها. وبالتالي، كان الفصلُ بين (اعلام الدولة) و (اعلام الحكومة) يتحوَّل ـ حين يُنقَل الى السياق العراقي ـ الى مطابقة بينهما، و كانت محاولة بناء اعلام مراقِب و ناقد و سلطة رابعة تنتهي الى أن يكون الاعلام مكوِّنا من مكونات الحكومة، لا لأن ذيول الاعلام الفاشي لا تزال لابثة في المشهد الاعلامي العراقي، بل لأنه ليست هناك امكانية متاحة لفهم الصيغة الأخرى التي انتهى اليها الاعلام الغربي.
ان اللغة و ملابساتها و ظلالها تكشف كثيرا من بنية الثقافة التي أنتجتها، على نحو ما يقول علماء اللسانيات. لنلاحظ أن الفارق بين الاعلام على نحو ما يمارَس في الثقافة الغربية و الاعلام الذي يمارَس في البلدان العربية هو نفسه الفارق بين كلمتي (Media) الانكليزية و (اعلام) العربية، فالكلمة الأولى تعني واسطة للاتصال يشترك فيها أكثر من طرف، أما الكلمة العربية فتجعل من الاعلام وسيلة لمصدر واحد هو المنتِج و المدعو له.
لقد بدأ الاعلام في البلدان العربية اعلاما خاصا لا سيطرة للدولة عليه، و كان حينذاك يعتمد على الصحافة المكتوبة على نحو يكاد كليا. و لكن، مع المركزة الشديدة التي شهدتها المجتمعات العربية بعد الثورات الوطنية في الخمسينيات و الستينيات، جرى ربط الاعلام بالدولة. هذه اللحظة هي نفسها التي ظهر فيها مصـطلح (اعلام) في المعجم العربي ـ دون غيره و بمعناه و ظلال معانيه السالفة ـ ترجمـة لكلـمة (Media) الانكليزية و تعبيرا عن وسيلة لمصدر واحد.
2 ـ عزّز هذا أن الاعلام العراقي وجد نفسَه في خندق واحد مع الحكومة و هي تواجه الارهاب.
3 ـ و ان أي نقد للحكومة قد يجعل الناقدَ محسوبا على الجهات الارهابية أو بقايا البعث والدكتاتورية أو مَن يريد أن يخرِّب العملية السياسية الجارية. و بتعبير صريح: ان الفضاء الديماغوجي الذي تجري فيه العملية السياسية لا يتيح مجالا للنقد، و بالتالي، لا يكون من الممكن أن يظهر اعلام ناقد.
4 ـ و على الدرجة نفسها من الأهمية، لقد سمح اطلاق العمل الاعلامي، بوصفه ركنا أساسيا في الحياة الديمقراطية، بأن تستغل هذه الوسيلةَ قوى و جماعات لا تؤمن بالديمقراطية. و هكذا، أصبح الحيزُ الأكبر من الاعلام العراقي تسيطر عليه أحزاب و جماعات ذات مشاريع دينية أو طائفية، و هي مشاريع لا تؤمن بحدود الحرية التي انطلق من عمقها الاعلامُ الحر.
لقد أصبحت هذه المشكلة هي القاعدة حين يجري نقلُ مشروع ديمقراطي الى البلدان الاسلامية والعربية: أن الديمقراطية تكون مجرد وسيلة لصعود مشروع لا ديمقراطي. و لكن الدرس الجديد الذي قدّمه العراق في هذا الصدد هو أن المبدأ الليبرالي (تمكين المجتمع المدني)، أي اخراج صوته وتفعيله، سوف يعني ـ في مجتمعات كالمجتمع العراقي ـ تمكين و خروج المجتمع الديني.

الأطر الدستورية الممكنة للعمل الاعلامي
اذن، هل يمكن أن يكون الدستورُ ضمانة لاعلام حر؟ و الى أي حد يمكن أن يكون (الاعلامُ الحر) مسألة دستورية؟ لم تتضمن دساتير العراق، بدءا من (القانون الأساسي) لسنة 1925 الى (قانون ادارة الدولة للمرحلة الانقالية) لسنة 2004، أيةَ مادة صريحة عن الاعلام، الا تلك المادة التي تقول (حرية التعبير مصونة و مكفولة) التي نصت عليها دساتير العراق كافة. و اذا كان الاعلام هو الفضاء الأساسي للتعبير فان هذه المادة تُفهَم بأنها تتعلق، على نحو أساسي، بالاعلام. و حرية التعبير التي يتطلبها العملُ الاعلامي هي حرية التعبير السياسي بالدرجة الأولى. و لكن، تبقى هذه المادة ذات صفة عمومية، اذ انها يمكن (و يجب) أن تشمل المعنى العام لحرية التعبير، يدخل في ذلك حرية التعبير الديني و حرية التعبير عن الموقف تجاه الدين و مؤسسات المجتمع (العشيرة، العائلة،...) و ما الى ذلك من حريات.
اذن، فدساتير العراق كافة تضمن لوسائل الاعلام حريتَها في التعبير، اذ لا قيد عليها الا القيود التي تنظّمها قوانينُ العمل الاعلامي من قبيل حظر الحث على الكراهية و العنصرية و القذف الشخصي و التشهير و ما يخالف الآداب العامة و ما يمس الأمن القومي.
و لكن هذه الضمانة الدستورية لا تعني أن العراق شهد اعلاما حرا، الا الحرية النسبية التي شهدها بعد سقوط الدكتاتورية في 9 / 4 / 2003، و هي حرية ناشئة من ضعف الدولة لا من ضمانات دستورية أو قانونية.
و بالتالي، يمكن أن تأخذ المقاربةُ المتعلقة بالضمانة الدستورية للاعلام أحد طريقين: مناقشة وتطوير المفهوم العام عن (حرية التعبير) باعتبار أن حرية الاعلام هي جزء من حرية التعبير، أو مناقشة و تطوير الأطر القانونية للاعلام التي تقع خارج المتن الدستوري.

.. اعلام الدولة؟
في مذكرة دستورية رفعتها الى اللجنة البرلمانية المكلفة بكتابة الدستور هيئة دستورية مستقلة منبثقة من المثقفين العراقيين حملت اسم (مبادرة المثقفين من أجل الدستور)، كان كاتبُ هذه السطور عضوا في اللجنة التي صاغت المذكرة، كانت ثمة توصية بألاّ يتحول (اعلامُ الدولة) الى (اعلام حكومة)، ذلك أنه يُمَوَّل (و يجب أن يستمر كذلك) من المال العام للدولة.
ان المسودات الأولى للدستور التي نُشِرت في وسائل الاعلام لا يبدو أنها أخذت بهذه الفقرة، وسيكون الدستور، كالعادة، خاليا من أية مادة دستورية عن الاعلام، فكاتبو الدستور ـ على ما يبدو ـ يخافون (أو لا يهتمون) من اضافة أية مادة دستورية جديدة أو غريبة عن النسق الدستوري العام، الا اذا تعلقت تلك المادة بمصالح أحزابهم أو جماعاتهم الناطقين باسمها.

اعادة صياغة العلاقة بين الاعلام و الدولة
تتمثل المشكلة الأساسية للعمل الاعلامي في العراق في اشكالية العلاقة بين الاعلام و الدولة.
وقد جرى التنبّه الى ذلك مبكرا بعد سقوط الدكتاتورية، اذ كان ثمة ايمان بأن حل اشكالية العلاقة بين الاعلام و الدولة يقتضي اعادة صياغة العلاقة بينهما بحيث لا يعود الاعلام مكوِّنا من مكونات الدولة و تابعا ضعيفا لها. و هكذا، كان الأفق الذي يحاول أن يقود هذه الاشكالية الى منطق الحل يتمثل في تقديم التمييز بين (اعلام الحكومة) و (اعلام الدولة)، و لذلك، اتُخِذ القرار (الراديكالي) بحل وزارة الاعلام، و هي المؤسسة التابعة للسلطة التنفيذية (الحكومة) و التي تشرف على سائر العمل الاعلامي في العراق. و قد كان هذا القرار من أول القرارات التي اتخذتها (سلطةُ الائتلاف الموقتة CPA).لعلي أؤمن بأن التحولات الراديكالية تستلزم قرارات أشبه بالصعقة الكهربائية توازي جذرية التحول الحاصل. و قد مارست محاولة لبرلة الاعلام في العراق شيئا من هذه الصعقة.
لقد بدا، أول الأمر، أن التحول الحاصل و الملحوظ في الاعلام العراقي واحد من أهم سمات التحول الديمقراطي. و لكن، يبدو الآن، بعد سنتين و نصف من سقوط الدكتاتورية، أن الأفق السالف قد فشل في الحل، لأن اعلام الدولة انتهى (و سينتهي دائما بالضرورة) الى أن يكون اعلام حكومة، تابعا وضعيفا. ولذلك، لا بد من أن يتشكل ايمان جديد بأفق جديد، فالديمقراطية ممارسة، و الهيكل الديمقراطي ينبني بالتجربة لا بالنماذج الجاهزة. لعل هذا أحد أكثر دروس العراق الجديد صفاء.
يمكن (و ربما ينبغي) لهذا الأفق أن يكون بالغاء اعلام الدولة أصلا، فالدولة غنية عن وسيلة اعلام ناطقة باسمها. و لنتذكر أن أقوى دولة في العالم، هي الولايات المتحدة، لا تملك اعلاما ناطقا باسمها. لا أريد، هنا، أن أقترح نقلَ الاعلام العراقي من النموذج البريطاني الى النموذج الأمريكي (و فخاخ النماذج متلبسة بنا أبدا)، و لكني أريد أن أذكِّر بامكانية أن لا يكون للدولة اعلام، اذا كان ثمة مَن لا يتصور ذلك.
اذا جرى الايمان بمثل هذا الأفق فيمكن أن تكون ثمة مادة دستورية تحظر على الدولة ادارة (أو الاشراف على) أية وسيلة اعلام. ومع ذلك، لا يشكل هذا الحظرُ حلا نهائيا لمشكلة الاعلام في العراق، اذ ينبغي تطوير الأفق الذي تُفهَم من خلاله العملية الاعلامية، و قبل ذلك، خلق توازنات قوى يكون الاعلام فيها طرفا فاعلا و مؤثرا و ذا علاقة ندية مع الدولة. هذا الأمر قد لا يبدأ الاّ بحرمان الدولة من أي صوت واشعارها بالحاجة الى الاعلام الحر، بعد أن تفقد اعلامها المركزي، القائد، الموجَّه.


هامش

1 ـ هنا، اشارة الى انتحار خبير الأسلحة البريطاني ديفيد كيلي، الذي كان ضمن فرق المفتشِّين عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، اثر ضجة اعلامية بعد أن نشرت BBC معلومات، كان هو مصدرها، عن مبالغة الحكومة البريطانية فيما يخص أسلحة الدمار الشامل في العراق.

[email protected]