حاولت من خلال هذه الورقة أن أجيب على سؤال المحور الثّالث من ندوتكم الموقّرة : "كيف يمكن تضييق الهوّة سواء بين المسلمين أو بين المسلمين ومنظور الآخرين للإسلام؟"
إنّ تضييق الهوّة بين المسلمين من جهة وبينهم وبين الآخرين من جهة أخرى هو من أجل العيش المشترك، ومن أجل إمكان التّعايش البشريّ في عالم يكون أكثر أمنا أو أقلّ خطرا على الأقلّ. هذا الهدف النّبيل قد يكون اليوم موغلا في المثاليّة في العالم الإسلاميّ، يعود ذلك إلى أنّ الأفكار الرّائجة اليوم في هذا العالم، أو في جزء كبير منه، لا تلتفت إلى هذا المطلب الإنسانيّ لأنّه يتعارض مع واقع اختطاف الإسلام واستعماله في تجييش الجماهير من أجل النّضال الدّينيّ السّياسيّ، وواقع توظيف المقولات المقدّسة وقلب الشّعائر إلى شعارات نضاليّة. هذه هي سمة المجتمعات الإسلاميّة وأغلب الفاعلين الاجتماعيّين والسّياسيّين فيها.
وإذا أردنا أن نتعرّف على عمق الهوّة التي تفصل بين المؤمنين بديانات مختلفة من الجانب الإسلاميّ، فإنّنا نلحظ أنّ المسلمين اليوم لا يعترف بعضهم ببعض، فهم يسمّون الأديان الإسلاميّة مذاهب، بالرّغم من وجود ديانات إسلاميّة كبرى مثل الدّيانة السّنّيّة والدّيانة الشّيعيّة والدّيانة الخارجيّة على سبيل المثال. وكلّ هذه الأديان الإسلاميّة تحتوي على مذاهب متعدّدة. فعدم الاعتراف بوجود أديان إسلاميّة متعدّدة هو نوع من إنكار الواقع والوقوع في فخّ الاختزال المهيمن، الذي يفضي إلى مزيد من الإقصاء المتبادل، ويقف حجر عثرة أمام الاعتراف بالآخر المختلف داخل الأسرة الدّينيّة الكبرى.
إنّ أساس التّآخي بين الدّيانات يبدأ من الاعتراف المتبادل بين الأديان التي تنتمي إلى نفس العائلة الدّينيّة. ومن هنا يمكن الانطلاق إلى تسامح أرحب يشمل التّسامح مع الأديان الأخرى.
فالمطّلع على فقه وأدبيّات الدّيانتين السّنّيّة والشّيعيّة، يكتشف دون عناء العداء والإقصاء والتّكفير المتبادل منذ قرون مضت إلى يومنا هذا، من الكلينيّ إلى الخمينيّ، ومن ابن تيميّة إلى ابن باز. فالسّنّة تطلق على الشّيعة صفة "الرّوافض" وتكفّرهم، والشّيعة تطلق على أهل السّنّة صفة "النّواصب" وتكفّرهم، وقد وصل الأمر بهذه الدّيانات الإسلاميّة إلى عداء قد يكون في بعض مظاهره أشدّ من العداء للدّيانات الأخرى. فالشّيعة والسّنّة مثلا يأكلون ذبائح أهل الكتاب ولا يأكل بعضهم ذبائح بعض، ويتزوّج ذكورهم من أتباع الدّيانات الأخرى ولا يجيزون الزّواج فيما بينهم، ولا يصلّي أحدهم وراء الآخر. فعن أيّ ديانة واحدة وعن أيّ تسامح يتحدّثون؟
السّؤال الملحّ اليوم هو : كيف يمكن للدّينات الإسلاميّة أن تتهادن وأن تتحاور وتتصالح مع نفسها قبل أن تتّجه إلى الأسر الدّينيّة الأخرى، من أجل الهدف نفسه؟
إذا ألقينا نظرة فاحصة على التّاريخ الإسلاميّ، تبيّن لنا أنّ نشوء هذه الدّيانات في الإسلام كان نتيجة الصّراعات السياسيّة الدّامية، ونتيجة محاولة كلّ فئة الهيمنة على الأخرى باستعمال العنف المبرّر بمقولات دينيّة تمّ تأويلها تأويلا فقهيّا لخدمة السّياسة. وقد تراكم هذا الفقه بتراكم العداء حتّى أصبحت للفرق والنّحل كلّ مقوّمات الدّيانة التّامّة.
ونحن نرى أنّ المصالحة لن تكون إلاّ بإخراج الدّيانات من المعترك السّياسيّ والكفّ عن استعمال طريق النّجاة الأخرويّ وربطه بفكرة الانعتاق السّياسيّ الدّنيويّ. في هذه الحالة فقط يمكن أن تكون لفكرة الحوار بين الأديان معنى. غير أنّ هذا الحوار وهذه المصالحة لا تعنيان جبّ دين لآخر، بل اعتراف كلّ طرف بعقائد الآخر واحترامه إيّاها.
فأوّل امتحان لنا كمسلمين بالمعنى الواسع المتعدّد لهذه الكلمة هو أن نتصالح مع أنفسنا وأن نتبادل الاعتراف بتغايرنا، قبل أن نلج باب الحوار مع الأديان الأخرى، لا كما فعلت إلى حدّ ما الكاثوليكيّة في المجمّع الكنسيّ الثّاني، فهي تتحاور مع الدّيانة الإسلاميّة وترفض الحوار مع الدّيانة البروتاستنتيّة.
أمّا التّقارب بين الدّيانات الإسلاميّة وما عداها من الدّيانات الأخرى، فهو هدف يبدو بعيد المنال في الوقت الحاضر.
بادئ ذي بدء، يجب على رجال الدّين والقائمين على شؤون المقدّس أن يكفّوا عن عقد المؤتمرات وإجراء الحوارات التي تفوح منها رائحة النّفاق والرّياء. فكثير من الشّيوخ المسلمين يذهبون كلّ يوم إلى هذه اللّقاءات ويخرجون من عمائمهم حمائم السّلام والمحبّة، بتوظيف أجمل ما في القرآن من آيات التّسامح، ثمّ ينقلبون إلى بلدانهم ويخرجون من نفس العمائم صقورا جارحة، بتأويل آيات أخرجوها من سياقها التّاريخيّ المخصوص وأطلقوها لتلتهم حمائم مؤتمرات التّسامح.
إنّهم يقتلون آيات التّسامح بآيات السّيف نسخا. وهذه المسرحيّة الهزليّة يجب أن تتوقّف، وعلى السّيزيف الإسلامويّ أن يتدحرج مع صخرته العبثيّة إلى الجحيم وإلى الأبد.
إذا أراد الدّعاة والفقهاء والوعّاظ الحوار حقّا، فعليهم أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، وأن يرسوا في أوطانهم آيات التّسامح ويذيعوها بين النّاس، وأن ينتقدوا فقه العصر الوسيط ويموضعوه ضمن شرطه التّاريخيّ، ويزيلوا صفة القداسة على آراء الفقهاء، ويشجّعوا البحث المعتمد على كافّة الأسلحة المعرفيّة التي لم تكن متاحة في عصر القدامة، وإنّما هي ثمرة التّراكم المعرفيّ الحديث.
إنّني انطلاقا من ندوتكم الموقّرة، أقترح على شيوخ الإسلام وفقهائه والمشتغلين بعلومه برنامجا غير مكتمل، أطرحه للنّقاش من أجل أن يتبلور ويتّضح :
1/ مراجعة الفقه القديم، وإعادة النّظر في احتكار طريق النّجاة. فالمسلمون في مماحكاتهم مع الأديان الأخرى يقولون إنّهم وحدهم على طريق الخلاص، ثمّ تنحسر هذه الطّريق فيما بينهم، فتقتصر على ما يسمّونه الفرقة النّاجية، وهي فرقة واحدة، وما عداها ففرق ونحل وديانات سائرة على طريق الضّلال.
فالفقهاء يعتبرون الأديان التّوحيديّة الأخرى شرائع تمّ نسخها بالشّريعة الإسلاميّة، ويعتبرون الدّيانة الإسلاميّة وحدها جديرة بالاتّباع، لأنّها الدّيانة التي آمن بها كلّ الرّسل منذ إبراهيم.
وهذا الأمر يذكّرنا بالمقولات المسيحيّة القديمة التي كانت ترى أن لا خلاص خارج الكنيسة. فكيف يمكن للمؤمن الذي يعتقد هذا الاعتقاد ويعتبره من صلب إيمانه أن يعترف بالآخر، والحال أنّه لا يعترف بالآخر إلاّ إذا آمن بما يؤمن؟ أيّ حوار بين الأديان يمكن أن يعطي ثماره دون إعادة النّظر في هذه القضيّة بدل التّغاضي عنها؟
2/ في كلّ هذا العالم المعولم، كيف يمكن أن نكرّس فقه تقسيم العالم إلى دار الكفر ودار الإسلام، دار الحرب ودار السّلام؟ إنّ هذا التّقسيم الذي لا يزال يدرّس في معظم البلدان ولا يزال الدّعاة والوعّاظ يردّدونه على مسامع الأجيال الصّاعدة، وعلى الأخصّ أولئك الذين يعيشون في المهجر، سوف يخلّف أجيالا من المسلمين تنظر إلى الآخر نظرة عدائيّة وتعتبره هدفا للتّدمير في أوّل فرصة سانحة. كما أنّها تخلّف اغترابا للشّباب المسلم المهاجر في الدّول الغربيّة، وتضع بهذا الفقه عوائق حقيقيّة تحول دون اندماج هؤلاء المهاجرين وأبنائهم داخل تلك المجتمعات.
ولذلك وجب على الفقهاء الخروج من شرنقة الفقه التّقليديّ، ووجب عليهم أن يعترفوا بالمواطنة ويفرّقوا بينها وبين مسألة الهويّة الدّينيّة، باعتبار الإسلام دينا لا وطنا، ووجب عليهم أن يجعلوا المواطنة هي الأساس في التّعامل مع المجتمع، بحيث تبقى الهويّة مسألة فرديّة لا يكون التّمسّك بها عائقا في سبيل الاندماج في الأوطان الجديدة.
3/ إنّ اعتراف المؤمن بالدّيانات الأخرى لا يجب حصره في ما يسمّى بالدّيانات التّوحيديّة، وإنّما يجب تعميمه على كلّ الدّيانات القائمة في العالم.
والملاحظ أنّ الدّيانة الكاثوليكيّة، بالرّغم من اعترافها بالأديان التّوحيديّة في المجمع الكنسيّ الثّاني، فإنّها لم تكمل الطّريق حتّى الآن، ولم تعترف بكلّ الأديان الأخرى كالهندوسيّة والبوذيّة.
4/ يجب التّركيز على تربية النّشء في المدارس والمعاهد ووسائل الإعلام، بحيث تحذف من مناهج التّعليم كلّ المقولات الفقهيّة التي تحضّ على عدم التّسامح وعلى الكراهية. ويجب الاتّجاه إلى تعليم تاريخ الأديان المقارن، الذي يعلّم النّشء نسبيّة الظّواهر الدّينيّة، حتّى ينشأ جيل من المسلمين ينظر إلى العالم نظرة واقعيّة، فلا يعادي البشر من أجل معتقداتهم، وإنّما يعادي ويصادق ويتحالف حسب المعطيات الموضوعيّة والسّياسات الواقعيّة، وحسب مبادئ حقوق الإنسان وما تنصّ عليه المواثيق الدّوليّة.
5/ يجب التّخلّي عن الخوض في المناقشات السّجاليّة بين الأديان لإثبات صحّة هذا الدّين أو بطلان ذلك الدّين. فهذه المساجلات ولّت مع العصور الغابرة، وإنّ إطلالها الآن لا يعني غير أمر واحد هو شعور المساجل في بلداننا بالدّونيّة في المجالات العلميّة والتقنيّة، وقيامه بعمليّة إسقاط تعويضيّ، وكأنّ لسان حاله هو : "بالرّغم من تخلّفي العلميّ والتّقنيّ فإنّني أمتلك الدّين الحقّ، والأخلاق الأفضل". هذا الإسقاط التّعويضيّ يزيد من بؤس هذه المجتمعات، فيجعلها تنكفئ على عبادة الأسلاف وعلى تقليد الموتى، وتنغمس في الحنين إلى أزمنة العصر الذّهبيّ المتخيّلة، في محاولة عبثيّة لإرجاع الأنهار إلى منابعها، وللاستمرار في رحلة التّيه القاتلة، بدل الاعتراف بالواقع المتخلّف والأخذ بأسباب التّقدّم.
6/ هل يمكن للمفكّرين والفقهاء الإسلاميّين أن يقودوا حملة تنوير حقيقيّة بتبنّي العلمانيّة في مجتمعاتهم، حتّى يساعدوا على تخليص الإسلام من الأسر والاختطاف من قبل الإسلامويّين، الذين أقحموا الإسلام في الصّراعات السّياسيّة، وارتكبوا باسمه الفظائع من أجل الوصول إلى السّلطة؟
إنّ العلمانيّة هي وحدها التي تضمن لأيّ مؤمن ممارسة عقيدته بحرّيّة وفي كلّ رقعة من الأرض، وهي البوتقة الحقيقيّة التي يمكن لكافّة الأديان أن تتعايش في إطارها.
إنّ العلمانيّة قد شوّهت في العالم العربيّ والإسلاميّ، وذلك بتصويرها وكأنّها دين جديد يلغي الأديان، أو عقيدة ترمي إلى نشر الإلحاد، وبالتّغاضي عن كونها تعني بالأساس فصل الدّين عن السّياسة. إنّ تبنّي العلمانيّة هو طريق الخلاص للمسلمين، سواء كان ذلك في أوطانهم أو في مهاجرهم وأوطانهم الجديدة.
كيف يمكن لمجتمعات مثل المجتمع المصريّ أو العراقيّ أو اللّبنانيّ أن تتصالح وتنعم بالعيش المشترك وتحقّق الدّيمقراطيّة بدون تكريس العلمانيّة، بحيث يكون الدّين للفرد والوطن للجميع؟ وكيف يمكن للمسلمين الذين أخذت أعدادهم تتزايد في دول الغرب بفعل الهجرة أن يتعايشوا مع تلك الشّعوب ويتحوّلوا إلى مواطنين أسوياء دون تقبّل العلمانيّة؟
هذه هي التّحدّيات الحقيقيّة التي يجب أن نجيب على أسئلتها الملحّة. وعلى كلّ دين أن يبدأ حركة نقديّة في داخله، بحيث لا يكون هدف المؤمن إخضاع الآخر ليعتنق نظرته إلى الكون والحياة، بل يكون العيش في سلام مع إخوته من البشر.
على هذا النّحو يمكن تضييق الهوّة بين الدّيانات الإسلاميّة وبين الدّيانات الإسلاميّة وغيرها من الدّيانات.
التعليقات