سيقف التاريخ العراقي مطولا أمام حالة العبث الفكري والسياسي الفظيعة التي مثلتها الآيديولوجية البعثية العبثية في تطبيقاتها في العراق و العالم العربي، فمصير العراق، ومستقبل سوريا، وحالة الخراب السياسي والإجتماعي والإقتصادي والنفسي التي تعاني منها تلك البلدان قد تسببت في حالة (تكسيح) فعلية مزمنة، فالعراق الذي ورغم نجاح الإنتخابات الأخيرة مازال يعيش أوضاع وتداعيات سقوط النظام البائد، وقد فقد الحيوية السياسية وباتت مسألة قيام نظام جديد ومستقرتعتمد على اللجوء لخيارات صعبة لربما أخطرها (الحرب الأهلية) التي لن تحسم مواقفا ضبابية باتت شائعة في عراق اليوم الذي بات يخضع حقيقة وليس إدعاءا لحالة تشظي طائفية مؤسفة عبر بروز الدور الإيراني الكواليسي في المساومات الطائفية!، والعمليات التخريبية المستمرة وبوتائر عالية والعودة لسياسة تصعيد الإختطافات ضد الصحفيين الأجانب وضد العاملين في قطاعات البنية التحتية والإتصالات، مع تصعيد عمليات الإغتيال الشاملة ضد الوطنيين والمناضلين العراقيين كما حصل في إغتيال ولدي المناضل الوطني العراقي إمتثال الآلوسي أو ضد عناصر الشرطة العراقية والجيش والحرس الوطني، وهي كلها أمور عرقلت وتعرقل فرصة بناء ونمو دولة عراقية جديدة وبديلة بعد أن فشلت الدولة القديمة فشلا كارثيا، فتشكيلات النظام الجديد العسكرية والإدارية تواجه حرب إبادة واضحة من عناصر وتيارات لم تعد مجهولة، ولكن المشكل أنها اقوى تسليحا وأكثر تنظيما وأخف حركة، وأكثر إنسيابية ومرونة من عناصر الجيش الجديد الذي تتحرك عناصره بدون حماية ولا أسلحة كافية! وقد فقد المئات من الشباب المجند حديثا حياتهم وبثمن بخس عبر الإعدامات الجماعية التي تقوم بها الفرق الإستخبارية السرية للنظام البائد والجماعات الأصولية المتوحشة المتحالفة معها!، ورغم أن مصادر الهجمات معروفة ومشخصة جيدا إلا أن الأدارة العراقية المؤقتة تقف عاجزة عن تدارك الموقف أو عن الوصول لأية إحتمالات قريبة بإيقاف أو تحجيم تلكم العمليات التخريبية الخطيرة التي تجري على الأرض وتنطلق أساسا من قواعدها في غرب العراق ومن القرى والقصبات والمدن المعروفة وبتسهيلات وإمدادات لوجستية من النظام السوري الذي يدعي براءته وعدم معرفته بما يجري؟ وهو إدعاء فارغ من أي أساس!! لأن قوة النظام السوري الأساسية وهو يواجه اليوم إمتحانه ومأزقه الكبير في لبنان تكمن في أجهزة مخابراته وليس في مؤسسته العسكرية المنهارة والتعبانة، وفروع المخابرات السورية التي تحصي أنفاس الناس ليست بعاجزة عن معرفة مايدور من نقل للأسلحة والأموال وجوازات السفر والسيارات المفخخة، وهي لعبة قديمة سبق للنظام السوري أن لعبها ضمن إطار صراعاته السابقة مع النظام العراقي البائد، وهنا يجب أن لاننسى أن هنالك فرع آخر للبعث العراقي يقيم في دمشق ويتحرك برعاية النظام السوري وبتنسيق تام مع أجهزة مخابراته، وعناصر ذلك التنظيم البعثي سواءا في قيادة قطر العراق أم في القيادة القومية السورية ينحدرون من نفس قرى وقصبات الإرهاب والطائفية في غرب العراق أي من (راوة) و (هيت) و (بيجي) و (حديثة) و (عانة).. وهي القرى الحاكمة سابقا..!.

ثم أن حزب البعث عبر فرعه الدمشقي السائر في طريق الإضمحلال أمام معركة مصير وحياة، فصحيح أنه قد كانت هنالك خلافات حادة سابقة بين فرعي البعث اللدود في سوريا والعراق إلا أن ذكرياتها اليوم قد تلاشت بالكامل لأن أصل النزاع الطويل لم يكن فكريا ولا آيديولوجيا، بل شخصيا، فالبعث لايحمل أي فكر فلسفي أو موقف عقائدي حقيقي ومحترم وأفكاره العامة لاتصلح سوى مادة للإنشاء لطلاب الدراسة الإبتدائية، ومن يقرأ مؤلفات نبي البعث وفيلسوفه النافق ميشيل عفلق يشعر بحجم التفاهة والسطحية واللغة الهلامية الرثة المرتبكة، وهي أفكار خليط من الماركسية والقومية الشوفينية مع إتجاهات دينية برزت في المرحلة الأخيرة من حياة الحزب، فكتيبات عفلق مثل: (في سبيل البعث) و (معركة المصير الواحد) و (في ذكرى الرسول العربي)!! محشوة ومعبئة بكلمات مبهمة وأفكار تافهة لامعنى لها؟، وعفلق نفسه ظهر للملأ العربي في محاضر مباحثات الوحدة الثلاثية (مصر والعراق وسوريا) في إبريل 1963 والتي نشرها المصريون شخصا عاجزا عن التعبير الصحيح، مفكك الكلمات، مضطرب الأفكار، لايكاد يكمل جملة واحدة وكان (مابيجمعش)!، وقد إعتبر البعثيون التصرف المصري بنشر نصوص المباحثات بمثابة ظاهرة عدوانية هدفها الإساءة للبعثيين!! وطبعا لم تتشكل لاوحدة ثلاثية ولاثنائية ولاحتى وحدة الحزب نفسه!!، فالوحدة عند البعثيين مجرد شعار مرفوع يخفي وراء بريقه مطامع أهداف تقسيمية للعالم العربي!، وقد برز مفكر بعثي آخر هو (الياس فرح) الذي كانت أفكاره السقيمة دروس ومقررات في الجامعات العراقية في مادة (التربية القومية والإشتراكية)! وكان من الأجدى لو سميت ب(الهلوسة القومية والإشتراكية)!، أما السوريون فبتخلصهم من (قيادة البعث التاريخية) عام 1966، فقد تخلصوا من الهلوسات والتفاهات الفكرية ولكنهم إنتقلوا لصراع الضباط ثم لتنصيب الدكتاتور الإله الذي تقام له النصب والتماثيل وتحمل الجماهير سيارته الكاديلاك الأميركية على الأكتاف في دولة النهب والشفط البعثية!.

البعثيون العراقيون وبعد أن إنفرد صدام بالسلطة و (طهر) الحزب ممن يخاف منهم ويحسب لهم حسابا وأهمهم مسؤوله الحزبي السابق وأحد الذين يعرفونه جيدا والذي كان ساذجا ينتظر إنعقاد المؤتمر القطري للحزب لكي يبعد صدام من خلال (الشرعية الحزبية)!! وهو عبد الخالق السامرائي وحيث دبر له صدام مكيدة الإتفاق مع محاولة (ناظم كزار) مدير الأمن العام الإنقلابية وسجن إنفراديا عام 1973 ولم ينسه صدام بل أعدمه عام 1979 بتهمة التخطيط لمحاولة إنقلابية أخرى مدعومة من السوريين! رغم أنه في سجن مخابرات إنفرادي!! ولايوجد عاقل واحد يصدق تلك الرواية!! ولكنها دولة البعث الخسيسة التي لاقيمة فيها للحياة البشرية، لقد كانت حملة تطهيرية دموية على النمط الستاليني المرعب، وتحول حزب البعث بعدها وبوضوح تام من عصابة للفاشيين إلى دكان عشائري وطائفي متعفن إنفردت بقيادته مجموعة من سقط متاع عشيرة صدام من المتخلفين والأميين والتافهين بينما كان الإعلام العراقي يردد وقتها إنشودة حماسية تقول:

تسلم... تسلم... ياريسنا وياقايدنا... تسلم... تسلم... كل ماحزبك يسلم... تبقى الثورة وتسلم!!.

ثم أعقبها الشاعر والوزير السابق المرعوب من الغضب الصدامي شفيق الكمالي بمعلقاته التي تشيد بصدام وتؤلهه وكما قال:

هو القدر الواحدالأوحد
هو البعث والبعث لاينضب

هو المبتدى ماله منتهى
شموس من الشرق لاتغرب

وكيف وفيها كماة الرجال
أبوهم أبو وأخوهم أخو

وكيف وصدام مقدامها
وصدام صدام إذ يندب

هو الزورق المنتقى للفرات
وتحتار أيهما الأعذب؟

ثم قال الكمالي قصيدته الشهيرة التجديفية وحيث يقول:

تبارك وجهك الوضاء فينا
كوجه الله ينضح بالجلال؟؟

وبرغم كل هذا القريض من النفاق فقد إستأصل صدام رأس الشاعر ، فكانت دولة البعث الخسيسة لاتحترم حتى شعراؤها ولاتقيم وزنا لأحد، وكان صدام قد إعتقل أيضا أحد القياديين القوميين البعثيين وهو د. منيف الرزاز الأردني الجنسية ورفض صدام وساطة الملك حسين لإطلاق سراحه، ليموت في سجنه فيما بعد؟ فأي دولة تلك وأي حزب ذاك؟. وقام صدام بتأليه عفلق وأقام له النصب والتماثيل وبكى في جنازنه لما مات عام 1989، وشيد له ضريحا ضخما يليق بالأئمة والقديسين لأنه مدح صدام نفاقا بقوله:{ صدام هدية الحزب للعراق، وهدية العراق للأمة العربية }!!، فيالبؤس الحزب.. ويالبؤس الهدية؟. فقامت دولة (المماليك) البعثيين الخسيسة لتدمر العراق، وتكسح الأمة... وتحاول اليوم عن طريق تفعيل بقايا عصابات الإغتيال والجريمة تخريب المسيرة العراقية نحو الحرية و لتنتهي اليوم ملعونة في صفحات التاريخ الحافلة بكل ماهو مثير وعجيب... وتلك عاقبة المجرمين.

[email protected]