استقبل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ في ديوانه العامر، يوم الأحد 16/7/1426هـ، عددا من المسؤولات عن التعليم في المملكة. وحضر اللقاء صاحبُ السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز ولي العهد، ومعالي وزير التربية والتعليم، وعدد من المسؤولين. وعرض التلفاز السعودي ذلك الاستقبال في نشرته الإخبارية الرئيسة لذلك اليوم واستمع المشاهدون إلى سمو الأميرة الدكتورة الجوهرة بنت فهد آل سعود وهي تتحدث حديث الواثق أمام خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد وتلك الصفوة من المسؤولين.
ولا شك أن استقبال خادم الحرمين الشريفين لأولئك المواطنات لم يكن الأول من نوعه؛ إلا أن السماح بعرضه في نشرة الأخبار الرئيسة يمثل حدثا جديدا بكل المقاييس. وتزيد أهمية هذا الحدث باقترانه بتشديد خادم الحرمين الشريفين على أن تكون تصرفاتنا محكومة بما تقتضيه تعاليم الإسلام.
ولفت هذا الحدث انتباه كثير من المشاهدين؛ إذ شاهدوا لأول مرة منذ سنين جلوس جملة من النساء وجملة من الرجال في مكان واحد من غير أن يحجز بينهم فاصل. وهذا لم يكن معهودا، ولم يكن يسمح بمثله في الاجتماعات الرسمية أو غير الرسمية. إذ صار مفهوم "الاختلاط" خلال السنوات القليلة الماضية يعني منع أي وجود للرجال والنساء في مكان واحد مهما كانت الظروف.
ومن أمثلة سيطرة هذا الفهم لمصطلح "الاختلاط" ما حدث في بعض ندوات الحوار الوطني. فقد أثير موضوع وجود المشاركات في قاعة منفصلة عن القاعة التي يجتمع فيها الرجال في أول يوم في ندوة الحوار الوطني الثانية التي عقدت في مكة المكرمة ـ ذي القعدة 1423هـ. وكان رأي عدد من المشاركين أن تجلس المشاركات في القاعة نفسها التي يجلس فيها المشاركون، لكن عددا آخر اعترض على هذا الاقتراح بقوة انطلاقا من المفهوم السائد لهذا المصطلح، وهو ما جعل أولئك الزميلات يخاطبن المشاركين الرجال عبر وسائل بديلة.
وقد حدث أن جلس عدد من المشاركات مع بعض المشاركين في بهو الفندق في مساء أحد أيام ذلك اللقاء. وكان ذلك مثار اعتراض شديد من بعض المشاركين في الحوار ونتجت عنه ملاسنة حادة بين واحد منهم وإحدى المشاركات.
وحدث الأمر نفسه في الندوة الثالثة للحوار الوطني التي عقدت في المدينة المنورة وكان موضوعها المرأة. فقد طالب بعض المشاركين والمشاركات أن يجلس الرجال والنساء في قاعة واحدة. وأثار ذلك جدلا عريضا بسبب اعتراض بعض المشاركين، وكان سببا في كثير من الاتهامات غير المعقولة التي جوبه بها أصحاب الاقتراح.
وليس الاعتراض على مثل هذا "الاختلاط" مقصورا على ندوات الحوار الوطني؛ إذ أسبغ التشدد الديني المعهود لدينا على مفهوم "الاختلاط" لونا مختلفا جدا جعله يؤثر في مناحي حياتنا كلها: في مساجدنا وفي تصرفاتنا وفي بناء بيوتنا. وصار الاحتجاج به يغير ما كان منها مألوفا منذ سنوات.
فيعرف الجميع أنه لم تكن توجد سواتر بين النساء والرجال في المسجد النبوي الشريف قبل عشرين سنة تقريبا. وكانت النساء يدخلن من أبواب مخصصة لهن ويصلين في مكان مخصص لهن، لكنهن لم يكن معزولات عن المصلين. وكن يصلين في الجزء الخلفي من الروضة الشريفة كل يوم في بعض الأوقات من غير أن يعزلهن عن الرجال ساتر مادي مثل هذه الأيام، بل تجاوزت هذه السواتر داخل المسجد النبوي الشريف إلى الساحات المحيطة به وصارت تعيق الحركة فيها.
وكان مدير جامعة الملك سعود والمسؤولون القياديون ورؤساء الأقسام فيها، مثلا، يجتمعون في مكان واحد، كما ذكرت في مقال سابق، مع عضوات هيئة التدريس والمسؤولات في الأقسام النسائية، وكان أعضاء هيئة التدريس يدرِّسون طالبات الدراسات العليا مباشرة في غرف مفتوحة وفي مبنى مأهول بالرجال والنساء. لكن هذا كله تغير الآن!
وأثر هذا المفهوم في بنائنا لبيوتنا: فلبيوتنا الآن مدخلان: واحد للرجال وآخر للنساء، وهناك مجلس للرجال ومجلس للنساء. وتستهلك هذه "الإبداعات" جزءا كبيرا من مساحة البيت؛ وهي تزيد من كلفة البناء والتأثيث والنظافة والتكييف والصيانة، وأدت إلى زيادة المساحة اللازمة لمساكننا، مع أن هذه المساحات الزائدة لا تستخدم إلا في أوقات محدودة طوال العام.
وأدى هذا المفهوم المتشدد "للاختلاط" إلى عزلة احتماعية حادة: ذلك أن الرجال يدخلون بيوت أقاربهم وأصدقائهم لكنهم لا يرون من أهلها إلا الرجال، ولا يرون من تلك البيوت إلا المجلس وغرفة الطعام الخاصة بالرجال. ويسري هذا حتى على أقرب الأقارب: فلا يستطيع الرجل وزوجه استقبال أخيه وزوج أخيه في المساحات الداخلية للبيت. إذ يجب أن يشغل الضيف وأخوه وحدهما مجلس الرجال المتسع الأرجاء، وأن يأكلا وحدهما في غرفة تتسع لعدد كبير من الناس.
ومن المعلوم أن هذا العزل يترك آثارا أخرى على التواصل الاجتماعي: فمن ذلك أن كثيرا من الرجال لا يرافق زوجه في زيارتها لأقاربها لأن الرجل يعرف أنه سيكون حبيس مجلس الرجال مع مضيفه، أو مضيفيه القلائل، وهو ما يجلب الملل دائما، ذلك أنه سرعان ما تنضب القرائح، في مثل هذا الوضع غير الطبيعي، وتجف منابع الحديث المشترك.
وكان هذا المفهوم المتشدد "للاختلاط" السببَ في إحاطة مساكننا بتلك الأسوار العالية التي تحجب البيت وأهله. وهناك من لا يطمئن إلى تلك الأسوار العالية فيزيدها بساتر من نوع آخر يصل أحيانا إلى مثل ارتفاع السور الأسمنتي! والغريب في الأمر أنه لا يقصد من هذه الأسوار أن تحجب البيت وساكنيه عن أعين المارة، أو عن السيارات العابرة، أو عن المسافرين بالطائرات! بل الغرض الأساس منها أن تكون للاحتجاب عن الجيران! فيكاد يكون انطباعا عاما عند الناس أنه لا همَّ للجيران إلا التلصص على جيرانهم وتصيد الفرص لرؤية نسائهم.
لهذا لا يمكن أن تعد هذه مساكن طبيعية؛ بل هي قلاع يتحصن فيها الخائفون من جيرانهم، أو كهوف يتخفى الإنسان في داخلها بعيدا عن أعين الذئاب التي يتوقع الشر منها ولا يأمنها.
ومن الأمثلة على تأثير هذا الفهم المتشدد للاختلاط ما نراه من عزل للنساء في أماكن خاصة بهن في الأماكن العامة، كالنوادي الأدبية، مثلا، فهناك قاعة للرجال وقاعة للنساء (وتسمى قاعة النساء في نادي أبها الأدبي بقاعة "الخنساء". وربما كان ذلك تيمنا باسم الشاعرة العربية المعروفة؛ لكنه ربما يكون نابعا من العقل الباطن الذي يريد للنساء أن "يخنسن" عن الأنظار، أي يختفين عنها!! وقد لاقى النادي كثيرا من العنت بسبب تخصيصه تلك القاعة للنساء).
ويسري هذا العزل على كل مكان: فتضم قصور الأفراح قاعتين إحداهما للرجال وأخرى للنساء. وهذا ما يؤدي إلى زيادة كلفة حفلات الزواج، وحرمان الأزواج والزوجات من الفرح معا في مناسبات أخذت اسمها من "الفرح"، وهذا ما جعل حفلات الرجال أشبه بالمآتم!
وكذلك في المرافق العامة كالحدائق وبعض المتنزهات وأماكن الترويح المخصصة للأطفال، فهي موزعة الأيام بين الرجال والنساء. وهذا ما يؤدي إلى انفصال أفراد الأسرة بعضا عن بعض وعدم مشاركة بعض لبعض في الترويح عن النفس والتشارك في المسؤولية عن الأطفال في هذه الأماكن. وحاول بعض أصحاب رؤوس الأموال إنشاء أسواق خاصة بالنساء انطلاقا من هذا المفهوم السائد للاختلاط.
لهذا كله فإن استقبال خادم الحرمين الشريفين لهؤلاء المواطنات السعوديات وجلوسه إليهن في مجلس عام والسماح بتصوير هذا الاستقبال وعرضه على المواطنين يمثل مفصلا تاريخيا في فهمنا لـ"الاختلاط". فلن يعني "الاختلاط" بعد هذا الاستقبال التاريخي ألا يجلس النساء والرجال في مكان مفتوح معا.
وهذا ما يجعل هذه اللحظة نقطة تاريخية لتحول فهم الناس لهذا المصطلح. ذلك أنه لا يمكن لخادم الحرمين الشريفين أن يخالف أمرا معلوما من الدين بالضرورة، وهي دليل على أن الممارسات السائدة التي تتمثل في الفصل التام بين الرجال والنساء حتى في مثل هذه المحافل ليست إلا نتيجة لعادات اجتماعية رسخ في أذهان الناس خطأ أنها تنبع من مبادئ الإسلام.
ومما يدل على محلية مفهوم "الاختلاط" أن بحثا سريعا في موقع "الوراق" الالكتروني يبين أن لفظ "الاختلاط" ورد 595 مرة في 144 مصدرا من المصادر الفقهية واللغوية والتاريخية، ولم يرد مرة واحدة بمعنى "الاختلاط بين الرجال والنساء". ويدل هذا على أن المعنى السائد لهذا اللفظ إنما هو اجتهاد اجتماعي محلي لا ينتمي إلى التراث الفقهي. وهو ما يشكك في الحجية الفقهية للفهم السائد لهذا المصطلح.
وما دام أن مفهوم "الاختلاط" السائد مفهوم محلي فهو لا يزيد عن كونه عادة يمكن تغييرها. ولا يحتاج تغيير العادات إلا إلى الشجاعة في اتخاذ المبادرة. وسيكتشف الناس بعد فترة انتقالية وجيزة أن هجر الممارسات القديمة ربما يكون تخفيفا عنهم من قيود فرضوها على أنفسهم ثم استمرأوها بمرور الزمن، وأن تخليهم عنها ربما يجعل حياتهم أسهل
وأكثر إثراء.