لا أدافع هنا عن العلمانية، لأنني أعتقد اعتقادا جازماً بأن العلمانية Secularism على اعتبار أنها (فصل الدين عن السياسة)، مصطلح (وفد) إلينا من الخارج، وله دلالات فكرية، وحمولات تاريخية، تجعلُ من تطبيقه على غير المجتمعات (المسيحية) أمراً لا بد من التوقف عنده، والتعامل معه بحذر.
ولأن ثقافتنا اليوم ثقافة تابعة، وليست متبوعة، انجر كثيرٌ من مفكرينا إلى ثقافة الآخر، وراحوا يخلطون (عباس على دباس)، ويقيسون مفاهيم غربية محضة، ذات دلالات فكرية مختلفة، بموازين إسلامية، دون أن يعوا الفروق الجذرية بين هذه المفاهيم ومفاهيمنا من حيث منطلقاتها التاريخية والظروف البيئية التي أدت إلى ظهورها، فأوقعهم هذا الخلط لإشاعة ثقافة (رفض)، أو قل ثقافة (مرتبكة)، لا تمت للموضوعية، ناهيك عن الواقع بأية صلة.
والذي دعاني إلى كتابة هذا المقال أنني قرأت في جريدة (الوطن) السعودية عن الدعوى القضائية التي تقدم بها أحد المرشحين في الانتخابات البلدية، ممن خسروا المنافسة، ضد أحد الفائزين، لأنه كان قد صرح لإحدى وكالات الأنباء العالمية واصفا المرشحين المعارضين (بالعلمانيين) بعد أن احتجوا على طريقة الانتخابات. كما جاء في الخبر حسب جريدة الوطن.
بدءاً يجب أن نعي أن (العلمانية) كما هي في الغرب، لا علاقة لها بالإسلام، ولا علاقة للإسلام بها. والسبب يبدأ أولاً من قراءة واستيعاب تاريخ وأسباب وبواعث (العلمانية) التي أدت إلى نشوئها في تلك المجتمعات (الكنسية)، والتي جعلتها فيما بعد تصبح بمثابة القاعدة الأساسية لعصور التنوير التي أسست للحضارة هناك.
أول ما يجب علينا إدراكه هو أن مفهوم (الدين) في الثقافة الكنسية، يختلف عن مفهوم (الدين) عند المسلمين، وهو فرق في المدلول (اللغوي) العربي الذي تستمد الثقافة الإسلامية دلالاتها منه.
(فالدين) في المجتمعات المسيحية، يعني حصراً (علاقة الإنسان) بربه، ولا يمتد لأكثر من ذلك. وهذا ما يشير إليه القول المنسوب لعيسى عليه السلام : (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله). بينما أن (الدين) في التصور الإسلامي، وفي المنظومة اللغوية العربية، مصطلح مشتق من حيث الجذر اللغوي من (الحكم). يقول ابن منظور في لسان العرب في تعريف (الدين) ما نصه : (والديان : الله عز وجل. وقيل : (الحاكم) والقاضي. وهو فعّال من دان الناس، أي قهرهم على الطاعة... وفي حديث أبي طالب: قالَ له عليه السلام : أريد من قريش كلمة (تدين) لهم بها العرب، أي تطيعهم وتخضع لهم). انتهى. معنى ذلك أن نظرية (الحكم) في الإسلام هي جزء من التعريف الأوسع لمصطلح (الدين). أي أن (الدين) عند العرب، وبالتالي عند المسلمين، لا يتوقف عند علاقة الإنسان بربه، وإنما علاقة الإنسان بدنياه أيضاً.
الأمر الآخر، والمهم، والذي لا يمكن تجاوزه بحال، أن (العلمانية) في الغرب تفترض من حيث المنطلق وجود سلك (كهنوتي)، ذو تشكيل (مؤسساتي) يقوم بتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه، وهي مؤسسة (الكنيسة)؛ وهذا في تقديري بمثابة (شرط الضرورة) لإعمال الحل العلماني. وعندما ينتفي وجود مثل هذه المؤسسة أصلاً، لا يُمكن أن يكون للعلمانية أية قيمة.
والسؤال : هل الإسلام يسمح بمثل (مؤسسة) الكنيسة، حتى تكون (العلمانية) ضرورة حياتية كما كانت في الغرب زمن تسلط الكنيسة؟.
ليس في الإسلام (كهنوت)، ولا (فاتيكان)، على الأقل عند أهل السنة والجماعة، وهذه من (الثوابت) المتفق عليها فيما بينهم، الأمر الذي يجعلنا نحكم أن اختلاق (عدو) اسمه العلمانية، ومن ثم إسقاط هذه التهمة على كل من اختلفَ مع بعض (التفسيرات) الفقهية لهذا أو ذاك، حتى أقحمَ هذا (المصطلح) في الانتخابات البلدية، أمرٌ في غاية الخطورة... فقد أفهم لماذا وقف رجال الكنيسة ضد (العلمانية)، وذلك حماية لسلطتهم ومصالحهم، ولكنني لا أفهم البتة لماذا يصر بعض مثقفينا من ذوي التوجهات الإسلامية على إسباغ صفة (العلمانية) على كل من اختلفَ معهم !. معنى ذلك أنهم يُقرون بوجود مؤسسة كهنوتية في الإسلام، تمتلك حق تنظيم العلاقة بين الله و الإنسان، وهم بذلك يدافعون عن هذه المؤسسة.
والخطورة هنا تكمن في أننا إذا قبلنا بمفهوم (المؤسسة الدينية)، وقبلنا بمفهوم (رجال الدين)، وقبلنا بأن الإسلام (كمنهج حياة) يُمكن أن تطبقَ عليه المفاهيم (العلمانية)، لذلك يجبُ أن نرفضها، فسوف نصلُ حتماً إلى الطريق المسدود الذي وصلَ إليه الغربيون مع الكنيسة، ونختلق ـ دون أن نعي ـ للإسلام (كنيسة) جديدة، وربما (فاتيكان) جديد. ونحتاج عندئذ (للعلمانية)، للتعامل مع الحياة وتغيراتها بواقعية، وتلمساً للمصالح المرسلة.
وطالما أن الأصل لا كهنوت في الإسلام، وليس لأحد ـ مهما كان ـ احتكار تفسير الإسلام، واعتبار رأيه هو (الحقيقة) المطلقة، وأن (الاختلاف) حقٌ مشروع لكل المسلمين، فليس ثمة داعٍ يُذكر (للعلمانية) حسب هذه الثوابت و المنطلقات التي تؤكدها (كمبادئ) كتب الفقه عند المسلمين السنة على اختلاف أطيافها و توجهاتها. ليصبح مجرد إطلاق نسبة (علماني) على هذا أو ذاك في مجتمع مثل مجتمع المملكة، هو أمام هذه الحقائق التي استعرضتها فيما سبق، لا تعدو أن تكون (لعبة) سياسية بحتة، أراد منها صاحبها، أو قل : مختلقها، والمتذرع بها، تحقيق غايات سياسية لا أكثر. كما هو أمر عضو المجلس البلدي المنتخب الذي وصفَ بعض منافسيه بأنهم (علمانيون) ؛ فأقحم الإسلام فيما لا علاقة له به أصلاً. قد يكون للعلمانية مبرر ما عندما يكون مواطنو الدولة خليطاً من أديان مختلفة، أما في المملكة فالشعب بأكمله ينتمي إلى دين واحد هو الإسلام، والذي يرفض من الأساس وجود أي سلطة كهنوتية، فما العلاقة إذن بالعلمانية؟.
وفي تقديري أن رئيس المحكمة الجزئية في محافظة جدة فضيلة الشيخ عبدالله العثيم قد أحسن صنعاً عندما قبل النظر في هذه القضية، كما جاء في الوطن، لأننا في حاجة ماسة لتحرير مثل هذه المفاهيم من الشوائب العالقة بها، وبالذات عند السذج والبسطاء، بل وأنصاف
المتعلمين.