نشرت الصحافة العراقية خلال الأيام الماضية مقالات، وأفردت بعضها صفحات خاصة للحديث عن عراقي أسمه عثمان علي العبيدي. وناشدت صحيفة عراقية رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس الجمعية الوطنية بتكريم العبيدي، ومنحه "وسام الوحدة الوطنية". وكانت الحكومة قد خصصت مرتبا تقاعديا لعائلته. عثمان علي عراقي سني، من سكان منطقة الأعظمية.
كان عثمان حاضرا عندما وقعت فاجعة جسر الأئمة، وشاهد أجساد مواطنيه العراقيين الشيعة تطفو على سطح مياه دجلة. لم يفكر عثمان علي بهوية الذين يموتون أمام ناظريه، فألقى بجسده في مياه النهر لينقذ ما يستطيع إنقاذه، وبالفعل، أنقذ هذا الشاب ستة أشخاص، قبل أن تبتلعه مياه النهر ويتحول بدوره إلى جثة هامدة.
المفارقة، /ويالها من مفارقة بليغة المعاني والدروس/ إنه في نفس اللحظات التي كان خلالها العراقي السني، عثمان علي، يشهق شهقاته الأخيرة، كانت قنابل تتساقط على مدينة الكاظمية الشيعية، يطلقها معتوهون ينتمون لتنظيم أسمه "الطائفة المنصورة"، أي الطائفة السنية التي ينتمي لها علي عثمان.
قنابل ونيران المعتوهين، أطفأها عثمان بدمائه، وطريقة المعتوهين لنصرة الطائفة العراقية السنية، فندها عثمان علي، ورد عليها بطريقته الخاصة. كأن عثمان علي أراد أن يقول، وهو يلقي بنفسه في نهر دجلة، إن الطوائف في العراق، الشيعية والسنية، ليس أمامها غير طريق واحد، لكي تكون "منصورة" حقا: أن تضحي كل طائفة بنفسها لإنقاذ الطائفة الأخرى.
هذه هو الطريق الأوحد للتعايش المشترك.
وما فعله عثمان علي "وأي دلالة رمزية يحملها أسمه" ما كان حالة استثنائية. فقد تحولت بعض بيوت الأعظمية السنية إلى مستوصفات يعالج فيها المصابون الشيعة. ومن باب رد الجميل لأصحابة، عاد، في اليوم الثاني على المأساة، أفراد عائلات من مدينة الثورة الشيعية، من الذين أنقذ الأعظميون أبنائهم من الغرق، وهم يجرون بأيديهم، على الطريقة العراقية، خراف نحروها أمام بيوت مواطنيهم من أهالي الأعظمية، اعترافا بصنيعهم. وعندما سأل صحافي عراقي شابا سنيا من الأعظمية عن الأسباب التي دعته أن ينقذ الغرقى الشيعة، فأنه ظل يصرخ مستغربا وكأنه أصيب بهستريا: يا أخي نحن عراقيون. يا أخي نحن عراقيون. يا أخي نحن عراقيون. كيف تطرح علي سؤالا مثل هذا.
وما فعله سكان الأعظمية السنة إزاء مواطنيهم الشيعة، وجواب هولاء على تضحيات مواطنيهم السنة هو، انعكاس لخصوصية عراقية. هذه الخصوصية لم ولن يفهمها الزرقاوي والغرباء الذين وفدوا معه إلى بلاد الرافدين. لسبب واحد بسيط هو، أنهم غرباء على هذا البلد. وكان الزرقاوي واقعيا عندما تنبأ، في رسالته إلى بن لادن، ونشرتها الصحف العربية بتاريخ 12/2/2004 ، بأنه وجماعته يواجهون احتمالين لا ثالث لهما: أما إشعال حرب أهلية طائفية في العراق، أو "نحزم أمتعتنا ونرحل، قبل أن يسحلنا العراقيون في الشوارع".
الآن، مضى أكثر من عام على نشر رسالة الزرقاوي، فماذا حدث ؟
الذي حدث هو، أن الحرب الأهلية الطائفية في العراق لم تحدث. نعم، حدثت مجازر بشرية لا تخطر على بال العراقيين، لكن الحرب الأهلية لم تحدث.
فالحرب الأهلية تعني إنشطار المجتمع الواحد، وانقسامه على نفسه، فيتحول سكان البلد الواحد إلى "الأخوة الأعداء"، وتتمترس كل مجموعة داخل خندق، في مواجهة المجموعة المقابلة. والحرب الأهلية، في أي زمان ومكان، إنما تقوم على آلية مفادها أن كل طرف من أطراف الحرب يرى في الطرف الآخر عدوا له، تتوجب أبادته. وهذه الإبادة لا تقتصر على من يحمل السلاح، فحسب، وإنما تشمل القوى البشرية الاحتياطية، كالأطفال باعتبارهم احتياطي عسكري قادم، والنساء باعتبارهن "مفاقس" لتوليد مقاتلين جدد. وفي الحرب الأهلية لا توجد براءة، ولا يوجد حياد.فالقتل يتم وفقا لهوية الشخص، وليس وفقا لأفكاره أو نواياه. هذه هي الحرب الأهلية، كما عرفتها أميركا، وانكلترا وفرنسا، وأسبانيا والمكسيك والصين واليونان واليمن وسيراليون وأفغانستان وانغولا ولبنان والجزائر.
فهل ما يشهده العراق منذ سنتين هو، حرب أهلية، كما تقول مانشيتات بعض الصحف، وأقول بعض المعلقين ؟
الجواب، لا. فالذي يحدث في العراق هو، أن أقلية عراقية سياسية هي حزب البعث، تنفذ عمليات عسكرية ضد العراقيين، وليس ضد "عراقيين". وبموازاة أعمال هذه الأقلية الحزبية، يشهد العراق عمليات عسكرية مشابهة تنفذها أقلية أخرى، سياسية/دينية هي، تنظيم القاعدة.
ونحن نطلق صفة الأقلية، لأنه ليس بمقدور الجماعة البعثية أن تدعي تمثيل "جميع" البعثيين، ناهيك عن ادعائها تمثيل كل العراقيين. وليس بمقدور تنظيم الزرقاوي أن يدعي بأنه يمثل "جميع" العراقيين السنة، الذين يدعي التنظيم دفاعه عن مصالحهم. وإذا قارنا العدد الإجمالي لمقاتلي هذين التنظيمين، بالعدد الإجمالي لسكان العراق، فسنجد أن التنظيمين يمثلان نسبة تكاد لا تذكر.
وفي ما يخص خارطة العنف التي تتحرك ضمنها هاتان المجموعتان فهي، خارطة متنوعة دينيا ومذهبيا وسياسيا ومناطقيا. رصاص هاتين المجموعتين أوقع، حتى الآن، ضحايا ينتمون إلى الشيعة والسنة والعرب والأكراد والتركمان والمسلمين والمسيحيين والمتدينين وغير المتدينين والأصوليين والعلمانيين.
لكن، هل يعني هذا كله أن شبح الحرب الأهلية الطائفية في العراق أختفي نهائيا، وأن رهان الزرقاوي وصل إلى طريق مسدود ؟
بالطبع، لا. والدليل هو، أن الزرقاوي وأتباعه ما يزالون ينشطون وينفذون عملياتهم، أملا في تفجير الأوضاع ودفع الأمور إلى طريق اللاعودة. وعندما ينشط هولاء الغرباء داخل العراق، فلأنهم يجدون دعما لوجستيا عراقيا. إذ من المستحيل أن يواصلوا نشاطهم دون هذا الدعم. وهذا يعني، في نهاية المطاف، وجود عراقيين، وليس أجانب فقط، يسعون لإشعال حرب أهلية طائفية.
لكننا نعرف أن الحروب الأهلية لا تندلع بقرارت فوقانية، حتى لو كانت هذه القرارات صادرة من زعماء مرموقين داخل طوائفهم. الحرب الأهلية تبدأ عندما يقتنع سواد الناس من طائفة معينة، أو لنقل غالبيتهم المطلقة، بأن كل السبل سدت أمام مطالبهم، ولاقت أذان صماء من قبل السواد الأعظم من أبناء الطائفة الأخرى، وأن جميع فرص الحوار تلاشت.
وفي العراق ما تزال هناك فرص لم تستثمر حتى الآن، لتسوية الخلافات بين المكونات العراقية. بالإضافة لذلك، توفرت عناصر جديدة تصب باتجاه الحوار، وليس باتجاه القطيعة.
في ما يخص فرص الحوار، هناك المحادثات الجارية هذه اللحظات حول تعديل بعض فقرات مسودة الدستور، وجعل المسودة مقبولة من قبل الجميع. هناك، أيضا، الاستفتاء الذي يجري حول المسودة، إذا فشلت المحاولات الجارية. هناك، كذلك، الانتخابات البرلمانية، في حال لم يتم إقرار مسودة الدستور في الاستفتاء.
إما في ما يخص المستجدات الجديدة التي تصب باتجاه الحوار، فأن زعماء العراقيين السنة تخلوا عن مقاطعتهم للعملية السياسية، وأعلنوا أنهم سيخوضون الانتخابات القادمة، باعتبارها وسيلة سلمية لتحقيق ما يريدون، بدلا من رفض العملية السياسية برمتها.
ومن المستجدات الجديدة، أيضا، نشوب معارك بين عراقيين سنة من جهة، وبين جماعة الزرقاوي، من جهة أخرى، في قلب ما يسمى "المثلث السني". وأحد الأسباب التي أدت لتلك المواجهات هو، أن العراقيين السنة في محافظة الأنبار اعترضوا بقوة ضد محاولات جماعة الزرقاوي لأجلاء العراقيين الشيعة، بالقوة، من هذه المناطق. وسبق أن أدان أعضاء في هيئة علماء المسلمين النهج المدمر الذي تنهجه جماعة الزرقاوي، وقالوا أن هذه الجماعة تجهل الخصوصية العراقية، وإذا عرفتها فأنها تريد القفز فوقها، وضربوا مثلا على حالات الاشتباك والتداخل والتمازج الطائفي في العراق.
وحالات التداخل الطائفي هذه، أي الجغرافية الديمغرافية هي، أحد أهم العوامل التي تجعل العراقيين يفكرون ألف مرة قبل أن يدخلوا في صراعات مسلحة طائفية، لأن هذه الصراعات، أو الحرب الأهلية الطائفية ستكون، إذا نشبت انتحارا جماعيا حقيقيا.
فلو أخذنا المنطقة الغربية الممتدة من منطقة أبي غريب غرب العاصمة، وحتى الحدود السورية الأردنية، لوجدنا أنها مناطق مقفلة على السنة، ما خلا بعض "الجيوب" الشيعية في مدينتي بلد والدجيل.
ولو أخذنا المنطقتين الوسطى والجنوبية التي تبدأ حدودهما من المحمودية جنوب العاصمة وحتى الحدود الكويتية في أقصى الجنوب، فسنرى أنها مناطق مقفلة على الشيعة، ما خلا بعض "الجيوب" السنية في قضاء الزبير وأبي الخصيب. وفي جميع هذه الأماكن لا يمكن أن تحدث حرب أهلية، إذ ليس منطقيا أن تقاتل طائفة نفسها.
وفي المنطقة الكوردية في شمال العراق فأن غالبية سكانها من الكورد. ورغم أنهم من المذهب السني، إلا أن ما يشغلهم هذه الأيام هو الهم القومي. وبالتالي، ليس ثمة احتمال أن تنشب حرب أهلية طائفية.
ولو أخذنا العاصمة بغداد فأن التوزيع الديمغرافي الطائفي يبدو أكثر تعقيدا، لكنه أكثر مأساوية، في آن واحد. فالمعروف أن بغداد القديمة، بكرخها ورصافتها، تلاشت ولم تعد موجودة. وكانت بغداد القديمة قد تشكلت، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وتحديدا منذ عام 1831 ، وفقا للتوزيع العشائري، بعد أن نزحت إليها عشائر من مناطق مختلفة. فأنت تجد في بغداد القديمة أحياء سكنية تسمى بأسماء العشائر التي سكنتها مثل، البو شبل، بني سعيد، عزات، في الرصافة، وكذلك مناطق المشاهدة، التكارتة، الدوريين، السوامرة، والهيتاويين، في الكرخ. وما تزال هذه التسميات تطلق حتى الآن.
لكن بغداد القديمة تلك، الموزعة ديمغرافيا بطريقة هي أقرب إلى الغيتوات أو الكانتونات، غابت وظهرت بدلا عنها، خصوصا بعد أن بدأت الدولة العراقية تقوى منذ عشرينات القرن الماضي، بغداد حديثة، يعتمد توزيع السكان فيها على أساس "المواطنة" أو "المهنة"، أي على أساس مقومات المجتمع المدني.
فأنت تجد معظم الأحياء السكنية، وقد سميت بأسم مهنة ساكنيها مثل، حي المعلمين، الأطباء، المهندسين، التجار، القضاة...الخ.
أما بقية الأحياء السكنية فقد وزعت كقطع سكنية اشتراها كل من كان قادرا على دفع السعر. بالإضافة لهذه الأحياء، فأن هناك أحياء سكنية جاهزة وزعت من قبل الدولة، على صغار الموظفين العاملين فيها.
وفي جميع هذه الأحياء السكنية التي تتشكل منها بغداد بشكلها الحالي، فأن معيار "تواجد" السكان، ليس معيارا طائفيا أو عشائريا أو جهويا. المعيار هما المواطنة والمهنة. ولهذا فأننا نجد في الحي الواحد، بل في الزقاق الواحد، خليطا بشريا من الشيعة والسنة والعرب والكورد والمسيحيين والصابئة...الخ.
وقد ساهم الزمن، بمروره، ليس على صهر هذه المكونات العراقية وإذابتها داخل مكون واحد، وإنما ساهم في مساعدتها على التعايش المشترك، الذي عززته حالات من التزاوج المشترك، و"المسرات والأوجاع" المشتركة. وساعد العيش المشترك على خلق وتنمية روح وطنية عراقية، بالإمكان اعتبارها واحدة من المصدات الواقعية، المضادة للحرب الأهلية الطائفية.
وألا، فلنا أن نتصور أي دماء غزيرة ستسيل بين ساكنين شيعة وسنة، لا يفصل أحدهما عن الآخر سوى حائط. إن التفكير، مجرد التفكير بوقوع هذا السيناريو يخلع قلب الإنسان ويصيبه بالغثيان والرعب.
وهذا الواقع الجغرافي، بالإضافة إلى عوامل تاريخية وسياسية وثقافية واجتماعية وعشائرية، ساهمت كلها في صياغة ما نسميها الخصوصية العراقية. وهذه الخصوصية العراقية هي التي دفعت العراقي السني عثمان علي العبيدي أن يضحي بنفسه لإنقاذ مواطنيه الشيعة، ودفعت هولاء الأخيرين لنحر الذبائح اعترافا منهم بالصنيع وردا للمعروف.
ولهذا، نقول أن الحالة التي جسدها العراقي عثمان علي هي، ليست حالة معزولة أو منفردة، ولا هي حالة استثنائية. إنها حالة تستمد جذرها من إرث ثقافي عراقي مشترك. لكن ، تجار الحرب الطائفية، من كل حدب وصوب، يسعون لجعل هذه الحادثة هي الاستثناء وما عداها هو القاعدة.
فهل ينجحون في مسعاهم؟
التعليقات